كي الملابس بحرارة الفحم.. مهنة من عبق الماضي تستمر في إدلب السورية
يقول دهنين إن مكواته التي ورثها عن أبيه مكونة من الحديد والرمل وصنعت في فترة ما بعد رحيل الانتداب الفرنسي عن سوريا.

شمال سوريا- لأكثر من 45 عاما وأهالي إدلب لا يعرفون رجلا يعمل في كي الملابس بحرارة الفحم سوى "عبدو دهنين"، إذ اعتادوا على إرسال ملابسهم إلى دكانه الصغير في حي زقاق الحمام، قبل أن يطيح التطور التقني وظهور مكاوي الكهرباء والبخار بقسم كبير من عمله، ويصبح حالة فريدة من نوعها تحافظ على تقاليد المهنة وأدواتها القديمة.
وعندما تنظر إلى دكان المسن دهنين الواقع في أحياء إدلب القديمة؛ تشعر كأن الزمن عاد بك لعشرات السنين، إذ كل ما في المكان يحيلك إلى سنوات خلت، ويخيل لك أن هذا المسن الستيني يؤدي مشهدا دراميا في حقبة زمنية قديمة من خلال كل شيء حوله، بدءا بمكواته الحديدية القديمة وكرسي كي الملابس، وانتهاء بالجدران المعتمة والساعة وشهادة مزاولة المهنة.

طقوس المهنة
وحتى اليوم يقوم عبدو دهنين (69 عاما) بتسخين مكواته على موقد الغاز أو منقل الفحم؛ وهي طريقة يصفها بأنها أفضل السبل للحصول على نتيجة عمل ممتازة، حيث يغطي الملابس بقطعة قماش منعا لاحتراقها من حرارة المكواة، فإن حدث ذلك فسوف يخسر ما تبقى من زبائنه في السوق.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsنجا من الحربين العالميتين وشهد عهدي الاستعمار والاستقلال.. أعرق مطعم في ماليزيا ينهار أمام جائحة كورونا
بيت السدو الكويتي معلم تراثي معني بتقاليد النسيج
بالفيديو.. سوق الصدرية التراثي شاهد على ماضي بغداد وذاكرتها
ويقول دهنين إن مكواته التي ورثها عن أبيه مكونة من الحديد والرمل وصنعت في فترة ما بعد رحيل الانتداب الفرنسي عن سوريا.
ولا ينكر دهنين -في حديثه للجزيرة نت- أن كي الملابس على البخار أسلوب جيد، لكن طريقته التقليدية يصفها بأنها الكي الأصيل القديم الذي لا يماثله شيء، مؤكدا أنه آخر من يعمل في هذه الطريقة التقليدية في إدلب وربما سوريا، فكل من يعرفهم من العاملين في هذه المهنة والطريقة فارقوا الحياة.

خبرة متوارثة
اكتسب المسن دهنين خبرته الكبيرة في مصلحة كي الملابس منذ صغره وورث المصلحة عن أبيه وأصبحت هذه المهنة مصدر دخله الوحيد، ولاحقا قام بتعليم إخوته العمل بها وأصبحوا اليوم يعملون بها ومنهم من توجه إلى صباغة الملابس.
لكن الفرق بين هذا المسن وإخوته أنهم واكبوا التطور في المهنة وباتوا يمتلكون محال للصباغة وكي الملابس بالبخار والكهرباء، في الوقت الذي بقي دهنين على حاله ولم يستطع مجاراة الزمن ومواكبة العصر الحديث، عازيا الأمر إلى ضعف إمكاناته المادية وعدم قدرته على شراء الأدوات الجديدة الباهظة الثمن.
ويحاول دهنين تعزية نفسه بعبارة "من ليس له قديم ليس له جديد" كناية عن أصالة مهنته والأدوات التي باتت من الماضي وتجاوزها الوقت والعصر.

مكاسب ضئيلة
في السابق كان العمل يدر دخلا معقولا على دهنين، وكان الأهالي لا يرتدون الملابس والبدلات والمعاطف دون كيها في دكانه، وكان حينها يقوم بكي أكثر من 40 قطعة ملابس، بينما اليوم قلة من السكان تزور دكانه وتطلب منه هذه الخدمة، التي أصبحت أشبه بكماليات الحياة في منطقة تشهد حربا منذ 10 أعوام.
واليوم يكسب من العمل بضع ليرات تركية بالكاد تكفيه لتأمين قوت يومه من الطعام والشراب، لكن كثيرا من الأوقات لا يأتي أحد من الزبائن فيعمد المسن الإدلبي إلى شراء ملابس من البالة ومن ثم كيها وتعليقها أمام متجره، بهدف عرضها للبيع.

ورغم المكاسب المادية الضئيلة، فإن دهنين لا يقبل أن يغلق دكانه الصغير، فهو مستمر بعمله ما دام يملك الصحة والعافية، والجلوس في المنزل يصيبه بالمرض والحزن ويقلب عليه المواجع، كما يقول.
ويتشارك دهنين مع الآلاف من السوريين في شمال غربي البلاد في حالة الفقر وتردي الأوضاع المعيشية، إذ يعيش 97% من سكان المنطقة في فقر مدقع، اعتمادا على المساعدات الإنسانية من الغذاء والدواء والخدمات الأساسية الأخرى، وفق فرحان حق نائب المتحدث باسم أمين العام للأمم المتحدة.