المسجد العمري الكبير في غزة.. اندحر الغزاة وبقي شامخا
غزة- مشيرا إلى موقع قدمه يقول الثمانيني الفلسطيني محمد حسين هنية "أتمنى أن ألقى الله وأنا أرفع الأذان هنا في العمري"، حيث يرفع الأذان منذ نحو 4 عقود في "المسجد العمري الكبير" ثاني أعرق المساجد وأقدمها في فلسطين بعد المسجد الأقصى المبارك، والثالث من حيث المساحة بعد الأقصى ومسجد "أحمد باشا الجزار" في مدينة عكا داخل فلسطين المحتلة عام 1948.
هنية من مواليد عام 1939، وهو لاجئ فلسطيني عاش سنوات طفولته الأولى في مدينة يافا قبل النكبة عام 1948، يعتمر كوفية وتكسو وجهه لحية بيضاء، غير أن العمر لم يترك أثره على ذاكرته وتمتعه بروح الفكاهة والدعابة.
أقدم المؤذنين
ويرتبط المؤذن هنية بعلاقة عاطفية مع المسجد العمري، الذي يجاور منزله في قلب غزة القديمة، ويلازمه طوال ساعات النهار، ولا يكاد يغادره -لأمر ما- حتى يعود سريعا إلى مجلسه فيه مقابل المحراب، ويقول إنه بدأ رفع الأذان تطوعا في مسجد صغير في حي الدرج، أحد أعرق الأحياء في مدينة غزة، قبل رحلته الطويلة كمؤذن للمسجد العمري.
ويضفي هنية بصوته العذب، وأدائه المميز في الأذان، هالة من الجمال على هذا المسجد، ويقول إنه يشعر بكثير من الفخر عندما يصفه الناس بـ"مؤذن العمري"، وبكونه أقدم المؤذنين في قطاع غزة.
ويتذكر هنية المرة الأولى التي وقف فيها مؤذنا في المسجد العمري، عندما ألح إلى حد الرجاء على المؤذن "أبو السعيد رحمه الله"، وسمح له بالأذان، وتكرر الأمر بعد ذلك، عندما وجده مُجيدا لأحكام الأذان ويتمتع بصوت جميل، حتى خلفه بشكل دائم بعد وفاته.
ويختصر هنية ما يشعر به أثناء رفع الأذان، بقوله "أنسى نفسي والعالم"، ويتابع وقد ارتسمت ابتسامة على وجهه "لسنا مطربين، ولكننا نتغنى بالأذان من أجل الله.. وأتمنى على الله أن أكون من بين الأطول أعناقا يوم القيامة".
اقرأ أيضا
list of 4 itemsمسجد عتيق.. الجامع الذي وحّد القرى وأسس مدينة أصفهان الإيرانية
تجديد مسجد الحسين يعيد جدل أزمات ترميم الآثار بمصر
كأنه سفينة تطفو فوق الماء.. المسجد العائم في جدة شاهد على جمال العمارة
ارتباط عاطفي
علي الأصيل (87 عاما) من رواد المسجد العمري منذ 55 عاما، يقول -للجزيرة نت- إنه يحرص على أداء الصلوات الخمس، ويقضي أجمل لحظات يومه بين جنبات هذا المسجد، يصلي ويقرأ القرآن، ويتجاذب أطراف الحديث مع القليل ممن تبقى من جيله على قيد الحياة.
وعن المؤذن هنية، يقول الأصيل إنه أصبح كأحد أعمدة المسجد العريقة، وركنا أصيلا منه، وعليه تقع أولى نظرات رواد المسجد، بهيئته المعتادة، وابتسامته، وبالركن الذي يلازمه منذ عقود طويلة.
وقال إن أجواء المسجد تزداد بهاءً خلال أيام وليالي شهر رمضان المبارك، والمحظوظ من يجد له مكانا داخل المسجد رغم اتساعه ومساحته الكبيرة.
