كردستان العراق يغلي مثل المرجل.. ما أسباب الاحتجاجات؟

Kurdish demonstrators react to tear gas during a protest over unpaid salaries of the public servants by the Iraqi Kurdish regional government, in Sulaimaniyah
متظاهرون في السليمانية يحتمون من الغازات المدمعة (رويترز)

تسبب تأخر وانقطاع المرتبات في خروج مظاهرات في بلدات وقرى في السليمانية بإقليم كردستان العراق لأيام متتالية ضد السلطة وأحزابها الكبرى، لكن خبراء يقولون إن الأزمة أعمق بكثير، فهل يشهد إقليم كردستان "ربيعا كرديا"؟

تعد محافظة السليمانية عادة من أكثر المناطق أمانا في العراق. ولكن خلال الأسبوع الماضي، اجتاحت السليمانية احتجاجات عنيفة تخللها حرق مبان حزبية، وفي المقابل فرضت السلطات حظر التجول والسفر وتم قطع خدمة الإنترنت.

ومنذ أوائل الشهر الجاري ينظم السكان احتجاجات مناهضة للحكومة المحلية، حيث إن السلطات المحلية لم تدفع كامل رواتب موظفي القطاع العام منذ شهر أبريل/نيسان الماضي.

والاحتجاجات مستمرة رغم حظر المظاهرات، وتظاهر الجمعة الماضية مئات الأشخاص أمام مبنى محافظة السليمانية.

A headquarter belonging to the Patriotic Union of Kurdistan (PUK) is seen after it was burnt during anti-government protests on the outskirt of Sulaimaniyah
مقر تابع للاتحاد الوطني الكردستاني بعد إحراقه خلال الاحتجاجات في السليمانية (رويترز)

واتسمت مظاهرات الأسبوع الماضي بالعنف، وأضرم المتظاهرون -الذين يتهمون الساسة المحليين بالفساد والاختلاس والمحسوبية- النار في مقار الأحزاب السياسية المختلفة بما فيها مقار أحزاب غير مشاركة في الحكومة المحلية.

وحسب مصادر عدة، فقد استخدمت قوات الأمن الغاز المدمع والرصاص المطاطي والذخيرة الحية ضد المتظاهرين، واعتقلت أشخاصا عديدين.

وبحلول صباح الجمعة، لقي 10 أشخاص مصرعهم، من بينهم فتى يبلغ من العمر 16 عاما، وأصيب نحو 65 بجروح. وفُرض حظر تجول وحظر سفر بين مدن محافظة السليمانية، وألقى رئيس وزراء كردستان العراق مسرور البارزاني كلمة اتهم فيها "قوى خارجية" بالتسلل إلى وسط المحتجين. وتعرض صحفيون للمضايقة، وتم حجب الإنترنت، وحُجبت مواقع التواصل الاجتماعي.

Iraq's President Barham Salih delivers a televised speech to people in Baghdad, Iraq October 31, 2019. The Presidency of the Republic of Iraq Office/Handout via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS IMAGE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY.
صالح أعرب عن قلقه إزاء التطورات في السليمانية (رويترز)

تبادل الاتهامات
وأعرب الرئيس العراقي برهم صالح، الذي يشغل منصبه في العاصمة بغداد لكنه ينحدر من السليمانية، عن قلقه إزاء هذه التطورات، كذلك فعلت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق "يونامي" (unami) وممثلا الحكومتين الفرنسية والبريطانية.

وأسباب عدم دفع الرواتب للموظفين معقدة، وهي جزء من المشاكل السياسية المتراكمة لسنوات. إذ يكسب العراق تقريبا كل عائداته الوطنية من مبيعات النفط، ومن المفترض أن تودع سلطات إقليم كردستان الأموال من مبيعات النفط بمنطقتها في الخزينة الوطنية في بغداد. وفي المقابل، يترتب على الحكومة الفدرالية في بغداد أن تمنح الأكراد نصيبهم من الميزانية الوطنية، التي يمكنهم من خلالها دفع الرواتب.

ومع ذلك، لم تنجح هذه الاتفاقية على الإطلاق، حيث يتهم كل طرف الطرق الآخر بارتكاب مخالفات.

وتقول بغداد إن أربيل كانت تستفيد من صفقات النفط لصالحها، ومن الجانب الآخر تقول أربيل (مركز حكومة الإقليم) إن بغداد تحجب الأموال لأسباب سياسية وتلقي اللوم على الحكومة الفدرالية في عدم صرف الأموال.

وما يجعل الأمور أكثر تعقيدا هو ما يتعلق بالوضع السياسي في إقليم كردستان العراق، لأن الإقليم مقسم بين الحزبين السياسيين الرئيسيين الحزب الديمقراطي الكردي، والحزب الديمقراطي الكردستاني في أربيل، والاتحاد الوطني الكردستاني في السليمانية.

الحزبان يختلفان في العديد من القضايا، وسبق أن تقاتلا في حرب أهلية في تسعينيات القرن الماضي. ومن ضمن نقاط الاختلاف بينهما طريقة التعامل الأفضل مع بغداد.

والتنازلات والاتهامات المتبادلة كانت تؤثر منذ سنوات على أسس العلاقة بين بغداد وكردستان العراق. وليست هذه هي الاحتجاجات الأولى من نوعها في كردستان العراق أيضا.

