موسم العنصرية الانتقائية في أوروبا

تصميم حقوق وحريات- الكاتب: حسام شاكر - موسم العنصرية الانتقائية في أوروبا

حسام شاكر*

خلف الاعتداءات على المسلمين والمساجد والمرافق الإسلامية في أوروبا، مسار من التفاعلات تبدأ بفكرة انتقائية يتبعها خطاب تحريضي يفسح المجال للفعل أو الإجراء. إنها سيرة العنصرية الانتقائية التي تنشأ في هيئة تصوّر مضلِّل، ثمّ يشتد عودها مستعينة بثقافة التشويه والتحريض إلى حدّ الشيطنة، بما يمهِّد للانتهاكات العملية.

في البدء كان الاستثناء
تنشأ العنصرية الانتقائية من تصورات محددة في الغالب. يجري في الطور الأول للظاهرة تنميط مجموعة بشرية ما، وتصويرها على أنها استثناء عن المجتمع أو السياق الإنساني الجامع. إنّه منطق مُغالٍ يستبطن التفرقة، وعليه تتأسّس تطوّرات جسيمة.

تكمن المعضلة ابتداء في نزعة انتقائية تمارس الاستثناء المُجحِف بحق فئة بعينها دون الأخرى. يتمّ انتزاع أشخاص محددين أو أشياء أو موضوعات بعينها من سياقاتها، دون أن يسري ذلك على مكوِّنات أخرى في السياق.

ولأنّ المعضلة الأساس يستبطنها الانتقاء والاستثناء، فسيكون التفسير الخاطئ أو المشوّه رغم ما فيه من تجاوُز مشكلة ثانوية. أي أن تنزيل التفسيرات الاستثنائية على جزء بعينه من المجتمع أو البشرية دون سواه هو المُخاطرة التي تتفرّع عنها التجاوزات اللاحقة.

للتفسير الاستثنائي تبعاته ومضاعفاته التي تظهر على هيئة تشويه أو تحريض أو شيْطنة. فمن يتمّ النظر إليهم على أنهم استثناء سلبي من الآخرين يجدون أنفسهم بسهولة في مرمى النيران. إن عملية الشيطنة ونزع الصفة الإنسانية، التي تتوجه ضدّ أناس محدّدين، أو ضدّ ثقافات أو أديان بعينها، هي نتاج تعريفهم بشكل انتقائي، أو هي حصيلة اعتبار ثقافاتهم وأديانهم استثناء يستدعي الاشتباه فيها. يتمّ بهذا تسويغ استبعادهم من الامتيازات والحقوق والحريات التي تمّ في الأساس إقرارها للجميع، لتسري عليهم إجراءات خاصّة، حتى في فضاء النظام الديمقراطي.

إعلان

وإذا ما تفاقم المنحى التمييزي بالفعل، فقد تتطوّر الحالة إلى مستوى عملي تصحبه تجاوزات. إنه مستوى الإجراءات التي تتمثل في انتهاكات أو تضييقات أو ممارسات من التفرقة. تنشأ في هذا المستوى التطبيقي تطورات وتداعيات في شكل إجراءات ووقائع، أو قد تأتي في الفضاء التشريعي عبر سن قوانين موجهة بشكل خاص ضد مجموعات مجتمعيّة محدّدة أو ضد فئات أو مكونات يتم استثناؤها من المشهد المجتمعي العام للشعب.

للتفسير الاستثنائي تبعاته ومضاعفاته التي تظهر على هيئة تشويه أو تحريض أو شيْطنة. فمن يتمّ النظر إليهم على أنهم استثناء سلبي من الآخرين يجدون أنفسهم بسهولة في مرمى النيران

حكاية المآذن وقطع القماش
من فيض الوقائع تحضر تجربة سويسرا مع المآذن تجسيدا أميناً لهذا المسار التمييزي. فدون أبراج دور العبادة المتنوعة تم تأويل برج محدد هو المئذنة على أنه استثناء. لم يتم اعتبار المسجد دارا للصلاة كدور الطوائف الأخرى، بل ذهب التأويل الاستثنائي إلى أن المآذن "رمز سياسي وعسكري"، وقيل إنها "كناية عن السيطرة على أرض"، كما ورد في حملات مضادة للمآذن.

