جريمة لا يمحوها الزمن.. 20 عاما على استشهاد محمد الدرة
رغم مرور عقدين من الزمن على إعدام إسرائيل الطفل الفلسطيني محمد الدرة في مدينة غزة فإن مشاهد الجريمة لا تمحى من ذاكرة عائلته.
ويصادف الـ30 من سبتمبر/أيلول الذكرى الـ20 لاستشهاد الطفل محمد جمال الدرة (11 عاما) الذي قتل برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي أمام مرأى ومسمع العالم أجمع.
وكان شريط فيديو صوّره مراسل قناة تلفزيونية فرنسية في 30 سبتمبر/أيلول 2000 قد صدم العالم بمشاهد إعدام حية للطفل الدرة الذي كان يحتمي إلى جوار أبيه ببرميل إسمنتي في شارع صلاح الدين جنوب مدينة غزة.
وقد وثق الشريط عملية إطلاق النار المقصودة باتجاه الطفل وأبيه، والتي انتهت بسقوط الطفل محمد قتيلا، فيما أصيب والده بجراح خطيرة.
ويعد الطفل "الدرة" أحد أهم رموز الانتفاضة الفلسطينية الثانية، حيث قتل بعد يومين على اندلاعها في 28 سبتمبر/أيلول 2000.
وقتلت إسرائيل خلال الانتفاضة الثانية -التي استمرت حتى بداية عام 2005- نحو 4400 فلسطيني، وجرحت نحو 50 ألف شخص.
وكان اقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون باحة المسجد الأقصى برفقة حراسه الشرارة التي أدت لاندلاع الانتفاضة.
الحكاية من البداية
ولد محمد في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1989 بمخيم البريج للاجئين الفلسطينيين وسط قطاع غزة، وتربى في أسرة ذات وضع اقتصادي جيد، وتعلم في مدرسة المخيم الابتدائية.
يقول والده جمال الدرة (56 عاما) لمراسل وكالة الأناضول -الذي التقى به في منزله بمخيم البريج وسط القطاع- "كان الشهيد محمد شجاعا وقويا وكريما، ولا يحب الظلم، ويحب الخير للناس".
ويضيف الدرة "محمد الذي كان يعشق السباحة وكرة القدم كان يطمح لأن يكون قائدا للدفاع عن قضيته، فهو شاهد على جرائم الاحتلال قبل استشهاده".
وفي 30 سبتمبر/أيلول 2000 توجه الأب جمال مصطحبا ابنه محمد لشراء سيارة كبيرة بدلا من أخرى صغيرة كان يمتلكها من سوق يعرف محليا بـ"سوق السيارات" في حي الزيتون جنوبي مدينة غزة.
لكن الحظ لم يحالفه، ولم يجد السيارة التي يرغب في شرائها، وقرر العودة إلى البيت مع ابنه.
وفي طريق العودة وجد جمال الدرة مظاهرات ومواجهات بين شبان وقوات الاحتلال الإسرائيلية.
وكان الطريق الرئيسي إلى منزل الدرة مغلقا بالكامل، مما دفعه وابنه ليسلكا طريقا ترابيا التفافيا.
وعندما وصلا إلى مفترق طرق على شارع صلاح الدين قرب مستوطنة "نتساريم" (تم تفكيكها ضمن خطة الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من القطاع عام 2005) فوجئ الأب وابنه بقوات جيش الاحتلال تطلق عليهما وابلا من النيران من كل اتجاه بشكل مفاجئ ودون سابق إنذار.
كثافة النيران الإسرائيلية دفعت الأب وابنه للاحتماء خلف برميل إسمنتي قريب، ورغم صراخ الأب المتواصل على الجنود ليوقفوا إطلاق النار فإن ذلك كان دون جدوى.
محاولات فاشلة
حاول جمال أن يحمي ابنه من الرصاص، لكنه لم ينجح، فأصيب بداية الحادث برصاصة في يده اليمنى، ثم أصيب الطفل بركبته اليمنى، قبل أن تقضي عليه رصاصات أصابت بطنه واخترقته.
ويقول جمال "محمد كان يسأل: لماذا يطلقون النار علينا؟ وأنا كنت ألوّح بيدي وأصرخ ليتوقف ذلك، لكن دون جدوى، الرصاص كان مثل المطر، ولم أستطع حماية طفلي".
