هاجر الباش.. صمود ضد التهجير

وديع عواودة-طيرة الكرمل
رغم جرائم القتل والتهجير الصهيونية تمكنت مجموعات فلسطينية من النجاة من زلزال النكبة عام 1948، وظلت تعيش فوق ترابها رغم محاولات التهجير ومخططات التهويد.
الحاجة هاجر الباش أو أم حسين (88 عاما) من طيرة الكرمل المجاورة لحيفا داخل أراضي 1948 واحدة من قصص الصمود والبقاء الأسطورية هذه.
لم يبق من طيرة الكرمل سوى مقبرة تنتهك حرمتها وتطمس بالتقسيط ومدرسة حجرية وبعض الخرائب، وحتى اسمها صودر وصارت تدعى "طيرات هكرميل".
وطردت القوات اليهودية سكان البلدة العشرة آلاف عام 1948 بعد معركة دامية، كما يؤكد المؤرخ مصطفى كبها.

مقاومة عنيدة
وذكر كبها أن طيرة الكرمل قاتلت حتى الطلقة الأخيرة، وأشار إلى تقرير وحدة ألكسندروني الذي تحدث عن تطهيرها وعن سقوطها "بعد مقاومة عنيدة".
ويشير إلى أنه أثناء عملية الطرد لم يتمكن بعض العجزة وكبار السن من اللحاق بركب التهجير السائر تحت أوامر الجنود وعصيهم الغليظة، فتم تجميعهم في أحد حقول القمح المجاورة لمفرق اللجون وحرق نحو عشرين منهم أحياء.
الحكاية تبدؤها أم حسين قائلة "جمعوا أهل البلد في 17 من يوليو/ تموز وسط الطيرة في البيادر وجاؤوا بـ27 حافلة لطردهم مع كل ما يمكن حمله". وتشير إلى أن قوات الاحتلال الإسرائيلي داهمت طيرة الكرمل عام 1948 وفي شهر رمضان فاعتقل العشرات من رجال البلدة ومن بينهم زوجها.
أما هي فقد أجبرت على صعود واحدة من حافلات التهجير مع الكثير من النساء والأطفال، هي وخمسة من أولادها وأصغرهم الطفلة أمينة.
وبدأت رحلتها مع التهجير ببلوغ الحافلة قرية رمانة قضاء جنين، وتتابع بلغتها العامية قائلة "كبونا اليهود عند العفولة بنص الشارع وفجأة صارت الطيارات تطخ علينا ومن حولنا.. فتركنا كل ما كان معنا بسبب الخوف".

حالة الذعر
وتشير إلى أن حالة الذعر كانت مروعة لدرجة أنها فقدت ابنتها أمينة دون أن تشعر، بينما كانت شقيقتها الطفلة ريمة تمسك بتلابيب فستانها المبلل بدموعها نتيجة الفزع المتصاعد مع تزايد هدير الطائرات والقذائف.
وردا على سؤال: كيف يمكن لأم أن تنسى طفلتها وهي لم تتجاوز العام، قالت وهي تسعى لحجب انفعالها "أصلا ما نسيتها وما بحثت عنها لأنني لم أكن أعي أنها معي فقد طار عقلنا من الخوف حتى جاؤوا بها".
أم حسين التي تزوجت في الثالثة عشرة من عمرها توضح أنها لم تجد ملجئا لها في جنين فاعتلت وأولادها الخمسة وأشخاص آخرون شاحنة متجهة للأردن بعدما اعتقل زوجها وسارت للمجهول "والدنيا بالليل باردة والأولاد يرجفون حتى بلغنا مخيم النيرب" وفق وصفها.
وتشير إلى أنها عادت وأولادها خلسة للبلدة بعد إطلاق سراح زوجها، وفور وصولها صدمت "عندما وجدت داري الحجرية المكونة من ثلاثة طوابق قد سكنها اليهود وزوجي يقيم في براكية على طرف الطيرة، تصلح للحيوانات، أغمي علي لكن الوطن غالي، فرضينا بالبؤس هنا على الهوان هناك".
وتستذكر أم حسين كل هذه الذكريات، وتشير إلى أن معاملة المستوطنين اليهود لعائلتها وبعض جيرانها العرب كانت كمعاشرة الأفاعي السامة خاصة الشرقيين منهم.
بعدما هجّرت وعائلتها من طيرة الكرمل لمدة عام عادت واستقرت في باب وادي العين (شرقي الطيرة) مع نحو عشرين عائلة أخرى استولى اليهود على منازلهم.

تجربة قاسية
وشاركت أم حسين زوجها في إعالة الأسرة، واجتازت معه تجربة قاسية مع الفقر بعدما كانت عائلتهم ميسورة الحال وتملك أراضي شاسعة.
لم يصمد بقية جيران أم حسين الناجون من التهجير، فهاجروا في فترة الستينيات إلى حيفا نتيجة قسوة ظروف العيش في البلدة.
وخاضت العائلة أيضا معركة قضائية لاستعادة ملكيتها على مئات الدونمات، إذ أن قانون "أملاك الغائبين" الإسرائيلي الجائر لا ينطبق عليها بحكم أنها بقيت ولم تغادر موطنها.
وفي هذا الإطار يشير نجلها موسى إلى أن العائلة اضطرت للتنازل ظلما عن جزء من أراضيها مقابل استعادة بقية الأرض، والفوز بالبقاء في الوطن.
ويشير إلى أن السلطات الإسرائيلية لم تسمح للعائلة أن تبقى في أرضها وأن يزيد عددها فتصبح بالتالي عبئا ومصدر قلق داخل مدينة أضحت يهودية، مشيرا إلى فضل والدته التي قادت صمود العائلة ضد كل أوجه الترغيب والترهيب والحرمان.
ويتابع قائلا "نتعرض للظلم من كل الجهات.. فبالنسبة لليهود نحن شوكة في حلوقهم وغرباء في وطننا، وبالنسبة لبعض العرب فنحن متعاونون مع الصهيونية والاستعمار".
وتشير الحاجة هاجر إلى أنها حرصت على تربية أبنائها وأحفادها ممن يتعلمون في مدارس حيفا بعيدا عن الاختلاط الزائد مع أولاد اليهود حفاظا على هويتهم وانتمائهم.
وتتساءل: كيف يمكن أن يفرط المرء في موطنه وأن يترك الطيرة، وكل أهله عاشوا وماتوا هنا؟