الفيلسوفة الحائرة.. إشكالية الفلسفة والسياسة عند حنة أرندت

عبد الرحمن مظهر الهلوش-القامشلي
تعد الفيلسوفة حنة أرندت (1906-1975) منظرة وناقدة لتاريخ الفلسفة السياسية، وواحدة من العلامات الفارقة في مسيرة الفلاسفة المعاصرين الذين انشغلوا بقضايا الحداثة السياسية.
ودرست أرندت علم اللاهوت في برلين، والفلسفة في جامعة ماربورغ، حيث تعرفت على فيلسوف الأنطولوجيا (علم الوجود) مارتن هيدغر، وتبادلت معه مشاعر ثقافية وعاطفية، وقد أصبح أستاذها وعشيقها، لكن مع اعتلاء الحزب النازي الحكم في ألمانيا عام 1933، ومساندة هيدغر له في بداياته، بدأ خلاف شخصي وفلسفي بينهما، لتتلمذ بعدها على يد الفيلسوف الألماني مؤسس مدرسة الظاهريات إدموند هوسرل، الذي أشرف عليها في أطروحتها الأكاديمية بعنوان "مفهوم الحب عند القديس أوغسطينوس".
المفكرة الصعبة
أملت الظروف التي مرت بها أرندت، أن تكون أحد أهم الوجوه الثقافية والفكرية في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وتبلورت تجربتها أيضا من خلال علاقتها بأستاذها الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر حيث جمعتهما الفلسفة وفرقتهما السياسة بعد مساندة الأخير للحزب النازي، مما شكل صدمة لأرندت.
يقول الباحث السوري خليل الخليل للجزيرة نت إن العلاقة بين الأستاذ وطالبته شكلت حدثا فارقا في حياتها، فالفيلسوف كثيرا ما يكون زاهدا يعيش في برجه العاجي الذي يتأمل منه العالم والأحداث.
|
وبعد سيطرة الحزب النازي على الحكم في ألمانيا، اضطرت أرندت إلى الهروب لفرنسا ومن ثم إلى أميركا، وبدأت في بناء مسارها الفكري التنظيري لتجاوز ما حصل، وكتبت بعد تجريدها من الجنسية الألمانية عن "الحق في التمتع بالحقوق" بعد اكتشافها أنها غير قادرة على التمتع بحقوق كان يُعتقد أنها نالت بإنسانيتها وليس جنسيتها، كما يفترض الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وبحسب كتاب المؤلفة مليكة بن دودة "الفلسفة السياسية عند حنة أرندت"، اعتبرت الأخيرة نفسها مفكرة حرة لا تنتمي إلى دائرة الفلسفة، متجاوزة بذلك تقاليد التفكير كلها، مثقفة قادمة من اللامكان، غجرية الفكر لا تقيم بالموضع عينه دائما وتأبى الألفة والمؤالفة.
من الفلسفة إلى السياسة
ويشرح الباحث خليل الخليل أن أرندت غيّرت المفاهيم النمطية في التاريخ الفلسفي، مما جعلها تخرج عن المألوف، وتدخل حيز التجديد الذي تحتاجه الفلسفة السياسية.
وأدركت أرندت أنه كثيرا ما تم النظر إلى الفلسفة باعتبارها ميتافيزيقا متعالية وبعيدة عن الواقع، في حين أنها كانت تريد من الفلسفة أن تكون حاضرة وقريبة من الواقع وأكثر إنسانية، وأن تسعى إلى تغيير فكرها المكبل بما جرى الاعتياد عليه، وتتفاعل مع الأحداث ولا تبتعد عن الناس، وقد جاءت صدمة وصول النازيين إلى الحكم في ألمانيا عام 1933 لتشكّل نقطة تحوّل مركزية في حياة أرندت دفعتها إلى الابتعاد عن الفلسفة بمفهومها النظري البحت، والتوجه إلى العمل السياسي بشكل عملي.
ويوضح الخليل بخصوص توجه أرندت إلى السياسة، إنها أرادت فلسفة معايشة للواقع وليست متعالية عليه، لذلك وجدتها آنذاك متجسدة في التنظير السياسي الذي كان في ذلك الوقت أقرب إلى قلبها وأوجاعها الوجودية من الفلسفة التي كانت -بحسب زعمها- مفارقة لأهم مكنونات الوجود الإنساني.
