ألف طفل عراقي مشوّه سنويا ودمار وتشرد.. بعد 16 عاما على الحرب الأميركية على الفلوجة

Destroyed buildings from clashes are seen on the outskirts of Falluja
مبان مدمرة على مشارف الفلوجة (رويترز -أرشيف)

نحو ألف طفل مشوّه يولدون سنويا في مدينة الفلوجة غرب بغداد، وآثار الدمار ماثلة في بعض أحيائها، وعشرات العوائل لا تزال مشردة، رغم مرور 16 عاما على استهداف الجيش الأميركي للمدينة بمختلف أنواع الأسلحة لفرض السيطرة عليها.

وكانت الفلوجة فجر الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني 2004 على موعد مع المعركة الأميركية عليها التي بدأت بهجوم مكثف واسع النطاق قامت به قوات مشاة البحرية الأميركية.

وبعد نحو أسبوع من القصف والمعارك العنيفة التي وصفت بأنها الأشرس منذ حرب فيتنام، أعلنت القوات الأميركية سيطرتها على معظم أجزاء المدينة.

وكانت القوات الأميركية قد فقدت سيطرتها على الفلوجة خلال المعركة الأولى في أبريل/نيسان 2004، عندما حاول الجيش الأميركي اقتحام المدينة وتنفيذ حملة اعتقالات بحق أشخاص يعتقد أنهم قتلوا عناصر من شركة "بلاك ووتر" (Blackwater) الأمنية الأميركية في مارس/آذار من العام نفسه، وسحلوا جثثهم وعلقوها على جسر المدينة.

لكن القوات الأميركية واجهت مقاومة عنيفة، وفشلت في اقتحام المدينة، وطلبت التفاوض مع السكان وانتهت المفاوضات بوقف المعارك.

جامع الحضرة
جامع الحضرة وسط مدينة الفلوجة (الجزيرة نت)

أسباب المعركة
وعن الظروف والملابسات التي أدت إلى اندلاع معركة الفلوجة الثانية يقول الصحفي بلال حسين -الذي شارك في تغطية تلك الأحداث- إن الفلوجة قد تكون المدينة العراقية الوحيدة التي لم تخضع لسيطرة الاحتلال بوجه كامل، وأصبحت رمزا للمقاومة.

ويضيف للجزيرة نت، أن المسلحين تمكنوا من هزيمة الجيش الأميركي الذي اضطر لتوقيع اتفاقية "مذلة" مع المسلحين ووجهاء المدينة، ومن ثم خطط الأميركيون بعدها للانتقام من الفلوجة الذي جاء في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه.

من جهته ذكر الدكتور مهند صبحي الكبيسي -وهو من ناشطي الفلوجة في تلك الفترة وأحد شهود الحرب- أن القوات الأميركية ذاقت الأمرَّين في معركة الفلوجة الأولى فقد كُسِر جيشها وذهبت هيبته.

وفي حديثه للجزيرة نت، رأى الكبيسي أن السبب الحقيقي وراء المعركة الثانية هو رغبة القوات الأميركية في الانتقام.

الصحفي حسين
حسين اعتبر أن الفلوجة لا تزال تعاني حتى اليوم بسبب تصديها للقوات الأميركية (الجزيرة نت)

سرعة الحسم
المعركة لم تُحسَم في أقل من أسبوع كما أعلنت واشنطن، بل حسمُها قارب الشهرين داخل المدينة، رغم دخول القوات الأميركية إلى قسم من الأحياء كما يذكر الكبيسي، مشيرا إلى أن الأميركيين استخدموا كل قواهم وكأنهم يخوضون حربا عالمية ضد دول كبرى.

ويبين أن قصفهم لم يستثنِ شبرا من أرض المدينة بل استخدموا سياسة الأرض المحروقة، وقصفوا بجميع الأشكال دون توقف حتى لثوان معدودة، مستخدمين المدفعيات والطائرات المسيرة والقاصفات.

ويؤكد الصحفي حسين أنه رغم استخدام سياسة الأرض المحروقة، فإن بعض المناطق مثل جبيل وحي نزال جنوبي المدينة لم تستطع القوات الأميركية دخولها إلا بعد شهرين من المعارك الشرسة، وبعض مناطقها سويت بالأرض وتحولت إلى أرض جرداء.

وفي إحدى الأحياء المتاخمة لحي الجولان الذي شهد معارك كبيرة كان لنا لقاء مع مصطفى العاني أحد سكان المدينة الذين عايشوا الحرب، وهو يعتقد بأن القوات الأميركية اعتمدت أسلوب الصدمة والترويع لحسم المعركة بأسرع وقت، حيث كانت تستهدف كل شيء يتحرك في المدينة.

ويضيف العاني -للجزيرة نت- أن القوات الأميركية تركت منفذا شمال الفلوجة من جهة محطة القطار ومنطقة السكنية، وذلك سمح بخروج أعداد كبيرة من المقاتلين، لذا فإن المعارك كانت أقل من المتوقع رغم شراستها.

مدير اعلام مستشفى الفلوجة
حماد ذكر أن الإصابة بأمراض السرطان ارتفعت بشكل لافت في الفلوجة بعد 2004 (الجزيرة نت)

أسلحة محرمة
لم يكن الفوسفور الأبيض وحده مستخدما في مدينة الفلوجة، فقد استخدمت كثير من الأسلحة المحرمة منها قنابل اليورانيوم، والنابالم، والقنابل العنقودية، والقنابل الارتجاجية، وهذه الأسلحة كلها محرم استخدامها في حرب المدن، لأنها ذات قوة تدميرية فتاكة، وفق حسين.

