ذخيرتها اللاجئون.. "حرب" بولندا وبيلاروسيا تستعر وأوروبا تتوعد مينسك بعقوبات جديدة
الحدود البولندية البيلاروسية- إذا كنت تعتقد أن كل حرب لا بد فيها من جنود وسلاح وعتاد وذخيرة… فربما يكون الوقت قد حان لتغير رأيك!
ما يحدث على الحدود بين بولندا وبيلاروسيا نموذج جديد لنوع حديث من الحروب ذخيرتها لاجئون خرجوا من بلدانهم بحثا عن فرص حياة أفضل، ليجدوا أنفسهم وقودا في معركة جيوستراتيجية لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
يحمل هذا النوع الحديث من الحروب اسم "الحروب الهجينة"، أو "الحروب المختلطة"، وفقا للتسمية التي أطلقها الاتحاد الأوروبي في توصيفه لهذه الأزمة، ويسميها باحثون حروب "المنطقة الرمادية"، وهي حروب تستعمل فيها كل الوسائل إلا الأسلحة، وإذا استعملت فمن دون تحمل المسؤولية عن ذلك!
أصل الأزمة
الأزمة بين الاتحاد الأوروبي وبيلاروسيا ليست جديدة، لكنها استعرت العام الماضي بعد إعادة انتخاب ألكسندر لوكاشينكو رئيسا للبلاد التي يقودها منذ عام 1994.
فالاتحاد الأوروبي لم يعترف بنتائج هذه الانتخابات بسبب ما شابها من تزوير وعنف ضد المعارضة وفقا للتأكيدات الأوربية، ومن ثم فرض الاتحاد عقوبات ضد بيلاروسيا توسعت بعد إقدام بيلاروسيا في 23 مايو/أيار 2021 على إنزال طائرة تابعة لشركة الخطوط الجوية "رايان أير" بالقوة بغية اعتقال الصحفي المعارض "رامان براتاسيفيتش" (Raman Pratassevitch) الذي كان على متن الرحلة.
وشملت الموجة الجديدة من العقوبات التي فرضت في يونيو/حزيران من هذا العام 8 مؤسسات و78 شخصية من بينهم الرئيس نفسه.
وقال الاتحاد الأوروبي وقتئذ إن 8 شخصيات ومؤسسة واحدة على علاقة مباشرة بما سمي بالقرصنة الجوية التي استهدفت طائرة "رايان أير".
الرد البيلاروسي
لم يقف الرئيس ألكسندر لوكاشينكو الحليف المقرب من موسكو مكتوف الأيدي، بل ضرب حيث يوجع! استعمل سلاح الهجرة!
ووفق الرواية الأوروبية التي تعضدها الوقائع على الأرض، فقد فتح لوكاشينكو باب منح التأشيرات لمواطني دول تعيش أوضاعا إنسانية صعبة من الشرق الأوسط ومن دول أفريقية.
وهكذا استقبلت بيلاروسيا آلافا من الراغبين في الوصول إلى أوروبا من سوريا والعراق واليمن ودول أفريقية، ولم يبق غير الدفع بهؤلاء إلى الحدود مع بولندا بوابة الاتحاد الأوروبي.
ليس هناك رقم دقيق لعدد طالبي اللجوء العالقين على الجانب البيلاروسي من الحدود، فهم يتوزعون على امتداد 400 كيلومتر تفصل بين بيلاروسيا وبولندا.
لكن معظم التقديرات تشير إلى أن عددهم يقارب 4 آلاف في مخيم واحد على الحدود مع بلدة كوزنيكا، ومن بين هؤلاء مرضى وأطفال ونساء.
وتتحدث منظمات دولية أن نحو 10 آلاف آخرين وصلوا إلى بيلاروسيا، لكنهم لم يصلوا بعد إلى الحدود.
أوضاع مأساوية
ويعيش هؤلاء اللاجئون أوضاعا مأساوية في طقس متجمد وفي غياب شبه كامل لكل مقومات الحياة، وهو ما أدى إلى توثيق 8 وفيات، في حين تحدثت مصادر إعلامية بولندية عن 10 وفيات ارتفعت يوم السبت إلى 11 بعد إعلان الشرطة العثور على جثة لاجئ سوري في الغابة.
هكذا وجدت بولندا نفسها ومن ورائها الاتحاد الأوربي في مواجهة أزمة لجوء جديدة وضعت الأوروبيين في حرج سياسي وأخلاقي.
حسابات السياسة
لم تتردد بولندا خطوة واحدة في مواجهة موجة اللجوء الجديدة؛ أغلقت حدودها مع بيلاروسيا، ونشرت 15 ألف جندي على امتداد حدودهما المشتركة التي تمتد على مسافة 400 كيلومتر.
وأعلنت أنها لن تسمح لأي طالب لجوء بعبور الحدود إليها.
في الوقت نفسه، اتهمت جارتها بيلاروسيا بتدبير هذه الأزمة لابتزاز الاتحاد الأوروبي، بل إن رئيس الوزراء البولندي اتهم بيلاروسيا بشنّ حرب ضد بلاده "ذخيرتها هم اللاجئون".
وفي مناسبة أخرى ذهب رئيس الوزراء البولندي إلى حد وصف ما تقوم به بيلاروسيا بأنه "إرهاب دولة".
ورغم الخلافات المتصاعدة بين الاتحاد الأوروبي وبولندا بشأن قضايا كثيرة آخرها يتعلق باستقلالية القضاء، فإن ذلك لم يمنع الاتحاد من أن يهبّ لإعلان دعم مطلق لبولندا.