عادت أرندت لتناول الفلسفة والسياسة منذ العصر الروماني مرورا بالفلسفة اليونانية حتى فترة ما بعد سقوط النازية، حيث تعتقد أن السياسة في العصر الروماني أخذت مكانها الطبيعي ما دام الفرد كان قادرا على المشاركة في الحكم ويستطيع أن يمارس حريته بوصفها حالة طبيعية، ولكن مع الفلسفة اليونانية تغيّرت المعطيات حيث أصبحت الفلسفة موضوعا للسياسة، وبالتالي تكبّل الفكر وأصبح الفيلسوف تابعا للحكام.
واستفز أرندت وضع أفلاطون الفيلسوف مع طبقة الحكام في جمهوريته، إذ رأت أن الفيلسوف لا يمكن أن يكون حاكما، بل لا بد للحكام أن يستمعوا إلى الفلاسفة ويلتمسوا حكمتهم، وإذا أردنا الاعتراف بأن هناك فلسفة سياسية فلا بد أن تكون السياسة موضوع الفلسفة.
الفيلسوفة الحائرة
سارت أرندت على منهج أرسطو ومونتسكيو بالبحث عن مبادئ التوتاليتارية (الحكم الشمولي) لا عن تاريخها، قوة المنطق وازدراء الوهم هما ما دفعا أرندت للنظر بحذر إلى الواقع السياسي، حيث تعد فلسفتها في الكثير من جوانبها قراءة لما حدث في حياتها ولما أثّر في نفسها، وتجسيدا للطريقة التي خرجت فيها من ألمانيا بعد سيطرة الحزب النازي، والتي دفعتها بكل قوة لوضع الأنظمة الكليانية (الشمولية) على مشرحة النقد، متناولة بنيتها وركائزها الأساسية والآلية التي سارت وتعاملت فيها مع الشعوب.
|
واستكشفت أرندت أصول الشمولية من خلال تناول الحدثين البارزين، وهما صعود الحزب النازي والحزب البلشفي، وأوضحت أنها ليست فقط مجرد نظام حكم قائم على حب السلطة لبلوغ الإمبراطورية المنشودة، وإنما هي تصورٌ أباد ثوابتنا الأخلاقية التي هي في جوهرها تمثلٌ لوجودنا نحن البشر.
وشرحت أن هذه الحركات تستند للولاء المطلق من جماهير "الأغلبيات الغافلة"، وأشارت إلى استعداد الجماهير للتخلي عن الحقائق أو الهروب إلى الخيال في ظل هذه الأنظمة الشمولية.
وضمن هذا الإطار الإشكالي بين الفلسفة والسياسة، اتجهت أرندت لبناء نسقها السياسي بخطوات مدروسة، حيث تناولت الحرية في الإرث الفلسفي الذي كان يراها قدرة لدى الإنسان لممارسة حريته النابعة من ذاته فقط، وهذا العيب هو الذي انزلقت فيه الفلسفة، أما ما كانت تريده حنة فهو أن تربط السياسة بالحرية لأنها وحدها القادرة على جعل الإنسان أن يعيش حريته بشكل "عياني"، أي أن الفرد لا بد أن يمارس حريته بشكل ظاهر، يفعل ويمارس وينتقد، وليس كما افترضت الفلسفة اليونانية بأن الشخص يستطيع أن يمارس حريته بينه وبين نفسه.
وفي كتابها "ما السياسة؟"، تقول أرندت "يجب أن يكون الإنسان حرا بصفة مسبقة، وتكون لديه وجهة نظر مختلفة: فهو لا يمكن أن يكون عبدا متلقيا لإكراهات إنسان آخر، ولا عاملا يدويا مهما خاضعا لضرورة كسب خبزه اليومي".
وتأتي راهنية العودة إلى آرندت وفلسفتها من أن لفلسفتها دورا مهما في العمل على تجاوز الفكر السياسي الكلاسيكي، ومحاولتها تأسيس نظام سياسي عالمي جديد تسوده الحرية واحترام حقوق الإنسان.