اتخذ 30 لقبا وسُجن واتهم بالجاسوسية… شمس الدين المقدسي أبرز جغرافيي العرب والعالم

العالم شمس الدين المقدسي سرد في كتابه بعضا من مغامراته أثناء ترحاله باحثا وموثقا (غيتي إيميجز)

"لم يبق شيء مما يلحق المسافرين إلا وقد أخذت منه نصيبا غير الكدية (التسول) وركوب الكبيرة، فقد تفقهت وتأدبت وتزهدت وتعبدت وصاحبت في الطرق الفسّاق وبعت البضائع في الأسواق، وسجنت في الحبوس وأخذت على أنني جاسوس.." هذا ما كتبه العالم شمس الدين المقدسي في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، الذي عُدّ من أهم كتب الجغرافية العربية والعالمية في العصور الوسطى.

يسرد المقدسي في كتابه بعضا من مغامراته أثناء ترحاله باحثا وموثقا، فيقول "خطبت على المنابر، وأذّنت على المنائر، وأممت في المساجد، وأكلت مع الصوفية الهرائس، ومع الخانقائيين الثرائد… وسحت في البراري، وتهت في الصحاري، وملكت العبيد، وأشرفت مرارا على الغرق… ودبر في قتلي غير مرة، وقطع على قوافلنا الطرق، ومشيت في السمائم والثلوج".

نشأة مقدسية
ولد شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر البناء الشامي المقدسي البشاري عام 946 في القدس، التي أمضى طفولته وشبابه فيها، وتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن، ثم ارتحل إلى العراق، ومات عن عمر ناهز الـ53 بعد نحو 10 سنوات من نشر كتابه أحسن التقاسيم.

كان لأصول المقدسي فضل في رحلاته، فاستطاع وضع منهجية في العمران؛ بسبب شغفه في البناء، الذي ورثه عن والده بالإضافة إلى جده، الذي ساهم في بناء ميناء عكا في عهد أحمد بن طولون. كما اكتسب اللغة الفارسية من والدته، التي تنحدر من قرية على الحدود الغربية لخراسان، ما عزز قدرته على التنقل واستكشاف تلك المناطق.

هكذا كانت بغداد في القرن 14 الميلادي واحدة من أهم مراكز التعليم في العالم الإسلامي (غيتي)

مرآة العالم الإسلامي في القرن العاشر
وحسب إبراهيم سعيد في كتابه "إسهامات المقدسي في الجغرافية والدراسات الإقليمية"، فإن المقدسي يترأس مرحلة النضج في الدراسات الجغرافية إلى جانب علماء آخرين؛ مثل الأصطخري والبلخي والهمداني والمسعودي وابن حوقل البغدادي، كما تمكن المقدسي من رصد العالم الإسلامي في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي بشكل دقيق وحيّ.

ويضيف سعيد أن" للمقدسي مكانة متميزة في الجغرافيا العربية لم يجاره فيها أحد من الجغرافيين العرب أو غير العرب في العصور الوسطى والحديثة، خاصة فيما أبدعه في دراسة الأقاليم أو في المنهج الإقليمي".

لماذا تجنب ذكر الأقاليم غير الإسلامية؟
لم يظهر المقدسي كتابه حتى بلغ 40 من عمره بعد أن أنجزه في 3 أعوام، ويقول إنه زار إقليم جزيرة العرب، وبلاد الشام، والعراق، ومصر، والمغرب، وخراسان، والقوقاز، وأقاليم أخرى وثقها بالتفصيل. ويضيف "لم نذكر إلا مملكة الإسلام، ولم نتكلف ممالك الكفار؛ لأننا لم ندخلها، ولم نر فائدة في ذكرها؛ بل قد ذكرنا مواضع المسلمين منها".

وعن ذلك يقول زكي محمد حسن في كتابه "الرحالة المسلمون في العصور الوسطى" إن المقدسي اعتمد على الرحلة والمشاهدة في جميع كتاباته، وهذا ما منعه من التعرض للأقاليم، التي يسكنها غير المسلمين؛ لأنه لم يزرها، ويضيف أنه عُني بالأخبار الطريفة والعادات الشاذة، من ذلك ذكره أن جامع بغداد "كانت على أبوابه مياضئ بالكرى"؛ أي مراحيض بالأجر، والتي كانت أمرا فريدا آنذاك، لم يوجد لها أمثلة تاريخية أخرى.

تنكر وغير اسمه 
يعتقد عبد الرحمن حميدة في كتابه "أعلام الجغرافيين العرب" أن رحلات المقدسي لم تصل إلى الأندلس، مضيفا أنه كان يعمد في رحلاته إلى التنكر، وتغيير اسمه، والدخول في الطوائف المختلفة كي تسنح له الفرصة دراسة بيئاتها، والوقوف على عاداتها وأحوالها.

وهذا ما دفع العالم الألماني أرمين كريمرز القول إن المقدسي "هو أكثر الجغرافيين أصالة"، مضيفا أن الجغرافيا كانت شغفه الأساسي وأعطاها جل وقته وأسفاره، حيث خاطر بحياته عدة مرات، ما اضطره لتغيير اسمه من إقليم إلى آخر؛ ليضمن سلامته، ويتمكن من الوصول إلى المعلومة، حتى زادت ألقابه عن 30 لقبا.