ولا مفاجأة في ذلك، فحدودها هي نفسها حدود الاتحاد الأوروبي، وبولندا ليست مقصودة في هذه الأزمة لذاتها، بل لانتمائها الأوروبي، وهي وإن فتحت أبوابها لطالبي اللجوء فلن تكون سوى محطة عبور يحطون الرحال بعدها في ألمانيا أو بلدان أخرى أكثر رخاء.
هكذا جاء الموقف الأوروبي دائنا ومنذرا بعقوبات جديدة ضد ما وصفه متحدث باسم المفوضية بسلوك "الصعاليك"، في إشارة إلى استقدام اللاجئين إلى الحدود البولندية وفقا للاتهامات الأوروبية.
عقوبات جديدة؟
وبغية تأكيد إعلان هذا الدعم الأوروبي، زار رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال بولندا، ودعا إلى الوقوف صفا واحدا في مواجهة هذه الأزمة، وأكد أن عقوبات جديدة مطروحة على الطاولة ستناقشها دول الاتحاد يوم الاثنين المقبل.
وفضلا عن ذلك، عادت مسألة تمويل بناء سياج عازل لمنع عبور المهاجرين إلى طاولة النقاش، وهو الموقف الذي كانت ترفضه المفوضية الأوروبية وتطالب به دول مثل بولندا.
فقد قال شارل ميشال إن "من الممكن قانونيا" أن يموّل الاتحاد الأوروبي مثل هذه البنى التحتية.
وفي انتظار اجتماعه يوم الاثنين الذي من المتوقع أن يفرض فيه عقوبات جديدة على بيلاروسيا، نقل الاتحاد الأوروبي الأزمة إلى مجلس الأمن الدولي الذي عقد اجتماعا طارئا مغلقا بحث فيه هذه الأزمة بطلب من إستونيا وفرنسا وأيرلندا.
وقال المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك، الأربعاء الماضي خلال مؤتمره الصحفي اليومي، إن "هذه الأوضاع يجب ألا تستغل لغايات وألا تتحول إلى مصدر للتوتر بين الدول"، وإن الأمين العام للأمم المتحدة (أنطونيو غوتيريش) يجدد تأكيده على "أهمية معالجة قضايا الهجرة واللاجئين بما يتوافق مع المبادئ الإنسانية والقانون الدولي".
الاستقواء بروسيا
وترفض مينسك اتهامات الأوروبيين جملة وتفصيلا، وتحمل مسؤولية الهجرة للغرب بسبب تدخّلاته العسكرية في الشرق الأوسط على وصفها، لكن رئيسها هدد بالتصعيد في حال فرض مزيد من العقوبات.
وقد ذهب بعيدا في ذلك إذ لوّح بقطع إمدادات الغاز الروسي الذي يعبر تراب بيلاروسيا باتجاه أوروبا، ونشرت قوات عسكرية على الحدود.
وبدا واضحا أنه لا يستعجل حل هذه الأزمة، فقد أعلن في بيلاروسيا عن بدء بناء مخيم للاجئين على الحدود وهو ما يعني إطالة أمد هذه الأزمة واستعمالها ورقة في مواجهة الأوروبيين لأطول وقت ممكن.
وهو في ذلك يتمتع بدعم روسي كاف، لا يجعل من الأزمة مجرد أزمة ثنائية بين بيلاروسيا وبولندا بل أزمة متعددة الأقطاب تستعيد أجواء الحرب الباردة، رغم اختلاف الصورة وتغير الحدود حيث الاتحاد الأوروبي ومعه حلف الناتو في مواجهة روسيا وحلفائها.
روسيا.. جزء من الحل أم من المشكلة؟
في أروقة الدبلوماسية الأوروبية وفي حلف "الناتو" يدرك الجميع أن المعركة ليست مع بيلاروسيا وحدها، ولكن مع حليفتها روسيا.
بل إن رئيس الوزراء البولندي ذهب أبعد من ذلك ورأى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو العقل المدبر لهذه الأزمة، وأن بولندا مجرد ذراعه المنفذ.
ولا تخفي روسيا دعمها لمينسك في هذه الأزمة، فوزير خارجيتها سيرغي لافروف اتهم المؤسسات الغربية بشن "حملة مناهضة لبيلاروسيا"، وقال إن مينسك وموسكو "عززتا تعاونهما بشكل فعال لمواجهة" هذه الحملة.
لكن موسكو ترفض الاتهامات الغربية لها بكونها من نظمت حملة استقدام اللاجئين إلى الحدود الأوروبية.
وفي واقع الأمر، الدعم الروسي لبيلاروسيا تجاوز التصريحات، واتخذ بعدا عسكريا مع بدء تدريبات مشتركة لإنزال المظليين بالقرب من الحدود البولندية، وهي رسالة واضحة لا تحتاج إلى تفسير في اللغة العسكرية.
لكن الغرب يدرك أن أي حل للأزمة يمر بالضرورة عبر موسكو، لذلك ثمة رسائل توجهها العواصم إلى موسكو للتدخل.
فالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل دعت بوتين إلى "ممارسة نفوذه" لدى مينسك من أجل وضع حد لما عدّته استغلالا "غير إنساني" للمهاجرين، ومساعد وزير الخارجية الفرنسي ذهب في الاتجاه نفسه.
لكن الواضح أن موسكو لن تقدم هدايا مجانية للاتحاد الأوروبي، وهي تدرك أنها باستعمال ورقة اللاجئين تضرب الاتحاد الأوروبي حيث توجع!
والموقف الأوربي بشأن العقوبات التي قد تفرض على بيلاروسيا سيكون حاسما في مسلسل هذه الأزمة.