إن التفسير الاستثنائي السلبي هو مَنبت التشويه. ويمكن للموقف أن يتعاظم إلى درجة إثارة الكراهية ونشر الأحقاد. عندها سيعاد اكتشاف القوالب النمطية المتقادمة واستدعاء الأحكام المسبقة والصور الكريهة التي استقرت في الذاكرة الجمعية منذ العصر الوسيط، فيجري إحياؤها وإنعاشها بأشكال جديدة.

يتطوّر المسار إلى مرحلة الإجراءات العملية. وهكذا تم استدعاء الجماهير إلى صناديق الاقتراع في استفتاء شعبي لحظر المآذن في سويسرا إلى الأبد. فمن كان يتصور أن يحدث هذا في أوروبا القرن الـ21، وفي ظل الديمقراطية التي تتغنى بالحقوق الأساسية والحريات؟!

وفيرة هي الشواهد من أنحاء أوروبا، ومنها أنواع اللباس التي تم تفسيرها بشكل استثنائي، فخسرت صفتها كقطع قماش وأصبحت موضوعا لسجالات متأجِّجة على الملأ. وعبر مواسم الجدل تدحرج النقاش بشأن أغطية رؤوس النساء والفتيات إلى أتون المعارك الانتخابية وتجاذبات السياسيين الانتهازيين.

إعلان

عندما يتسلل التشويه إلى جدول الأعمال السياسي والإعلامي والثقافي، قد يتطور الموقف إلى إجراءات عملية، مثل حظر بعض قطع القماش وإيقاع العقوبات على من يرتديها، وهو مسار عرفته دول أوروبية تقدّمتها فرنسا. يتضح من التحليل أنّ البداية كانت مع الانتقائية في تناول غطاء رأس الفتاة المسلمة واستثنائه من اختيارات اللباس واعتباره خروجاً على "قيم الجمهورية" الفرنسية. لقد تم إسباغ تفسيرات مشوهة ومضلِّلة على رقعة القماش تلك بالزعم أنها "رمز جنسي" و"علامة اضطهاد". ثمّ توالت التفاعلات بنتائجها المعروفة التي زجت بالقضية في مداولات برلمانية وحكومية شغلت الفضاء العام، وصولاً إلى فحص الرؤوس في الطرقات وعند أبواب المدارس بشكل مثير للغثيان.

رواج التفسيرات الاستثنائية في أوروبا
تتمثل العقدة الجوهرية في هذا المسار في تفسير "الآخرين" أو بعضهم على أنهم استثناء، بما يؤسِّس للإقصاء والتفرقة. بدأت القضية عندما لم يتورع بعضهم عن تشبيه المئذنة بالصاروخ، أو عن تفسير أنواع من اللباس على أنها احتقار وتهديد، أو عن استثناء الأئمّة عن أقرانهم القائمين على الشعائر الدينية الأخرى. وقد تم ذلك كله حتى قبل ظهور "خليفة" تحفه مقاطع حز الرؤوس وإحراق البشر في الأقفاص، فكيف سيكون الحال بعده؟!

توالت الوقائع، ومنها الاشتباه في الصدقات والأموال الخيرية المنسوبة إلى ثقافة محددة أو دين بعينه، وإثارة الشكوك بشأن تأثير صيام المسلمين على الأعمال والوظائف، وتقييد فرص الحصول على اللحم الحلال، ومحاولة حظر ختان الأولاد، علاوة على تمادي بعضهم في حجب صفة الدين ذاتها عن الإسلام أو وصفه بالأيديولوجيا ونعته بالإرهاب.

أمّا في حضرة الإرهاب والجريمة، فتم تفسير وقائع معينة بنسبتها إلى انتماءات ثقافية أو دينية، لتصبح الطائفة ككل مطالبة بالاعتذار والإدانة. لقد وقع ضغط معنوي هائل على أكثر من مليوني مسلم في باريس بعد اعتداء اقترفه اثنان فقط على شارلي إيبدو. وتمّ في المقابل عزل الجرائم والاعتداءات الأخرى عن أي تأويلات ثقافية أو دينية لأنها أتت من صفوف "مجتمع الأغلبية"، ليُحال الأمر إلى "سلوك فردي" أو انحراف تم تفسيره بنزعات الجاني وحده. غاب النقاش الديني أو الثقافي، مثلاً، عن هجوم مسلح في جنوب التشيك أجهز يوم 24 فبراير/شباط 2015 على ثمانية أشخاص، فماذا لو كان اسم المعتدي محمداً أو سعيداً؟

