الصناعات العسكرية التركية.. كيف تحوّلت أنقرة من دولة مرتهنة للاستيراد إلى قوة دولية صاعدة

تعلّمت تركيا الدرس باكرا منذ الحرب في قبرص عام 1974 من القرن الماضي، وأدركت من وقتها ألا دولة دون قوة عسكرية وصناعات دفاعية تحقق لها الاكتفاء الذاتي وتتجاوزه نحو التصدير.

وشهدت هذه القناعة التركية منعطفا مع الرئيس رجب طيب أردوغان الذي بدا ساعيا للاستفادة من القوى الدولية الرائدة رغم تناقضاتها، غير أن بعضا من تلك القوى لم يعد ينظر بعين الرضا لما حققته أنقرة ولطموحاتها في المجال العسكري، وتجلى ذلك في العقوبات الأخيرة التي فرضتها واشنطن على هيئة الصناعات الدفاعية التركية، وذلك بمبرر شراء أنقرة صواريخ "إس-400" (S-400) الروسية.

ووقعت العقوبات الجديدة التي فرضتها وزارة الخزانة الأميركية أساسا على هيئة الصناعات الدفاعية التركية ومسؤولين فيها، أولهم رئيسها إسماعيل ديمير الذي أكد أن العقوبات لن تزيده وزملاءه إلا إصرارا على تحقيق الاكتفاء الذاتي خصوصا في الأسلحة الإستراتيجية.

وبررت واشنطن العقوبات بأن منظومة "إس-400" التي اقتنتها أنقرة تعرض أمن التكنولوجيا والعسكريين الأميركيين للخطر، كما تشكل نقطة ضعف لأنظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهو ما نفاه المسؤولون الأتراك.

ويقلل مراقبون من مدى تأثر تركيا بالعقوبات الجديدة، مستدلين بأنها لم تستهدف وزارة الدفاع التركية، لأنها برأيهم ترتبط مع واشنطن باتفاقيات إستراتيجية وتعاون عسكري رفيع وتاريخي، ويرجّح محللون ومتابعون للشأن التركي أن دافع تلك العقوبات المحدودة هو انزعاج أميركا من تطور الصناعات الدفاعية التركية بشكل تعددت بصماته في عدد من دول المنطقة.

ساحات قتال

فقد ظهر التفوق الدفاعي التركي على مدى السنوات الأخيرة في الساحة السورية ضد مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية في الشمال السوري، وفي العام الأخير حين نجحت قوات حكومة الوفاق الليبية بدعم أنقرة من ترجيح كفة الميدان لصالحها في الغرب الليبي، على حساب قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر. وتُوجت الفاعلية العسكرية التركية في الأسابيع القليلة الماضية في حسم معارك إقليم ناغورني قره باغ لصالح أذربيجان ضد أرمينيا.

وكان حضور الطائرات التركية المسيرة طاغيا في كل تلك الساحات الحربية، بعد أن نمت صناعتها في العقد الأخير حتى غدت تركيا من أكبر أربع دول في العالم في مجال تصنيع الطائرات المسيرة، لدرجة أن وزير الدفاع البريطاني بن والاس أبدى خلال كلمة له في 11 ديسمبر/كانون الأول الحالي إعجابه بالطائرات المسيّرة التركية، ومدى فعاليتها على الأرض، ولا سيما طائرة "بيرقدار تي بي2" (BayraktarTB2)، مقرّا في الوقت نفسه بابتكار أنقرة في مجال الدفاع رغم التضييق عليها.

بداية المحاولات

وتعود بداية المحاولات التركية في الصناعات الدفاعية لعام 1965، مع بدء الخلاف بشأن القضية القبرصية وموقف حلفاء تركيا منها. فقد فرضت واشنطن على أنقرة حظرا لتصدير السلاح بين عامي 1975 و1978، وهو ما دفع أنقرة لوضع خطط لتطوير صناعتها العسكرية بوتيرة سريعة، وذلك بغرض القطيعة من الارتهان للاستيراد في تلبية حاجياتها العسكرية.

ففي أواسط ستينيات القرن الماضي، تم تأسيس جمعية خاصة بالصناعات البحرية، وفي عام 1970 أسست جمعية لتقوية القوات الجوية، وبعد حرب قبرص في العام 1974 جُمعت المؤسستان في فرع واحد.

