أكلة وقصة من الجليل إلى النقب.. مشروع استعادة خارطة طعام فلسطين
يقول النابلسي "دائما تُطرح الكبة النية على أنها أكله لبنانية، رغم أن أفضل من يصنعها على مستوى إقليمي هن نساء يركا" غرب الخليل.
رام الله- عندما سألنا الباحث رازي النابلسي عن المشروع خلال أمسية إطلاق مشروعه البحثي "أكلة وقصة" في قاعة مؤسسة عبد المحسن القطان برام الله، قال إنه ينطلق "من سؤال ما هي فلسطين وحدودها؟".
بدت الإجابة بعيدة عن السؤال، ولكنه فسر بأن خارطة الطعام الفلسطينية تبعثرت كما الخارطة الجغرافية بفعل الظروف السياسية، وما يسعى إليه بهذا المشروع هو استعادتها من جديد، مجتمعة دون حدود احتلالية وحواجز وخط أخضر ولا جدار عازل.
قصة "ست المعدلات"
ومن الجليل حيث ينتمي، كانت "أكلة وقصة" البداية. الكبة النية وقصة "ست المعدلات" التي تقوم بإعدادها السيدة بدر (70 عاما). وفي عرض الحكايتين كانت حكاية فلسطين من زمن الدولة العثمانية، إذ يعتقد أن الأتراك من أدخلوا الفلفل الأحمر، أحد مكونات الأكلة، إلى بلادنا.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsبالفيديو.. أكبر وجبة مسخن بشكل خارطة فلسطين حفاظا على هوية طعامها
شيف اليوم علي أبو طير.. سفرة رمضانية فاخرة بنكهة فلسطينية
“أبيض أو أخضر”.. أول أكلات المائدة الفلسطينية في رمضان
مرورا بالانتداب البريطاني الذي أدخل بهار "أبو ريحة" من جاميكا، وهو أبرز ما يميز المطبخ في الجليل. وصولا إلى الاحتلال الإسرائيلي الذي فرضت سياساته العنصرية على السيدة بدر العيش في غرفتي تسوية أسفل منزلها، وتترك منزلها لأحد أبنائها بسبب منع الفلسطينيين من التوسع في البناء بالقرى العربية.
يقول النابلسي للجزيرة نت "اليوم تتم قراءة وتعريف المطبخ الفلسطيني بشكل ناقص، وكجزء من النظام السياسي الذي يعرف فلسطين على أنها الضفة والقطاع".
البحث عن طعم ورائحة الجليل
وبدأ التفكير في هذا المشروع البحثي التوثيقي، الذي احتضنته مؤسسة عبد المحسن القطان بالدعم، من قبل النابلسي انطلاقا من أسئلة كانت برأسه عن الفرق بين الوصفات والأكلات من الجليل حيث أمضى طفولته وبين نظيراتها في القدس التي مكث فيها للدراسة، ثم رام الله التي سكن فيها للعمل، وسلفيت بلدة زوجته. سنوات يحاول استعادة طعم ورائحة الأكلات التي كانت تطبخها والدته في هذه المناطق دون جدوى.
هذه الأسئلة اكتملت في رأسه عندما كان يرافق صديقه الشيف سعيد سويدان لتعلم الطبخ الفلسطيني من والدته في الجليل. ولسويدان قصته أيضا في البحث في الأكل الفلسطيني، وهو ابن مدينة حيفا، استكمل شغفه بتعلم الطبخ بعد دراسته الفلسفة وعلم الاجتماع. درس الطبخ ومارسه في مطاعم في الخارج.
وبعد سنوات بدأ ينتبه إلى أنه لا يتقن إعداد الأكلات الفلسطينية، فوالدته السويسرية لم تكن تعده بالبيت. وهو ما جعله يعود لفلسطين بحثا عن أسرار المطبخ الفلسطيني.
سويدان (32 عاما) يعتقد أن المطبخ الفلسطيني لم يؤخذ حقه في التوثيق والانتشار في العالم، وهو ما يسعى إليه من خلال هذا البحث. وتابع للجزيرة نت "مطبخنا الفلسطيني مبدع وفيه كثير من التفاصيل التي تستحق أن تصل للعالم ويتحول إلى مطبخ عالمي".
