حسين زهوان: ميثاق سلم الجزائر تبييض للجرائم والمجرمين

23/10/2005
المحامي حسين زهوان أصبح قبل شهر الرئيس الجديد للرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان خلفا للمحامي علي يحيى عبد النور.
هذه الرابطة إحدى منظمات حقوق الإنسان التي اصطدمت كثيرا بالسلطات الجزائرية بدعوتها إلى التحقيق في أحداث العنف التي عرفتها الجزائر منذ 1992, بما فيها ملف المفقودين الذي رأى بعض المراقبين أن "ميثاق السلم والمصالحة" يريد طيه إلى الأبد, تسنده في ذلك حملة إعلامية في اتجاه واحد.

تقييمنا لهذه الوضعية لم يتغير كثيرا مقارنة بالماضي. هل يمكن الحديث عن حقوق الإنسان في بلد قتل فيه إبان السنوات الأخيرة ما يناهز 200000 شخص، بلد شهد الكثير من المجازر الجماعية ومازال فيه آلاف المختطفين في عداد المفقودين؟ الحديث عن حقوق الإنسان في الجزائر ليس إلا هرطقة أو تهكما وسخرية. في بلد يعيش تحت وطأة حالة الطوارئ لا يمكن أن تكون حقوق الإنسان إلا معلما يمكننا من الأمل ومواصلة النضال.

لم يكن من الممكن أن يبقى التوتر الذي عاشته الجزائر في ذروته لسبب بسيط جدا، هو كون المجتمع لم يعد بوسعه أن يتحمله. من الأكيد أن المنحنى البياني للتوتر بدأ في النزول بدءا من 1998 إذ قلت الاختطافات والمجازر الجماعية وتراجع اللجوء إلى التعذيب. ويمكن تفسير ذلك بسببين, أولهما أن العنف كان بلغ من الوحشية حدا أضحى من المستحيل تجاوزه. وثانيهما وقع حملات التنديد بانتهاكات حقوق الإنسان في الجزائر وخارجها.

" أساس ميثاق السلم والمصالحة نفي الحق في استرداد الحقوق ومحو السنوات المريرة الماضية من الذاكرة دون محاسبة أحد، لا في السلطة ولا من الإسلاميين المسلحين " |
كل جدال في نتائج الاستفتاء جدال شكلي لأنه يغفل أهم ما في الأمر، أي محتوى هذا الميثاق. ما أساس النص؟ أساسه نفي الحق في استرداد الحقوق ومحو السنوات المريرة الماضية من الذاكرة دون محاسبة أحد، لا في السلطة ولا من الإسلاميين المسلحين. ما مبرر هذه العملية في نظر المدافعين عن الميثاق؟ "الانطلاق من جديد" حسب زعمهم. "الانطلاق من جديد" نحو ماذا؟ لا أحد يعرف.
الميثاق نص وليس لأي نص كان قيمة في ذاته. قيمة النصوص تتحدد بما تحمله. ما وراء هذا الميثاق؟ وراءه الرغبة في طمس ذاكرة الجزائريين ومحاصرة كل من يحرص على معرفة الحقيقة عن المأساة التي عشناها ويلح على واجب إنصاف ضحاياها.
من الأكيد أنه سيتوجب يوما ما على الجزائريين أن يهضموا هذه الفترة من تاريخهم، غير أن ذلك مستحيل ما لم يشعروا بأن هناك عدالة على وجه الأرض وأن هذه العدالة ستتولى إنصاف ضحايا المأساة.

إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا نكمل المشوار إلى آخره؟ لماذا لا نمنح الإسلاميين المسلحين أوسمة ونياشين بل وريعا مدى الحياة أيضا؟ لماذا لا نطلب الصفح من الذين أوصلوا الجزائر إلى هذه الحالة المأساوية مهما كان الطرف الذي ينتمون إليه (الحكومة أو المجموعات الإسلامية المسلحة)؟ لماذا لا نطلب منهم أن يغفروا لنا تجرؤنا على التنديد بجرائمهم؟

الميثاق تبييض للجرائم و"رسكلة" للمجرمين. من وجهة نظر فلسفة القانون، فهو غير شرعي وباطل ثابت البطلان. أصحاب هذا الميثاق يدركون ذلك جيدا. لذا تراهم يتهربون من النقاش. وسيعملون على حماية أنفسهم أكثر بإصدار قوانين أخرى مستوحاة من هذا الميثاق، غير أنها ستكون كلها قوانين إجرامية فاقدة لأدنى شرعية.
ما يهم رابطتنا هو معرفة الحقيقة حول المأساة التي عشناها. سنواصل النضال من أجل ذلك. وإذا أراد أصحاب الميثاق اللجوء إلى القمع والحبس والتعذيب فليفعلوا.