ويؤم المسجد 3 آلاف مصل لتأدية الصلوات الخمس يوميا طوال شهر رمضان، ويرتفع العدد إلى 5 آلاف في ليلة الـ27 من الشهر، التي اعتاد أهالي غزة على إقامتها بالصلاة والدعاء باعتبارها "ليلة القدر"، بحسب تقديرات وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في غزة.
جذور تاريخية
في غزة القديمة، التي تعرف اليوم بـ"البلد"، يقع "المسجد العمري الكبير" على مساحة 4100 متر مربع، وله 5 أبواب، تفضي إلى شوارع وأزقة عريقة، تروي تاريخ حضارات استوطنت غزة، وغزاة مروا عليها واندحروا وبقيت غزة راسخة شامخة.
كانت المساحة المقام عليها المسجد العمري قديما معبدا وثنيا وسط مدينة غزة، وظل كذلك حتى أقام الرومان على أنقاضه "كنيسة برفيريوس" بعد احتلالهم بلاد الشام سنة 407 ميلادي، بحسب شرح تفصيلي قدمه -للجزيرة نت- المرشد السياحي للمسجد طارق هنية الموظف بوزارة الأوقاف.
ويضيف: "ظلت هذه الكنيسة قائمة حتى الفتح الإسلامي لغزة عام 634 ميلادي، بقيادة الصحابي عمرو بن العاص في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، وحينها اعتنق غالبية سكان غزة الإسلام، إلا قلة ظلت على المسيحية، وتم الاتفاق بين السكان وكانوا "أبناء عمومة" على إقامة مسجد على المساحة الأكبر خاص بالأغلبية المسلمة، وإقامة كنيسة على مساحة أصغر لا تزال قائمة حتى اليوم وتحمل الاسم نفسه "كنيسة برفيريوس".
لكن ذلك المسجد ليس هو ذاته بهيئته الحالية، حيث يوضح هنية أن الحملة البيزنطية عام 1149 ميلادي، دمرت المسجد، وأقامت على أنقاضه كنيسة، لا تزال 3 أروقة من آثارها قائمة حتى اليوم، ولم يدمرها المسلمون، حفاظا على التاريخ، وفقا لهنية.
تحفة معمارية ومنارة علمية
وأعيد بناء المسجد مجددا بعد انتصار الناصر صلاح الدين الأيوبي وإعادته بيت المقدس وأرض فلسطين إلى حضن الدولة الإسلامية عام 1192 ميلادي، ومنذ ذلك الوقت شهد المسجد تحسينات، وأضيف إلى بنائه ومساحته أروقة وأبوابا في العهدين المملوكي والعثماني.
وجاء في وصف المسجد للمؤرخ الراحل عثمان مصطفى الطبّاع، يقول فيه إن "الجامع العمري الكبير الكائن بوسط مدينة غزة بالقرب من سوقها، وهو أعظم الجوامع وأقدمها وأحسنها وأمتنها وأتقنها، وفيه بيت كبير قائم على 38 عمودا من الرخام وأسطوانات متينة البناء، وفي وسطه قبب مرتفعة على عمود فوق عمود من الجانبين".
ويقول هنية إن مئذنة المسجد من أشهر معالمه، وهي نموذج من الطراز المعماري المملوكي، بنيت على شكل مربع في النصف السفلي، ومثمنة في النصف العلوي، واستخدم في بنائها الحجر من القاعدة إلى الأعلى، بما في ذلك النصف العلوي المؤلف من 4 مستويات، أما قمة المئذنة فيتكون معظمها من الخشب والبلاط، على غرار معظم المساجد في بلاد الشام.
والمسجد العمري تاريخيا منارة علمية، يقصده الباحثون عن العلم، حيث كان يضم مكتبة تزخر بآلاف الكتب والمخطوطات في مختلف أنواع العلوم والآداب، ورغم ما تعرضت له من سرقة وتدمير إبان الحروب الصليبية، والحملة الفرنسية، والقصف البريطاني للمسجد في الحرب العالمية الأولى، إلا أنها لا تزال تحتفظ بقيمتها وتبقى واحدة من أعرق المكتبات في مساجد فلسطين.