بعد دقائق طويلة من إطلاق النار نظر الوالد إلى طفله محمد فوجده يسبح في بركة من الدماء ورأسه سقط على قدمه اليمين دون أي حركة، فأدرك أنه استشهد.
وحينها، أخذ الأب يصرخ -وقد أنهكت قواه- بعبارة باتت أيقونة لـ"بشاعة الجريمة الإسرائيلية"، قائلا "مات الولد، مات الولد".
لم يكتف جنود الجيش الإسرائيلي آنذاك بكل هذه المشاهد البشعة لجريمتهم، فأطلقوا صاروخا على جمال وابنه، لكنه اصطدم بالرصيف ولم يصبهما.
ويقول جمال "كان المشهد مؤلما ولكن ليس بجديد على الاحتلال، لما يرتكبه من مجازر بحق شعبنا الفلسطيني ولا يزال يرتكبها".
ويضيف "محمد كان الشاهد والشهيد على جرائم الاحتلال".
ويتابع "الاحتلال يرتكب المجازر والإرهاب، وهناك دول تقوم بالتطبيع معه، مما يدفعه لارتكاب المزيد من جرائم تجاه شعبنا"، في إشارة إلى تطبيع دولتي الإمارات والبحرين علاقاتهما مؤخرا مع إسرائيل.
ولم تتوقف جريمة إسرائيل عند قتل محمد الدرة، ففي الحرب على قطاع غزة عام 2008 قصفت طائرات الاحتلال منزل عائلته، كما جددت قصف المنزل في الحرب على القطاع عام 2014 دون سبب.
استرجاع الأحداث
آمال الدرة (54 عاما) -وهي والدة الشهيد محمد- تسترجع أحداث يوم استشهاد طفلها.
وتقول "كان ذلك اليوم في بدايته عاديا، أعددت طعام الفطور وتناولناه جميعا، وبعد ذلك خرج محمد، ليلهو مع أبناء الجيران أمام البيت".
وتضيف "بعد ساعات اصطحبه والده معه إلى سوق السيارات، شعرت بالاطمئنان تجاه ذلك، فحينها كنت أخشى أن يذهب إلى مظاهرات تخرج يوميا ضد الاحتلال في ذلك الوقت إبان الانتفاضة الثانية".
وقالت "بينما كنا نتابع أحداث المواجهات مع القوات الإسرائيلية على شاشات التلفزيون تفاجأت بمشهد إطلاق الرصاص على طفلي ووالده".
وتتابع "في البداية كنت متيقنة أن زوجي وطفلي هما من في المشهد، إلا أن عمتي التي كانت تزورني شككت في ذلك وصدقتها، ولكن سرعان ما وصلنا خبر استشهاد محمد وإصابة زوجي بالرصاص".
وتضيف آمال "شعرت بصدمة عند سماع الخبر، لقد شاهدت ابني يقتل على شاشات التلفزيون، لقد قتل مظلوما مقهورا بدم بارد".
تنصل من الجريمة
وبرأت إسرائيل نفسها من دم الطفل الفلسطيني من خلال قرار توصلت إليه اللجنة الحكومية الإسرائيلية في قضية التحقيق بمقتل الدرة، وذلك رغم تقرير القناة التلفزيونية الفرنسية الذي يدينها بالدليل.
وقالت اللجنة -التي تشكلت عام 2012 برئاسة وزير الدفاع الإسرائيلي موشي يعلون- "إنه وخلافا لما نشر حتى الآن من تقارير تتهم إسرائيل بمقتل الطفل محمد الدرة فليست هناك أدلة تظهر أن الدرة ووالده جمال أصيبا برصاص الجيش".
وبشأن التقرير الذي نشرته القناة الثانية الفرنسية الذي كان سببا في إنشاء اللجنة الإسرائيلية، فقد اعتبره التقرير الإسرائيلي "غير صحيح، إنما جاء لخلق انطباع أن الدرة قتل برصاص الجيش الإسرائيلي".
وأثار إعدام الجيش الإسرائيلي الطفل الدرة مشاعر الغضب لدى الفلسطينيين في كل مكان، مما دفعهم إلى الخروج في مظاهرات غاضبة، ووقوع مواجهات مع الجيش الإسرائيلي أسفرت عن مقتل وإصابة العشرات.