جنوب إفريقيا تعاني صعوبات التحول الديمقراطي

وضاح خنفر – جوهانسبيرج
يعتبر التحول الديمقراطي الذي شهدته جنوب إفريقيا عام 1994 أعظم حدث في تاريخ البلاد المعاصر، غير أن سياسات الانفتاح التي رافقت هذا التحول أدت إلى اضطراب اجتماعي وأمني مازالت البلاد ترزح تحت وطأته الثقيلة.
فقد تضاعفت نسبة الجريمة في جنوب أفريقيا خلال الأعوام الماضية أضعافا كثيرة، فجاءت سرقة العربات واختطافها الأعلى في قائمة الجريمة، تلاها القتل فالسطو ثم الاغتصاب. ووفقاً للإحصاءات فإن عربة واحدة تسرق كل خمس دقائق، كما أن 25% من العائلات عانت من جريمة واحدة على الأقل.
وتشير إحصاءات دولية إلى أن جنوب إفريقيا صارت من أهم المراكز العالمية لعصابات تهريب المخدرات والأطفال وبائعات الهوى، ولعل ذلك كله قد أفقد المواطنين الشعور بالأمن فحولوا منازلهم إلى قلاع محاطة بالأسلاك الكهربائية وأجهزة الحماية الإلكترونية.
وفي محاولة لتفسير تصاعد معدلات الجريمة يذهب البعض إلى أنها نتاج لأحداث الحقبة العنصرية، إذ شكل التحرر من النظام العنصري هدفاً رئيسياً طوال عقود من نضال الأفارقة ضد الهيمنة البيضاء، رافقتها دعوات للإخلال بالنظام واستباحة المنشآت العامة والانتقاص من هيبة الدولة. وبعد أن انزاح الحكم العنصري البغيض لم تفلح الحكومة الأفريقية في استعادة هيبة القانون أو احترام النظام العام، وجاء الدستور الجديد للبلاد لاغياً للعديد من القوانين الصارمة، إذ ألغيت عقوبة الإعدام وأبيح العديد من الأعمال التي كانت تعد جرائم يعاقب عليها القانون كالقمار والإجهاض والشذوذ الجنسي.
ويقول رئيس دائرة المعلومات بجهاز الشرطة كريس دي كوك "لقد مرت هذه البلاد بما يزيد على ثلاثين عاماً من الصراع الدامي، كنا نعاني من صراع سياسي مرير استخدم فيه العنف من كافة الأطراف، وهو ما أثر سلباً على الجميع وخصوصاً الشباب الذين كانوا أكثر تأثراً بدموية الصراع".
وتلقي أحزاب المعارضة باللوم على الحكومة وتتهمها بالعجز وعدم الجدية في محاربة الجريمة، وتقول إن الأحكام المتساهلة وإلغاء عقوبة الإعدام قد أغرت الكثيرين من مرضى النفوس بالتمادي في غيهم.
يقول عضو الائتلاف الديمقراطي آلان وين "علينا أن نتعامل بشدة مع الجريمة، يبدو أن الجريمة صارت مقبولة ومربحة في هذا البلد، علينا أن نغير ذلك، يجب أن يعرف المجرم أنه إذا خالف القانون فإنه سوف يتعرض لعقوبة قاسية".
أما المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم فيرى أن الإعلام المحلي -الذي يسيطر البيض على معظمه- قد بالغ كثيراً في موضوع الجريمة ولدوافع سياسية، مؤكداً على تراجع نسبة الجريمة في السنوات الثلاثة الماضية، وملقيا باللوم على الفوارق الاقتصادية الهائلة بين السود والبيض، وعلى تعثر أجهزة الأمن الموروثة عن النظام السابق والتي لم تستطع أن تتحول من أداة لقمع المتظاهرين إلى جهاز لكبح المجرمين.
ويرى بالو جوردان -وهو قيادي في الحزب الحاكم- أن أحد عوامل ارتفاع الجريمة هو نهاية السلطوية البيضاء، والعامل الآخر طبعا هو الفجوة الاقتصادية والأزمة التي تمر بها جنوب إفريقيا.
غير أن أجهزة الشرطة تشكو من إهمال الحكومة لمطالبها، فتدني مرتبات أفرادها وقلة أعدادهم ونقص الإمكانيات قد جعلت الأمن عرضة للنقد وهدفا سائغا للعصابات المنظمة والغنية.
ويقول كريس دي كوك إن "أجهزة الشرطة لا تعمل بشكل فاعل، هناك مشكلة في الحوافز الممنوحة للشرطة، لا نستطيع القول إنها تبعات النظام العنصري فحسب، غير أن هناك نقصاً في الإمكانات والمعلومات".
من جهة أخرى يميل العديد من الباحثين إلى التفريق بين نوعين من الجريمة، يتمثل الأول في السرقة بدافع الجوع والفقر وعادة ما يتم بجهد فردي، أما النوع الثاني فمن فعل عصابات منظمة وجرائمها أشد خطورة. وإذا كانت الفوارق الاقتصادية هي السبب الرئيسي للنوع الأول، فإن الكثيرين يعتقدون بأن تراجع البنية الأخلاقية والروحية بالإضافة إلى الانهيار الأسري تقف وراء الجريمة المنظمة.
وبحسب القس سيدرك ميسون فإن "المشكلة تنبع من الفراغ الروحي، مشكلة أخلاقية، وبالتالي لدينا مشكلة في استعادة الحس الجماعي، نفكر دوما في أنفسنا بشكل فردي".
أما رئيس الحزب المسيحي الديمقراطي كيتر فيقول "في جنوب إفريقيا كل شيء أصبح متاحاً، الصور الإباحية مضرة جداً، وكذلك مراكز القمار إنها تستنزف الفقراء والمعدمين.. المخدرات تقتل أبناء هذا البلد". ويضيف أن "الطريقة الوحيدة للقضاء على كل ذلك هو في أن نصبح أكثر تقوى واستقامة وقدرة على استعادة نسيجنا الأخلاقي".
هذا وتؤيد إحصاءات الشرطة ذلك، إذ تفيد بأن 90% من جرائم القتل والاغتصاب تتم تحت تأثير المخدرات والمشروبات الكحولية، وهو ما أشار إليه كريس دي كوك مضيفا أن "معظم جرائم القتل والاعتداء تحدث يومي السبت والأحد".
ومما زاد الطين بلة أن الازدياد الكبير في معدلات الجريمة قد أحدث اضطرابا في الجهاز القضائي، فلم تتمكن المحاكم من مجاراة معدلات الجريمة، كما أن السجون لم تعد قادرة على استقبال نزلاء جدد، وهو ما دفع إداراتها إلى إطلاق سراح الكثيرين مما أثار سخط الشارع، فوعدت الحكومة ببناء سجون جديدة بالإضافة إلى إصدار قوانين أشد صرامة في التعامل مع المجرمين.