ويرى سويدان خصوصية أخرى في تعلم هذا المطبخ من أصحاب الخبرة، وخاصة السيدات من كبار السن اللواتي يملكن أسرار هذه الوصفات بالتفصيل. وقال "للأسف الجيل الجديد لا يهتم بهذه الوصفات، ولا يتقنها بالكامل".
4 مطابخ لا واحد
كانت نافذته الأولى في التعرف على المطبخ الفلسطيني من الجليل، وتحديدا وصفات والدة النابلسي بحكم الصداقة التي تجمعهما. ومن هنا كان البحث الذي يجيب عن أسئلة الباحث ويعزز خبرة الطاهي.
يقول النابلسي "الإجابة الأولى التي توصلنا لها بعد أشهر من البحث أننا نتعامل مع عدة مطابخ مختلفة ولا يوجد مطبخ فلسطيني واحد. مشروعنا أن ندرس هذه المطابخ ونضع خطوطا واضحة وصولا لصياغة خارطة طعام فلسطين".
وبحسب النابلسي، فإن المطعم الفلسطيني اليوم مشتت بين ما يطرحه اللاجئون عن أكلات المناطق التي هجروا منها، وبين مطبخ الجليل الذي يقدمه فلسطينو الداخل المحتل، ومطبخ الضفة والقدس، دون التطرق إلى أن فلسطين قبل أن تتحول إلى مستعمرة كانت جزءا من امتدادها العربي التاريخي الذي تأثرت بمطابخه وأثرت فيها.
وتابع "هنا نحاول معرفة ماذا يعني المطبخ الفلسطيني كجزء من الهوية الثقافية التي تشكل فلسطين؟".
وبحسب المشروع، سيتم البحث في مطبخ الجليل، ثم مطبخ المناطق الممتدة من المثلث وطولكرم ونابلس وسلفيت وجنين، ثم مطبخ المركز الذي يشمل القدس ورام الله وبيت لحم والنقب، وصولا إلى المطبخ الغزي.
وبينما كان الباحث النابلسي يروي سردية الكبة النية في الجليل، كان الشيف سويدان يعدها أمام عشرات الحاضرين، مستذكرا وصايا بدر أثناء عجن البرغل مع الفلفل الأحمر "شدّ أيديك" والإكثار من بهار "أبو ريحة"، وأن تكون اللحمة من "السخل" الأسمر، ويكثر من صب زيت الزيتون عليها.
أكلة الأعراس وفك الحداد
وهذه الكبة ليست أكلة عادية، يقول سويدان، فقد ارتبطت بمناسبات اجتماعية في هذه المناطق، فهي "أكلة الأعراس"، وعندما تطبخها العائلات التي فقدت فردا منها يعني أنها فكت حدادها.
ولإعداد الكبة في هذه المناسبات طقس جماعي، حيث اعتادت نساء الجليل التجمع فجر يوم العرس لـ"دق" اللحمة بالجرن، وعجن البرغل لتقديمها لكل من يحضر العرس، وهي المهمة الصعبة التي تحتاج لسنوات من الخبرة لتحصل إحداهن على ثقة أهالي بلدتها بأنها "تتقن" الكبة النية، كما هي حال بدر.
ويتشابه إعداد الكبة النية، كما يقول سويدان، في كل بلدات الجليل، إلا في "يركا"، الواقعة في السفوح الغربية لجبال الجليل الأعلى، حيث يستخدم الفلفل الأحمر الحار في عجن البرغل، ولا يتم استخدام الزيت في العجن، بل يوضع على الطبق النهائي.
كما أن "كبة يركا" مختلفة بطقسها الاجتماعي، فهي تقدم لأي ضيف تستقبله العائلات هناك، فهي حاضرة دائما في الأعراس وغيرها. يقول النابلسي "دائما تُطرح الكبة النية على أنها أكلة لبنانية، رغم أن أفضل من يصنعها على مستوى إقليمي هن نساء يركا".