خطوط عامة
استعان المقدسي في كتابه بالدراسة الميدانية والمقابلات والمكتبات، واعتمد على الأساس اللغوي والديني والإداري والسياسي في تقسيم الأقاليم الجغرافية، كما اتبع منهجا متفردا في دراسة الأقاليم معتمدا التقسيم العنقودي والمركزي، كالآتي: الإقليم، الكورة (مصطلح جغرافي قديم يعادل ما هو أصغر من الإقليم وأكبر من القصبة)، القصبة، المدينة والقرية.

أفرد المقدسي فصلا خاصا في كتابه لكل إقليم ضمن إطار متماثل يبدأ بعموميات عن المنطقة، ثم يصف المدن والنواحي التي تتبعها، ويقدم معلومات عن العقائد الدينية والأخلاق. كما ابتكر ألوانا ثابتة في رسم الخرائط ما زالت مستخدمة حتى الآن، فاستخدم اللون الأخضر لرسم البحار، والأزرق لرسم الماء العذب والأنهار والبحيرات، والأحمر للطرق، والأصفر للصحاري.

حاجة إلى إعادة تحقيق
يقول زهير الزيان في دراسة دلالية لكتاب المقدسي، إن الكتاب حُقق 4 مرات بوصفه مصدرا مهما من مصادر البحث العلمي؛ إلا أنه بحاجة إلى "إعادة تحقيق وضبط كشف وتصحيح ما به من تصحيفات ووضع حواش له، من خلال شرح معاني المفردات والترجمة لأسماء الأعلام والأمكنة التي وردت فيه".

وكان المقدسي قد قال في كتابه "سنتكلم في كل إقليم بلسانهم ونناظر على طريقتهم ونضرب من أمثالهم لتعرف لغتهم"، الأمر الذي أدى إلى تعدد الألفاظ في الكتاب، وكثرة المفردات الغريبة، علاوة على الألفاظ الأعجمية والمعربة؛ بسبب تأثره باللغة الفارسية ولغات أخرى كاليونانية واللاتينية والقبطية المصرية وغيرها.

قالوا عنه
أعاد المستشرق دي خويه عام 1906 نشر كتاب المقدسي، وطبعه في مدينة ليدن (جنوب هولندا)، كما استفاد الجغرافي الألماني فالتر كريستالر من دراساته عندما وضع نظريته في التوزيع الجغرافي للمراكز العمرانية في جنوب ألمانيا في النصف الأول من القرن 20.

ويقول عنه المستشرق النمساوي لويس سبرنغر "هو أكبر جغرافي عرفته البشرية قاطبة، ولم يسبقه شخص في اتساع مجال أسفاره وعمق ملاحظاته وإخضاعه المادة التي جمعها لصياغة منظمة".

أما المستشرق الفرنسي ريجي بلاشير فيرى في كتابه "مقتطفات من أهم الجغرافيين العرب في العصور الوسطى"، "أن كتاب المقدسي أساسي لمعرفة العالم الإسلامي في تلك الفترة، ونظرا لما كان يتمتع به من حب استطلاع يقظ دوما، ومن روح تسامح فريدة تماما، وبقدرة نادرة على الفهم، فقد نتج عن كل تلك المزايا المذكورة أن أصبح كتابه وصفا بديعا للعالم كما رآه في تعقيده الحي".

استعان المقدسي في كتابه بالدراسة الميدانية والمقابلات والمكتبات (غيتي)

وصف بيت المقدس
وصف المقدسي الأقاليم التي زارها وصفا دقيقا ماتعا، كما وصف بيت المقدس، التي ولد وعاش فيها، قائلا "بيت المقدس ليس في مدائن الكور أكبر منها، وقصبات كثيرة أصغر منها، لا شديدة البرد وليس بها حر، وقلّ ما يقع بها ثلج، سألني القاضي أبو القاسم ابن قاضي الحرمين عن الهواء بها فقلت سجسج لا حر ولا برد شديد، قال هذه صفة الجنة".

ويضيف "بنيانها حجر لا ترى أحسن منه، ولا أتقن من بنائها، ولا أعف من أهلها، لا أطيب من العيش بها، ولا أنظف من أسواقها، ولا أكبر من مسجدها، ولا أكثر من مشاهدها، وفيها كل حاذق وطبيب، وإليها قلب كل لبيب، ولا تخلو كل يوم من غريب… وقد جمع الله تعالى فيها فواكه الأغوار والسهل والجبال والأشياء المتضادة… وليس أمكن في بيت المقدس من الماء والأذان".

صرّح شمس الدين المقدسي بسبب نشر كتابه حين قال "… فإنه ما زالت العلماء ترغب في تصنيف الكتب لئلا تدرس آثارهم، ولا تنقطع أخبارهم، فأحببت أن أتبع سنتهم، وأقفو سننهم، وأقيم علما أحيي به ذكري، ونفعا للخلق أرضي به ربي".

المصدر : الجزيرة