جامع الخرقة الشريفة.. أيقونة الفاتح وحاضن البردة ومزار الأتراك في رمضان
في أيام العام العادية لا يحظى جامع الخرقة الشريفة بشهرة مساجد إسطنبول المميزة، لكنه يتحول إلى مزار في رمضان يتوافد إليه مئات آلاف الأتراك الذين يصطفون في طوابير طويلة لرؤية بردة النبي محمد صلى الله عليه وسلم

إسطنبول – تخفي أسوار إسطنبول العتيقة خلف حجارتها العريقة قصصا من تاريخ اختلطت فيه حكايات الشعوب المادية بموروث روحي لا يزال حيا في الكثير من مساجد المدينة الأسطورية، ومن بينها مسجد الخرقة الشريفة الذي يطلق عليه الأتراك اسم "جامع هركاي شريف".
فبين أزقة وشوارع ضيقة تربط حي ياووز سليم الواقع في شارع فوزي باشا بمنطقة "الأمنيات" الشهيرة الواقعة في شارع وطن اتخذت المنطقة المتربعة في حي محتسب إسكندر بقلب منطقة الفاتح التاريخية في القسم الأوروبي من إسطنبول اسمها من الجامع فصارت تعرف هي أيضا باسم "هركاي شريف".

في أيام العام العادية لا يحظى جامع الخرقة الشريفة بشهرة مساجد إسطنبول المميزة كالفاتح وسلطان أحمد وآيا صوفيا أو السليمانية، لكنه يتحول إلى مزار في رمضان يتوافد إليه مئات آلاف الأتراك الذين يصطفون في طوابير طويلة لرؤية "البردة"، وهي عباءة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- المحفوظة في ذلك المسجد.

غاب المصلون عن الجامع في العامين الماضيين بسبب الإجراءات الصارمة التي اتخذتها تركيا لمواجهة جائحة كورونا، لكنهم عادوا في أيام هذا الشهر الفضيل لعمارة المكان بعد أن رفعت السلطات قيود التجمع عن صلوات الجماعة، ومن بينها الجُمع والتراويح.

تحفة عمرانية
تصف المراجع التركية المسجد بأنه "تحفة عمرانية ونصب تذكاري جمالي تم بناؤه بدقة وعناية كبيرتين، إذ يتألف الجامع من طابقين تحيط بهما حدائق صغيرة المساحة ذات أشجار شديدة الارتفاع".
تحفظ بردة النبي في القسم الأعلى من الجامع، وفي القسم ذاته تنتشر شرفات للصلاة تطل على بهو المصلى الرئيسي وغرف الأئمة والوعاظ وقاعات لتعليم القرآن الكريم وأحكامه ودروس الفقه واللغة العربية وغيرها.

أما الطابق الأول فهو مكان للصلاة يتقدمه منبر ومحراب بالغا الزخرفة والجمال، وفيه يؤدي المصلون فروضهم، بما فيها صلاة الجمعة وتراويح رمضان.

وتعلو واجهات المسجد الداخلية تصاميم ثمانية الأضلاع تماما كما هي أضلاع المسجد الثمانية التي تقول بعض المصادر إن اختيارها جاء محاكاة لمثمن قبة الصخرة المشرفة في مدينة القدس.

كان المسجد في العهد العثماني يضم غرفة سلطانية كبيرة، وأضيف إليه جناح لإقامة أكبر الأفراد الذكور من سلالة التابعي أوس القرني الذي أهداه النبي الكريم بردته قبل أن تنقل إلى إسطنبول لتستقر في المسجد الذي حمل اسمها، إذ تعني كلمة "هركة" (Hırka) التركية "سترة من الصوف المحبوك" أو "عباءة"، وهي لفظ تركي للكلمة العربية "خرقة".

ومع مرور الزمن ألحقت كثير من الأبنية بالمسجد، من بينها مدرسة دينية أساسية وغرف للدرك المخصص لحماية العباءة الشريفة.

ويقوم بناء المسجد وسط أسوار حراسة ممتدة من الشرق إلى الغرب، وله 3 أبواب ضخمة تفتح على الحدائق المحيطة به من النواحي الشمالية الغربية والشمالية الشرقية والجنوبية الشرقية، ومدخله الرئيسي يفتح إلى الشرق، وقد صنعت الأبواب من الخشب المزخرف بالزنك، ولها مقابض كبيرة من الحديد المعقوف.

بطاقة المسجد
تاريخ التأسيس: بدأ بناؤه عام 1847 وافتتح عام 1851 ميلادي.
عهد الحكم: السلطان العثماني عبد المجيد.
طراز البناء: الطراز الإسلامي.
مصمم البناء: سيد عبد الحليم أفندي.
عدد الطوابق: اثنان
عدد الأبواب: 4
عدد الشرفات: شرفة واحدة.

قصة البردة
ولرحلة بردة الرسول الكريم من المدينة المنورة إلى إسطنبول قصة شيقة، إذ يُروى أن التابعي أويس القرني سار مسافة طويلة من اليمن إلى المدينة المنورة للقاء النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما وصل المدينة كان النبي في غزوة تبوك، واضطر التابعي للعودة إلى اليمن للعناية بوالدته التي كانت تعاني المرض، دون أن يكتب له لقاء الرسول.
وعندما علم النبي -عليه السلام- بخبره أوصى كلا من علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- بإعطاء البردة التي كان يرتديها في رحلة الإسراء والمعراج للتابعي اليمني الذي تسلمها وظلت معه حتى استشهد في معركة صفين عام 37 هجري (657 ميلادي) وهو يقاتل إلى جانب الخليفة الرابع علي بن أبي طالب.

ورث شقيق التابعي القرني البردة التي أخذت تنتقل بين الأجيال المتعاقبة من آل القرني في حلهم وترحالهم واستقرت في إسطنبول بعد استدعاء العائلة إليها بمرسوم من السلطان أحمد الأول عام 1611 ميلادي، وظلت في عهدة العائلة إلى أن تم بناء مسجد الخرقة الشريفة الذي حمل اسمها وبني أساسا ليكون حاضنا لها.

مزار كبير
لا تعرض البردة على المصلين في أيام العام العادية، فهناك ساعات محددة تخصص لعرضها أمام المصلين في صلوات الجمعة بشهر رمضان المبارك، وتتم إتاحة المجال لرؤيتها يوم 27 رمضان في كل عام حتى صلاة فجر اليوم التالي.
ويتهافت الزوار الأتراك من مختلف الولايات إلى جامع الخرقة الشريفة في 27 رمضان، إذ تخصص شوارع المنطقة بالكامل لاستيعابهم، فتمنع حركة سير المركبات في محيط الجامع الذي تتجمع حوله حشود الزوار في طوابير طويلة.

وتقام في محيط الجامع خلال ساعات الانتظار بازارات تباع فيها السبح والتمور والبخور والكتب الدينية ومنتجات الطعام الرمضانية التي تشتهر بها المناطق التركية المختلفة، كما تمتد موائد الإفطار للزوار في عرض الشوارع المحيطة بالمسجد، إذ يتسابق الجيران وأهالي المنطقة لتقديم طعام الإفطار لضيوف المسجد طلبا للأجر في أواخر الشهر المبارك.