ولمعرفة ما خلّفته هذه الأسلحة، توجهنا بالسؤال إلى أحمد مخلف حماد مدير إعلام مستشفى الفلوجة التعليمي، الذي قال إن الفوسفور الأبيض وغيره من الأسلحة الفتاكة بقيت آثارها ماثلة حتى يومنا هذا.

ويضيف حماد -للجزيرة نت- أنه قد ظهرت تشوهات خلقية وجينية عالية المستوى في الولادات التي جاءت بعد نحو 5 سنوات من الحرب، وتكاد تكون الفلوجة هي الأولى التي تعاني هذه التشوهات في العالم.

ويضيف حماد "إذا ما حصلت مقارنة في الأمراض السرطانية والتشوهات قبل عام 2004 وبعده، تجد الفرق شاسعا والأرقام كبيرة لا يمكن أن تقارن، وهذا مؤشر خطير جدا".

في حين تحدث العاني عما عاشه في تلك الفترة، مؤكدا أن بعض أنواع القنابل كانت تصدر عند انفجارها أصواتا وأضواء غريبة، ونيرانا هائلة، وتسبب نوبة صداع شديد ودوارا وغثيانا.

يعيش سكان الفلوجة على أطلال دمار الحروب المتعاقبة على مدينتهم
يعيش سكان الفلوجة على أطلال دمار الحروب المتعاقبة على مدينتهم (الجزيرة نت)

خسائر كبيرة
لا توجد إحصائية رسمية أو حتى إحصائيات لمنظمات إنسانية عما خلفته الحرب الأميركية في الفلوجة كما يقول حسين، مؤكدا أن ما يتوفر هو تقديرات، وهي أقل من الحقيقة بكثير.

ويستذكر يوم ذهب إلى المقبرة لدفن جثث من قتلوا جراء القصف الأميركي، موضحا أنه رأى 12 جثة لمدنيين سقطوا نتيجة القصف في حي الجولان، والمفارقة الحزينة أن أحد المتطوعين للدفن فوجئ بأن إحدى الجثث لشقيقه.

وبالعودة إلى الكبيسي فيرى أن الخسائر الكبيرة في الأرواح والممتلكات التي تكبدتها الفلوجة هي نتيجة لهجمة فُقِدت منها القيم والأخلاق العسكرية.

ويضيف أن القوات الأميركية قامت بسحق بعض المصابين بالدبابات بدل إسعافهم، كما أحرقوا ودمروا ما تبقى من البيوت والمتاجر التي سلمت من القصف مع أنها لا تشكل خطرا عليهم.

واعتبر حماد أن عدم تكافؤ المعركة بين الطرفين قد أدى إلى خسائر كبيرة جدا بين المدنيين والمسلحين، فأبيدت عائلات كاملة في مدينة الفلوجة عن بكرة أبيها، وأحياء كاملة استحالت ركاما في معركة استخدمت فيها شتى أنواع الأسلحة.

People displaced by violence from Islamic State militants, arrive at a military base in Ramadi
مئات العوائل شرّدت من الفلوجة إبان الحرب على تنظيم الدولة عام 2016 (رويترز)

ذاكرة الحرب
ويروي المصور الصحفي حسين كيف وثّق أول يومين من المعركة، قبل دخول الجيش الأميركي إلى حي المعتصم حيث كان يسكن آنذاك.

ويقول "في أول المعركة استمر القصف 30 ساعة من دون توقف، وبكل أنواع الأسلحة والقنابل والمدفعية والطائرات".

ويتابع "بعدها دخل رتل عسكري كبير للقوات الأميركية من جهة منطقة السچر، وتمركزوا في شارع الثرثار ثم انتشروا إلى منطقة الجولان والمناطق الأخرى".

الحرب الأخيرة عام 2016 كذلك لم يسلم منها حي الجولان حيث تعرضت منازل كثيرة إلى الهدم
جانب من الدمار الذي حلّ بحي الجولان في الفلوجة ولا يزال ماثلا (الجزيرة نت)

الفلوجة اليوم
وبعد 10 أعوام على معركة الفلوجة الثانية شهدت المدينة معركة أخرى دامت عامين لاستعادتها من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، وتسببت بدمار كبير وموجة نزوح واسعة.

وتحاول الفلوجة اليوم لملمة جراحها بانتظار التعويضات لإعادة الإعمار رغم الظروف القاسية التي مرت بها، ومعظم سكان الفلوجة قالوا إنهم سئموا الحروب التي فرضتها عليهم الظروف والأحداث، وهم يتطلعون إلى مستقبل أفضل.

ولفت حسين إلى أن الفلوجة عانت ولا تزال تعاني بسبب تصديها للاحتلال، كما لاتزال آثار قنابل اليورانيوم، وكل سنة يولد ما لا يقل عن ألف طفل مشوه خلقيا نتيجة هذه الأسلحة، وفقا لإحصائية مستشفى الفلوجة العام.

ودعا الحكومة المركزية والأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية إلى معالجة هذه الكارثة التي تشهدها الفلوجة.

المصدر : الجزيرة