مواقع التواصل.. قبلة حياة "لانتفاضة السكاكين"
لا يعجز العقل المقاوم دوما عن تجاوز الحواجز التي تحاول الحيلولة بينه وبين إمكانية الحركة الفعالة ضد خصمه المحتل لأرضه ولمقدساته، فالفلسطيني الذي أثقلته متطلبات الحياة يتم إغراقه عمدا في مئات العقبات الحياتية اليومية، ويتم حصاره بعشرات الأجهزة الأمنية التي تمتلك تنسيقا عاليا مع المحتل وتقوض أسس الفعل المقاوم في الضفة من جذوره.
لكن سنوات من التنسيق الأمني والتقويض الإعلامي والثقافي لكل أسس الفعل المقاوم، ومئات المنظمات الغربية التي تعمل في الضفة لترسيخ ما أسمته أسس "ثقافة السلام والتعايش"؛ لم تنجح فعليا في تفكيك جذوة المقاومة في نفوس الجيل الجديد الذي ولد أغلبه في مرحلة "أوسلو" وما بعدها، وبالتالي شكل سلوكه انهيارا لأحلام جهات كثيرة في نزع جذوة الارتباط بالأرض والقضية في نفوس أصحابها.
وكان من المتوقع أن يمنع الخنق الأمني المحكم في الضفة أي توجه احتكاكي مع الاحتلال، ويقوّض كذلك حدوث أي انتفاضة في المدى المتوسط، وكان الخبراء الإسرائيليون يطمئنون جمهورهم بأن سنوات من التجريف الثقافي والسياسي والأمني في الضفة كفيلة بضمان أمان إسرائيل من هذه الجبهة لسنوات قادمة، إلا أن جيل "السوشيال ميديا" كان لديه تصرف مغاير تماما لكل ما تم توقعه والعمل عليه لسنوات.
تشكل بيئة مواقع التواصل الاجتماعي ملاذا آمنا وفعالا للتواصل البشري بكل صنوفه، ولكنها في منطقتنا العربية تتميز بكونها مركزا لتبادل الأفكار السياسية والفكرية، ومركزا تلقينيا للقضايا والثوابت الدينية والوطنية، فالشباب على مواقع التواصل الاجتماعي لهم نخبتهم الفكرية والدينية التي يتبعونها، ولهم كذلك مصادرهم الخبرية والسياسية الخاصة، وبالتالي أصبحت مظلة التواصل الاجتماعي منظومة تكوينية بديلة عن تلك التي تمتلكها السلطة ورؤوس الأموال وأصحاب المصالح.
وتعاظمُ دور الفرد في بيئة مواقع التواصل على حساب دور المؤسسات الكبرى، منحَ الأفراد قدرة توجيهية أكبر، كما أن أولويات الاهتمام في مواقع التواصل أصبحت تتحول إلى أولويات فردية لكل شخص، فثقافة "الترند" (Trend) والمواضيع والقضايا الأكثر انتشارا أصبحت تجبر حتى المؤسسات الإعلامية على جعل اهتمامات مواقع التواصل السياسية من اهتماماتها كمؤسسات.
وبالتالي حين تقول القناة الإسرائيلية الثانية إن "موجة العمليات الجارية هي نتيجة التحريض عبر شبكات التواصل الاجتماعي" فهذا ليس اعتباطا ولا محاولة للتهرب، فبداية الأحداث كانت من المسجد الأقصى ومواجهات المرابطين التي لم تولها المؤسسات العربية ما تستحقه من اهتمام ومتابعة، إلا أن أولويات مواقع التواصل الاجتماعي والشباب العربي نقلت من جديد أحداث الأقصى للواجهة، مما شكل موجة شحن معنوية كبيرة في الداخل الفلسطيني والخارج العربي.
وتحولت مواقع التواصل الاجتماعي لمركز توجيه معنوي كبير أيقظ في الشباب جذوة المقاومة من جديد. وبالرغم من تصدر مواضيع دموية كبرى الاهتمامات في المنطقة العربية كسوريا والعراق وليبيا، فإن مواقع التواصل حددت من جديد بوصلة الأولوية مما منح انتفاضة الشباب زخما وقوة.
وبالرغم من صمت الإعلام الرسمي الفلسطيني ومحاولته عدم الشحن وتهدئة الأجواء بخلاف دوره إبان فترة الرئيس الراحل ياسر عرفات، حيث كان التلفزيون الرسمي للسلطة يشحن الانتفاضة بالأغاني الوطنية ويقوم طواعية بعمليات "ترميز" إعلامية للشهداء والمقاومين؛ فإنه -ومع غياب هذا الدور في الحاضر- تحولت مواقع التواصل الاجتماعي لتنفيذ هذا الدور، من حيث الشحن المعنوي، و"ترميز" الشهداء وتخليد صورهم وكتاباتهم.
كما أصبح ترتيب مواعيد وأماكن التجمهر وبداية المواجهات بين الشباب الفلسطيني وجنود الاحتلال يتم عبر مجموعات الواتساب والفيسبوك السرية، ويتم تدشين المواجهات عبر وسم على موقع تويتر، كما تتم التغطية المصورة للأحداث عبر إنستغرام؛ وبالتالي امتلك الشباب الفلسطيني والعربي سياقا إعلاميا بديلا، هذا السياق يحفظ له عمق قضيته وعناوينها بعيدا عن تلاعب أصحاب المصالح والنفوذ وكذلك بعيدا عن إستراتيجيات الاحتواء والتهدئة.
ومن دلائل مركزية مواقع التواصل الاجتماعي في هذه الهبّة الجماهيرية -التي بدأ الإجماع حول توصيفها بـ"انتفاضة ثالثة" يتبلور يوما بعد يوم- أن رصدت مجموعات شبابية فلسطينية على هذه المواقع محاولات فرق المستعربين الإسرائيلية اختراق مجموعات التنسيق الشبابية والإيقاع بهم معلوماتيا، حيث عجزت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية عن رصد وتتبع حجم المعلومات الهائل المتداول سرا بين الشباب الفلسطيني، مما خلق مجددا وعيا كبيرا بأهمية وقوة هذه المواقع في انتفاضة هذا الجيل الذي ولد أغلبه إبان مرحلة اتفاق أوسلو!