من الأكيد أنه ستتم محاولة إخماد صوت معارضي الميثاق بالترهيب والترغيب. لن يعني ذلك أن صيحات المختطفين وضحايا الاغتصاب والتعذيب ستتلاشى؟ لا طبعا. هناك أسطورة أمازيغية معروفة في كل البلدان المغاربية تقول إن صوت الضحية البريئة يبقى مدويا في مكان الجرم إلى أن يتم الاقتصاص من ظالمه. أظن المخيلة الجزائرية متشبعة بما فيه الكفاية بهذه الأسطورة.
عائلات المفقودين حقيقة لا مراء فيها. وهي لن تعلن الحداد علي أقاربها المختطفين إلا يوم تعلم علم اليقين ما مصيرهم وأين مثواهم ومن المسؤول عما وقع لهم. عدا عائلات المفقودين هناك عائلات ضحايا الإرهاب. نحن لا نفرق بين هؤلاء وأولئك. كلهم ضحايا ولكلهم الحق في المطالبة بالحقيقة والعدالة.

" لن تحل الأزمة المعنوية في الجزائر ما لم يتمكن الشعب من معرفة كل ما جرى خلال السنوات الأخيرة، وما مصير كل ضحية من الضحايا ومن المسؤول عن هذا المصير؟ " |
لو كانت وسائل الإعلام الكبرى غير مغلقة في وجوهنا لتمكنا من شرح مقترحاتنا لعدد أكبر من الجزائريين. أزمة الجزائر متعددة الأبعاد وهي في جزء منها أزمة معنوية. هناك جرائم اقترفت ولم يحاسب مقترفوها. لن تحل هذه الأزمة المعنوية ما لم يتمكن الشعب من معرفة كل ما جرى خلال السنوات الأخيرة، وما مصير كل ضحية من الضحايا ومن المسؤول عن هذا المصير؟.
نحن نقترح إنشاء هيئة تحقيق مستقلة من شخصيات حرة لا يمكن أن يراود أحدا شك في نزاهتها واستقلالها, ويمكن لها الاستعانة بخبراء أجانب (من منظمة العفو الدولية والفدرالية العالمية لحقوق الإنسان ولجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، إلخ). وتكلف بتحقيق شامل في وقائع المأساة التي عاشتها الجزائر ويجب أن توفر لها كل الوسائل اللازمة للقيام بعملها, وتكون صلاحياتها واسعة بحيث تشمل، عدا البحث والتحري، تقديم من يتملص من المثول أمامها للعدالة. ستقوم هذه الهيئة بتحقيق وافٍ وتحدد المسؤوليات. ويجب أن تبقى، طوال مدة عملها، على اتصال دائم بالرأي العام كي تعلمه بكل مرحلة من مراحل أشغالها وتحيطه علما بالعوائق التي قد تجابهها.
عندما تنتهي من صياغة تقريرها النهائي ونشره، ندخل آنذاك في مرحلة أخرى هي المعالجة القضائية لاستنتاجات التحقيق. هذه المعالجة يمكن أن تتم بالجزائر أو بمحاكم ذات صلاحية عالمية, عندها يمكن تحديد طرق ووسائل تعويض الضحايا وذوي حقوقهم. وآنئذ سننشئ نصبا يخلد ذاكرة الضحايا ونتمكن من تطهير ذاكرتنا.