Anti government protests in Iraq- - BAGHDAD, IRAQ - NOVEMBER 03: Protestors gather to attend ongoing anti-government demonstrations economic reforms and overhaul of the political system, at Tahrir Square in Baghdad, Iraq Baghdad on November 03, 2019. The escalation is part of a civil disobedience campaign waged by protesters to pile pressure on the Iraqi government to fulfill their demands.
ساحة التحرير مركز الاحتجاجات الرئيسي في بغداد طوال أكثر من عام (الأناضول)

تناغم الشمال والجنوب
ومع ذلك، يتفق السكان المحليون والمراقبون على أن هذه الجولة من الاحتجاجات مختلفة عما سبقتها. هناك جيل جديد من الشباب يريد الدخول سوق العمل، وغالبا لا يجد هؤلاء وظائف لهم. ويضيف الصحفي المحلي زانكو أحمد أن هؤلاء هم الذين شاركوا في هذه الاحتجاجات.

ويقول إن معظم الموجودين في الشارع هم من الشباب، وإن كثيرين منهم ليسوا حتى موظفين في الدولة.

في الانتخابات السابقة، كان الشباب يعبرون عن غضبهم من خلال صناديق الاقتراع، لكن الآن لا توجد أحزاب معارضة فعالة، لذا فهم يعبرون عن غضبهم بحرق مقار الأحزاب السياسية ومنازل المسؤولين.

يؤكد زانكو أحمد أن هناك بالتأكيد صلة بالاحتجاجات المناهضة للحكومة الفدرالية، والتي جرت في بغداد وفي جنوبي العراق. "إنهم عامل مساعد. الأسباب متشابهة تقريبا".

ويؤيد استطلاع للرأي أجراه معهد "تشاتام هاوس" (Chatham House) للسياسات الذي يوجد مقره بلندن، تلك الصلة. ويشير مدير مبادرة العراق في المعهد ريناد منصور إلى أنه "حتى في السليمانية كان هناك تعاطف كبير مع المحتجين في جنوب العراق".

وما هو مختلف الآن بين المظاهرات في كردستان العراق ووسط وجنوب العراق هو الظروف. ويقول منصور إن "التركيبة السكانية والاقتصاد يجعلان هذا الأمر أشبه بعاصفة".

Kurdish demonstrators gather during a protest over unpaid salaries of the public servants by the Iraqi Kurdish regional government, in Sulaimaniyah
خلال احتجاج على عدم دفع رواتب الموظفين العموميين في السليمانية (رويترز)

صعوبات اقتصادية
المشاريع الخاصة قليلة نسبيا في العراق، وتعد الحكومة رب العمل الرئيسي للسكان. وتقدر الرواتب ومدفوعات الرعاية الاجتماعية بحوالي 80% من إجمالي الإنفاق الحكومي.

يوضح ريناد منصور أن انخفاض أسعار النفط منذ عام 2014 والتغيرات الديمغرافية التي ستضيف أكثر من مليون باحث جديد عن عمل على مدى السنوات القليلة المقبلة في كردستان العراق، تعني أن ميزانيات الحكومة الإقليمية صغيرة جدا ولا تكفي لمواكبة التغييرات. يضاف إلى ذلك انتشار وباء كورونا الذي أثر بشكل كبير على الاقتصاد المحلي، وهو ما يعني أنه لم يعد من الممكن شراء ولاء المواطنين عبر توظيفهم بوظائف حكومية.

يقول منصور "لا تستطيع (السلطات) استخدام الأيديولوجيات القديمة -القومية الكردية أو الولاءات الحزبية- لذا قد تعتمد على شكل من أشكال القمع. وهذا ما بدأنا نراه".

ويوافق كبير الباحثين في معهد الدراسات الإقليمية والدولية في السليمانية زمكان علي سليم على أن المتظاهرين يفقدون الثقة في النظام. "إنهم يرون آباءهم يكافحون من أجل وضع الخبز على المائدة، فهم يتفهمون الفجوة بينهم وبين النخب، وهم غاضبون جدا".

ربيع كردي
فهل يمكن أن تكون هذه بداية لحركة أكبر شبيهة بالاحتجاجات المستمرة في بغداد، أو "ربيع كردي" كما وصفها البعض؟

يشير السكان المحليون إلى أنه حتى الآن اقتصر الصراع على منطقة السليمانية التي يسيطر عليها الاتحاد الوطني الكردستاني. وكانت هناك دعوات لتوسيع الاحتجاجات إلى المناطق التي يسيطر عليها الحزب الديمقراطي الكردستاني في أربيل ودهوك، وإذا حدث ذلك، فقد يكون لذلك تأثير أكثر خطورة، كما يقولون.

ويوضح سليم "لكن في الوقت الحالي هذه الحركة عفوية وبلا قيادة"، و"يمكن أن تتوسع أو قد تموت"، مشيرا إلى أن بعض الرواتب المستحقة قد تم دفعها بالفعل للعاملين في المجال الطبي والأمني، وللمعلمين بعد ذلك.

لكن سليم يخلص إلى القول "أعتقد أن الأمر تجاوز الرواتب الآن. الناس هنا عازمون على الاحتجاج".

المصدر : دويتشه فيله