وجاءت الخطوات الكبيرة بعد عام 1985 فيما يتصل بالتحول للصناعة العسكرية الدفاعية، والتي وفرت بداية ما نسبته 18% فقط من احتياجات الجيش التركي، بينما تبلغ هذه النسبة حاليا 70% ضمن مسار شمل كافة القطاعات. وفي عام 1988، تم تأسيس شركة تصنيع الصواريخ، وشركات عديدة أخرى، وباتت تركيا منذ عام 2000 دولة منتجة لمعظم أسلحتها.

قفزات متعددة

ومنذ عام 2002، حققت تركيا قفزات استعرضها الرئيس أردوغان بنفسه قبل أشهر، مشيرا إلى ارتفاع ميزانية الدفاع إلى 60 مليار دولار مقابل 5.5 مليارات فقط عام 2002، كما ارتفع عدد الشركات العاملة في الصناعات الدفاعية خلال الفترة نفسها من 56 إلى 1500 شركة، وأكدت وزيرة التجارة التركية روهصار بكجان أن الصناعات الدفاعية حققت عام 2019 صادرات قاربت 2.5 مليار دولار، مقابل نحو 250 مليون دولار فقط عام 2002.

قد ترجّح هذه الأرقام فرضية التبرم الأميركي والأوروبي من النمو العسكري التركي المتزايد، وإلا فإن في حلف شمال الأطلسي دول أخرى غير تركيا تقتني منظومة دفاع صاروخي روسية -كاليونان مثلا- دون أن تلقى رد الفعل الغاضب، أو توقع عليها عقوبات مماثلة.

وذكر تقرير لمعهد معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام صدر اليوم عن القوى الصاعدة في تجارة السلاح عالميا، أن تركيا واحدة من 4 دول تمتلك شركات عسكرية هي الأسرع نموا في إنتاج الأسلحة. ويضيف التقرير الذي يحمل عنوان "الموردون الصاعدون في تجارة السلاح العالمية"، أن تركيا انتقلت من المرتبة 29 عالميا في مجال تصدير الأسلحة في فترة 2000-2004، إلى المرتبة 19 في فترة 2010-2014، ثم أصبحت في المرتبة 13 عالميا في فترة 2015-2019.

قوة صاعدة

ويقول تقرير المعهد -المعروف اختصار باسم "سيبري" (SIPRI)- إن تركيا رغم كونها قوة صاعدة في مجال إنتاج وتصدير الأسلحة والمعدات المرتبطة بها، فإنها لا تزال مرتبطة بقوى عسكرية كبرى في الحصول على مكونات أساسية في الترسانة العسكرية ومن أبرزها المحركات. فمثلا ألمانيا توقفت عن إمداد تركيا بمحرك للدبابة التركية الصنع "ألتاي" (Altay)، وذلك عقب قيام أنقرة بعملية عسكرية في الشمال السوري قبل بضع سنوات.

ورغم ذلك، يضيف التقرير أن تركيا استطاعت زيادة المعدات العسكرية التي تصدّرها لعدد من الدول في شرق آسيا وأفريقيا، ولا سيما في مجال المركبات المدرعة الخفيفة، وسفن الدوريات الصغيرة.

وبحسب التقرير نفسه، فإن أنقرة استطاعت إنتاج مجموعة متنوعة من الترسانة العسكرية، منها المركبات المدرعة والفرقاطات ومختلف أنواع المدفعية، والذخائر ومجموعة من الصواريخ المتنوعة، وطائرات التدريب، والرادارات والمستشعرات، وأنظمة الحرب الإلكترونية، ومعدات الاتصالات.

غير أن الصناعات العسكرية التركية لا تزال تعتمد على الاستيراد في بعض ميادين التكنولوجيا الدفاعية، ومن ذلك محرك دبابة "ألتاي"، ومحرك الطائرة الحربية "تي إف-إكس" (TF-X). ومن المعوقات الأساسية التي تحول دون تحقيق تركيا الاستقلالية الكاملة في حاجياتها العسكرية -بحسب تقرير المعهد السويدي- هو عدم قدرة أنقرة على إنتاج أنظمة تسليح معقدة، مثل الطائرات الحربية والغواصات، دون مساعدة أجنبية.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية