أوريان 21: كم هي بعيدة ليبيا.. وكم هي قريبة!

ليبيا.. قصة مصورة إيطالية ترسم ملامح مأساة ما بعد القذافي

إيطاليا تعزز وجودها البحري بليبيا وحفتر يهدد
سفينة إيطالية قرب المياه الليبية (الجزيرة)

ليست ليبيا بالنسبة للإيطاليين مثل أي بلد آخر، فهي الجار والمستعمرة السابقة، وهي ملء السمع والبصر في نشرات الأخبار، إلا أنها مع ذلك تبدو بعيدة وغامضة ويصعب فهمها وكأنها لا تعنيهم، إلا أن قصة مصورة إيطالية نشرت مؤخرا مع تعليق باللغة الفرنسية استطاعت عرض المأساة التي عاشها هذا البلد منذ سقوط قائده السابق معمر القذافي.

بمثل هذه المقدمة، افتتح موقع "أوريان 21" (Orient XXI) الفرنسي عرضا لكتاب "ليبيا"، من تأليف فرانشيسكا مانوتشي وجيانلوكا كوستانتيني، حاول أن يتحدث عن ليبيا، لا كما تبدو في نشرات الأخبار بوصفها سلسلة من المعارك العسكرية، أو مفاوضات أقرب لمهزلة، أو أعدادا من المهاجرين الغرقى في الطريق إلى أوروبا، أو ذلك الملجأ الذي تأمل إيطاليا أن يحتجز فيه المهاجرون، أو جهات دولية وتحالفات في حرب أهلية لا يمكن توقع نهايتها.

فهذا الكتاب -كما يقول الموقع- يقدم تقارير عن مخيمات المهاجرين، وهو عمل صحفي يترجم في قصة مصورة الشهادات التي جمعتها فرانشيسكا مانوتشي في الميدان في فترة ما بين 2014 و2019، تدعمها رسومات جيانلوكا كوستانتيني وسيناريو دانييلي برولي.

ومع أن هذه المصورة نشرت منذ نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2020، فإنها تظل موضوعا حيا للغاية، أولا لحثها إيطاليا على الاهتمام بهذا الجار الذي يؤثر ما يحدث فيه عليها، وأيضا لأنه يساعد في فهم وتجاوز "الضباب الليبي"، كما يسمى في أحد فصول الكتاب.

ويلعب التاريخ والجغرافيا دورا مهما في هذه القصة التي لا تتعامل حصريا مع الأحداث الجارية، ولكن أيضا مع ماضي ليبيا وكذلك مع السياق الدولي، وتركز في المقام الأول على الناس.

رسومات ومعان

استطاع رسام الكاريكاتير الشهير كوستانتيني -الذي لم تطأ قط قدماه ليبيا- تأليف هذه اللوحة الكبيرة نتيجة التوثيق وإعادة بناء الرسوم، ولذلك جاء هذا الكتاب أكثر من "قصة"، فهو في الواقع مجموعة من اللقطات التي تشكل تدريجيا عناصر الأحجية، عبر صور من الماضي وصور من الحاضر، تقدم عبر الصفحات كمّا هائلا من التفاصيل وتروي قصة إنسانية متعددة الجوانب.

هذا العمل -كما يقول الموقع- يبدأ بقصة مذبحة سجن أبو سليم عام 1996 من خلال ذكريات أحد الناجين، عندما قُتل 1270 معتقلا معظمهم من السجناء السياسيين دون محاكمة في عهد القذافي انتقاما من تمرد اندلع داخل السجن، ويروي الكتاب قصة تدمي القلوب لعائلات ظلت ترسل لسنوات عدة الرسائل والأشياء إلى أحبائهم المتوفين دون علمهم.

وفي الفصل الثاني مباشرة، يتحدث الكتاب عن سجن الزاوية الأحدث بكثير، ويعرض مقابلة مع أحد المهاجرين المحتجزين هناك، لتكون صور الجثث في السجن الأول والثاني إضافة تسهل المقارنة بين الماضي والحاضر، وتشير إلى فكرة دولة اعتادت لمدة طويلة جدا على اللاإنسانية، حيث العنف الحالي وريث عنف الماضي، وحيث يمكن للضحايا أن يصبحوا جلادين لأنهم نشؤوا في القمع.

المليشيات في هذا البلد تسيطر بقوة السلاح على مفترقات الطرق الإستراتيجية وآبار النفط ومراكز احتجاز المهاجرين

المال مهدئا

من خلال قراءة ومشاهدة قصص المهاجرين وخفر السواحل والمتاجرين بالبشر ومدير مركز الاحتجاز والمواطنين المصطفين عند البنك، تظهر فكرة دولة تحكمها 3 كلمات مفتاحية: السلاح والمال والخوف، فالبلد تغطيه شبكة مافيا كثيفة ومسلحة، كما يقول الموقع.

المليشيات في هذا البلد -كما يشير الموقع- تسيطر بقوة السلاح على مفترقات الطرق الإستراتيجية وآبار النفط ومراكز احتجاز المهاجرين، وتبيع المهاجرين المسجونين للمهربين، وبالمال يشترون أسلحة جديدة ويؤججون الحرب، في حين يشتري المهربون من المليشيات الرجال لاستعمالهم عبيدا، أو لنقلهم إلى صقلية مقابل المال، أو لابتزاز عائلات في بلدانها الأصلية مقابل المال دائما، في حين تسيطر جهات أخرى على سيولة البنوك، وتعطي الأموال للمواطنين مقابل الرشاوى فقط.

ويقول مانوتشي وكوستانتيني في النهاية بوضوح شديد إن "الجميع في ليبيا متواطئون مثلنا تماما على الجانب الآخر من البحر، نحن الذين شرعنا المليشيات في طرابلس بدفعهم إلى الاتفاق مع حكومة السراج، وكنا على اتفاقات سابقا مع القذافي، ونتفق مع الحكومات التي جاءت بعده لإبقاء المهاجرين في ليبيا، في السجن أو موتى في البحر، بشرط ألا يصلوا إلى سواحلنا".

ويخصص الكتاب اللوحات الأخيرة لشخصيتين من الجيلين اللذين عايشا ثورة 2011، أولاهما لناشط شاب يدعى سالم، وهو يعمل من أجل حرية الصحافة، يلاحظ بمرارة مدى صعوبة التمرد على هذا النظام، نظرا لما آلت إليه الانتفاضة ضد القذافي.

أما الثانية فهي تيوا، امرأة وأم تنتظر عودة ابنها من الحرب، وهي تجسد الجيل الذي سبق الثورة مباشرة، وهي تقول "كنا نحني رؤوسنا دائما لأن الأمور تسير على ما يرام اقتصاديا، فالدولة وزعت عائدات النفط، بشرط أن يطيع الناس بالطبع".

ويخلص الموقع إلى أن من نشؤوا بين "الحياة المدعومة" للقذافي انتهى بهم الأمر بغرس الخضوع في نفوس أطفالهم، حتى إنهم ليجسدون القول المأثور بأن "الدكتاتورية لا تقتل بما تسلب، بل بما تعطي"، وبالتالي فالدرس في ليبيا أن المال يخدر، وربما بصفة مختلفة هذا ما يحدث في إيطاليا -دون سلاح- "حيث تجعلنا رفاهيتنا النسبية ننام وتجعلنا غير مهتمين".

المصدر : أوريان 21