إعلان
عندما يبادر بعضهم إلى تأويل استثنائي، فإنهم يفتحون الباب على مصراعيه للتشويه، ثم يأتي ثالثاً المستوى العملي بفرض قوانين تمييزية

من هم الضحايا؟
ثمة علاقة تراتبية بين مستويات التفسير الاستثنائي والتشويه والانتهاكات العملية. فعندما يبادر بعضهم إلى تأويل استثنائي، فإنهم يفتحون الباب على مصراعيه للتشويه، ثمّ يأتي ثالثاً المستوى العملي بفرض قوانين تمييزية، أو باقتراف اعتداءات مادية أو لفظية تستهدف من تمّ اعتبارهم استثناء عن المجتمع والإنسانية، أو بالتوجه إلى الاقتراع على حقوق يُفترَض أن تكون مكفولة للجميع.

عندما تستسلم المجتمعات لهذا المسار البائس من التفرقة أو العنصرية الانتقائية، ستكون الضحية هي القيم والمبادئ، أي أنّ جميعهم سيدفعون الثمن وليس من وقعت التفرقة عليهم وحسب. فالمجتمع يخسر عندما تتمّ شرعنة التفرقة، لأنها تمس القيم الأساسية للنظام الديمقراطي الذي يُفترَض أن يكفل المساواة والحرية الدينية وتكافؤ الفرص والسلم الاجتماعي. ولا تربح المجتمعات إن تنصّلت من المبادئ والقيم والأخلاق والمواثيق على نحو ما ذهبت إليه النازية والفاشية مثلاً.

تفرض الاستجابة الرشيدة لهذا التحدي أن يتداعى شركاء المجتمع لقرع النواقيس، والتصرّف في وقت مبكِّر، قبل أن تتمكن الظواهر المقيتة من ترسيخ أقدامها. ولا تقتصر المسؤولية على التضامن بين فئات المجتمع، بل ينبغي بالأحرى حماية القيم الأساسية والمبادئ المشتركة التي يتبناها النظام العام أو تنصّ عليها المواثيق والدساتير، والتصدِّي للتهديدات التي تحاول النيل منها بذرائع شتى.

انتعاش ثقافة الحظر
تتسلل ثقافة الحظر إلى أوروبا مجددا بعد أن سادت في أزمان غابرة. ففي ميونيخ الكاثوليكية، على سبيل المثال، كان محظورا حتى بداية القرن العشرين بناء كنيسة بروتستانتية داخل أسوارها. ولم تسمح بعض المدن الأوروبية بإقامة كُنُس يهودية أو فرضت قيودا استثنائية على مواصفاتها.

أما اليوم فتتوالى وقائع التمييز والعنصرية الانتقائية، مع التشويه الذي تجاوز الأوصاف العامة عن "الأجانب" أو "الغرباء" أو ذوي "لون البشرة المختلفة". تتوجه الظاهرة العنصرية لتستهدف أتباع دين بعيْنه، مع تسخير ثقافة "الحرب على الإرهاب" ومقولة "صراع الحضارات" في هذا المسعى.

إعلان

ولا يمكن تجاهل ثقافة الحظر وفرض القيود التي تتجلى بقوانين وإجراءات تمس المسلمين عملياً، وكانت بواكير ذلك في فرض شروط متشددة على حقّ النساء والفتيات في اختيارات اللباس، وفي حظر المآذن والمحاولات المتعددة لمنع تشييد المساجد أو حجب مصادر التمويل الخارجية عنها، علاوة على قيود متعددة على بعض الشعائر والوعظ والتعليم الديني وتربية الأبناء أيضاً.

تخسر الديمقراطيات الأوروبية من رصيدها الأخلاقي وتتضرر مكانتها المعنوية بانتعاش ثقافة التقييد والحظر. ومن بواعث القلق أن تتجاهل منابر الثقافة والفن مسؤولياتها إزاء اتجاهات العنصرية الانتقائية، وما يصاحبها من تراجعات متواصلة تمسّ الحقوق والحريات وتنتهك قيم العدل والمساواة وتكافؤ الفرص والاحترام المتبادل. كما انشغلت الطبقة السياسية طويلا بالمنافسات الانتخابية، ولم تعبر بوضوح عن الشجاعة أو روح التضامن خشية تقلّص شعبيتها. ثمّ اضطرّت بعض الحكومات الأوروبية إلى استدراك متأخر، فاندفعت لاحتواء الحرائق الاجتماعية التي تنذر بإشعالها تيارات كراهية المسلمين التي تشكلت في الشهور الأخيرة.