تعيش الجزائر، عدا أزمة معنوية، أزمة مؤسساتية وأزمة اجتماعية خانقتين. ما سأقوله في هذا الشأن لا يعبر عن موقف الرابطة بل عن موقفي الشخصي.
يجب أن نتوصل إلى إجراء انتخابات نزيهة لا تشوبها شائبة. يجب أن نمنع من أن يتحول رئيس الجمهورية إلى مستبد يركز في يديه مقاليد كل الأمور، وهو شيء غير نادر الحدوث في كل الأنظمة الرئاسية. يمكننا تبني نظام برلماني لا تكون فيه للرئيس سلطة على البرلمان. من حق الرئيس، في النظام الحالي، حل مجلس النواب إذا صوت مرتين متتاليتين برفض برنامج الحكومة، مما يعد نوعا من الابتزاز.
يجب التوصل إلى نظام ديمقراطي يكون في الوقت نفسه واقيا من اللااستقرار الحكومي. بمعنى آخر، يجب على المؤسسة التي لها صلاحية حجب الثقة عن الحكومة أن تكون قادرة على إيجاد حكومة بديلة وإن لم تفعل يؤدي ذلك إلى حلها.
" الخطاب السائد الوحيد بالعالم حاليا خطاب الأقوياء المستفيدين من العولمة، خطاب البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، ومؤداه: "افتحوا حدودكم لبضائعنا لكننا لن نفتح حدودنا لفقرائكم" " |

تتمتع الجزائر بموارد مالية كبيرة، خصوصا في الوقت الحالي. في الوقت نفسه احتياجاتها كبيرة وفي كل الميادين. رغم كل هذا هي عاجزة عن النهوض اقتصاديا. هذا دليل على أن شيئا ما ليس سويا على مستوى السلطة. الجزائر حاليا لا تستطيع استهلاك أكثر من ثلاثة مليارات دولار من الاستثمارات المنتجة وهي تستنجد بالشركات الأجنبية في كل شيء. هذا غير طبيعي.
الخطاب السائد الوحيد في العالم حاليا خطاب الأقوياء المستفيدين من العولمة، خطاب البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية. ومؤداه ما يلي: "افتحوا حدودكم لبضائعنا لكننا لن نفتح حدودنا لفقرائكم". بل وتراهم يحتمون من فقرائنا بالأسلاك الكهربائية كما الحال في سبتة. هذا غير مقبول إطلاقا. إذا كانت السوق العالمية سوقا واحدة معولمة، فيجب أن يكون من حقنا أن نصدّر إلى أوروبا بضاعة من بضائعنا ألا وهي اليد العاملة. لِمَ نمنع من ذلك؟
لا تصدر الجزائر شيئا سوى النفط. ماذا تجني إذن من فتح حدودها لكل بضائع العالم الجيدة منها والرديئة؟ ألا يؤثر ذلك سلبا على اقتصادها؟ ألا يمنعها من حماية صناعتها وتطويرها؟ لماذا لا تبني شركات السيارات مصانع تجميع في الجزائر؟ من حقنا أن نطالب بأن يصنع نصف السيارات المبيعة في السوق الجزائرية في الجزائر.

لم يبق منها شيء يذكر. نظام الحزب الواحد تحول إلى نظام "وحيد المركز" الأحزاب فيه مجرد هياكل هامشية. الأحزاب المسماة "بأحزاب المعارضة" انمحت تماما. الجبهة الإسلامية للإنقاذ اندثرت، وهي كانت تحمل في ثناياها بذور اندثارها إذ أنها لم تكن حزبا حقيقيا. الأحزاب الأخرى موجودة لكن لا وزن لها ولا ثقل. هي مجرد تسميات ودورها في نظر النظام أنها تمكنه من الزعم بأن الجزائر دولة تحترم التعددية السياسية.
نفس الدور يلعبه البرلمان في نظر النظام أي تمكينه من الادعاء بأن الجزائر "دولة مؤسسات ديمقراطية".
لقد أفرغت التجربة 1988-1992 من محتواها ويتوجب اليوم إنعاشها. كيف ستنتعش؟ بفضل رجال أفذاذ أم عن طريق انفجارات اجتماعية جديدة؟ لست أدري.
لقد أفرغت التجربة 1988-1992 من محتواها ويتوجب اليوم إنعاشها. كيف ستنتعش؟ بفضل رجال أفذاذ أم عن طريق انفجارات اجتماعية جديدة؟ لست أدري.
ـــــــــــــــ
المصدر : الجزيرة