بافتقاد الطمأنينة يصعب على المجتمعات فهم التنوع على أنه إثراء وتلاقح، بل قد ترى فيه تهديدا ماحقاً وبهذا تعلو شعارات ساذجة من قبيل "هويتنا في خطر".

مفعول القلق والمخاوف
تنتاب المجتمعات في زمن الأزمات الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية مشاعر القلق. كما تقود التغيّرات المتسارعة في مناحي الحياة اليومية إلى الإحساس بخسارة الاستقرار المعنوي. ومع افتقاد الطمأنينة يصعب على المجتمعات فهم التنوع على أنه إثراء وتلاقح، بل قد ترى فيه تهديدا ماحقاً. بهذا تعلو شعارات ساذجة من قبيل "هويتنا في خطر". ومن أجل صون الهوية ورسم حدود تعسفية لها، تحتاج الجماهير إلى تنميط "الآخر" أو اختراع "النقيض" أو "العدو".

بحثا عن "نحن" يجري التفتيش في زمن العولمة عن "هُم"، وهو ما يهدِّد بأن يعيد مجتمعات أوروبا اليوم إلى ثقافة الخصام بذريعة صياغة الهوية وحماية القيم. وإن تفاقمت الظاهرة فسترضخ المجتمعات لخطاب التحجّر الثقافي بدل التعامل مع التحديات الواقعية المشتركة. يتم في هذا السياق استعمال "القيم" وإعادة تفسيرها، مع توظيفها في حمّى الجدل كدرع واقٍ أو كتبرير ظاهري للأشكال الجديدة من انتهاك القيم الأساسية ذاتها وخرقها.

إعلان

هي نزعة تطل برأسها اليوم، فتحت شعارات حقوق المرأة تتمّ محاولات لتقليص حقوق النساء والفتيات، وباسم القيم يتم ضرب القيم، وبدعوى مكافحة الكراهية تتفشى شعارات الكراهية وتنتشر ملصقاتها في الأرجاء. أمّا مواسم التصويت الديمقراطي فتتدهور إلى الحضيض بتحوّلها إلى جولات لتأجيج المخاوف من المواطنين المسلمين. لقد تمّ استدعاء الأغلبية أحياناً للاقتراع على ما يندرج ضمن الحقوق الأساسية لأقلية بعينها، بما يناقض أخلاقيات الديمقراطية.

مخاطر الانزلاق إلى أزمة أخلاقية
تواجه أوروبا مخاطر الانزلاق إلى أزمة أخلاقية عميقة إنْ هي استسلمت للمخاوف والتفسيرات المُضلِّلة وما يتفرع عنها من تشويه. والواقع أنّ الجمهور الذي تنتابه المخاوف قد لا يمانع في التنازل عن أقساط من حقوقه وحرياته الأساسية. وفي أجواء الهلع المشفوعة بتغطيات عن التهديدات الأمنية تظهر مشروعات القوانين التي تنتهك المجال الشخصي للأفراد وترفع منسوب الرقابة وتسمح بتجاوزات كانت مرفوضة في السابق.

قد لا يتطلب إحياء ثقافة الحظر والمنع والإقصاء سوى تعظيم المخاوف وحشد الذرائع، على منوال انتهاكات الماضي التي واكبتها تبريرات صيغت بعناية. أمّا عندما يندفع أحدهم لإحراق مسجد في إسكندنافيا، أو قتل امرأة محجبة في قاعة محكمة ألمانية، أو عندما يفتك آخر بثلاثة طلبة مسلمين على الجانب الآخر من الأطلسي، فإن جذور الواقعة قد تمتد إلى تأويل انتقائي، تأسّس عليه خطاب تحريضي، أفسح الطريق لانتهاكات جسيمة.
———-

* باحث ومؤلف واستشاري إعلامي، متخصص في الشؤون الأوروبية

المصدر : الجزيرة

إعلان