هكذا يزاول أقدم ساعي بريد في البصرة مهنته في زمن الإنترنت
يشكل كل من التطور التكنولوجي وتطبيقات التواصل الاجتماعي وشركات النقل للقطاع الخاص التحدي الذي قد ينهي هذه المهنة بشكل كامل.
البصرة – بين أجواء مناخية متغيرة وتحت أشعة الشمس الملتهبة والبرد القارس، يؤدي ساعي البريد عمله بانتظام فيرسم البهجة على وجوه عوائل تنتظر أخبار الأهل والأقارب في دول المهجر بمختلف بقاع الأرض، حيث ما زالت للرسائل الورقية قيمة اجتماعية بالغة الأثر.
ويشكل كل من التطور التكنولوجي وتطبيقات التواصل الاجتماعي وشركات النقل للقطاع الخاص التحدي الذي قد ينهي هذه المهنة بشكل كامل، لتصبح مهنة تراثية تعتز بها المجتمعات كون ساعي البريد "موظفا يوزع الرسائل والطرود البريدية بأنواعها إلى المرسل إليهم حسب العناوين المدونة عليها، مرتديا زيا رسميا موحدا ومعتمدا من قبل المشغل يدل على صفته".
اقرأ أيضا
list of 4 itemsأول عراقي يقيم مزرعة لتمور البصرة في أريزونا الأميركية
رغم أنها لا تدر المال.. خزاف عراقي يتمسك بمهنته ويبدع في تحويل الأواني إلى لوحات سومرية وبابلية
شجر البطم في العراق.. شاهد كيف يستخلص منها العلك المر وحبات السبح الغالية
يتمتع ساعي البريد إياد عبد الله محمد العزاوي (58 عاما) بخبرة تمتد إلى 27 سنة خدمة في دائرة اتصالات وبريد العشار في محافظة البصرة (جنوبي العراق)، ويحظى بتكريم واهتمام اجتماعي ونقابي لمهنته التراثية التي ترسم البهجة والفرح على من يقبل عليهم.
يقول العزاوي عن أحد المواقف الصعبة التي مرت به "في أحد أيام الشتاء البارد، وردتني رسالة من بريطانيا إلى مواطن بصري صاحب مكتب عقارات في البصرة. وعندما توجهت إلى مكتبه من أجل إعطائه البريد، رحب بي ولكن بإشارة غامضة بعض الشيء، وضعت عليها علامة استفهام".
ويضيف العزاوي "قال لي متسلم الرسالة: إذا كانت تتضمن تعويضا عن سيارتي التي دهستها مدرعات القوات البريطانية، فسوف أكرمك. وإن كان عكس ذلك، فسوف أعطيك قدح ماء وأقول لك مع السلامة. وقبل أن يفتح الرسالة، قلت له: إكرام الضيف واجب؛ فأكرمني بقدح ماء ووقع لي على وصل استلام الرسالة. تعلمت عمل الخير بدون مقابل".
مهنة ساعي البريد علمت العزاوي العمل الدؤوب وحب الناس؛ فهي مهنة مغروسة في أعماق قلبه طوال 27 عاما من العمل. ورغم كل الظروف والمصاعب، فإنه يقدس المهنة ويعدها أمانة ظلت تلازمه على مدى تلك السنين.
تتجه إلى الانقراض
تقول الباحثة في التراث الاجتماعي نوال جويد إن "عمل ساعي البريد انحسر في الوقت الحاضر، وأصبح من المهن القديمة بسبب تطور وسائل التواصل وسرعتها؛ فلم نعد ننتظر الرسائل الورقية ولا نكتبها، إذ كانت تبقى لأشهر في صناديق البريد حتى تصل إلى وجهتها. أصبح العالم الآن قرية صغيرة؛ نعرف الأخبار ونتواصل مع الأحبة لحظة بلحظة".
وتضيف جويد "للرسائل الورقية وكتابتها متعة نفتقدها الآن، إذ كنا نسطر الكلمات ونتفنن بتلوين الورق ونرشه بالعطر ليصل للأحبة بصورة جميلة رغم الانتظار لتصل الرسالة، ورد الجواب يكون فيه من اللهفة والمشاعر التي نفتقدها الآن".
يقول العزاوي إن تفاعله مع أبناء المدينة مفتاح نجاح عمله، ويضيف "كثير من أهل البصرة يساعدونني ويلقون التحية علي أينما أذهب، وخلالهم شققت طريق نجاحي. ودراجتي وزيي الخاص يعدهما أهل المدينة من التراث القديم".
يمثل ساعي البريد حضارة وتراث. تجوله بين الناس وتقديمه رسائل إيجابية من خبرته في الحياة تسعد كل من جالسه ويأخذ معه صورة تذكارية؛ كونه يمثل الماضي برسائل محبة وسلام لفظية وورقية والابتسامة تعلو محياه رغم ظروفه الحياتية الصعبة.
مصاعب جمة
لم يستسلم العزاوي للتطور التكنولوجي؛ فعمله جزء من تراث اجتماعي وهوية ثقافية، ويقول "واجهت خلال عملي ساعي بريد كثيرا من المصاعب، أولها عدم الاهتمام الحكومي بهذا التراث". ويشير إلى أن ساعي البريد صمام الأمان لوزارة الاتصالات والبريد، لأنه يعمل بجد وإخلاص ولكن -مع الأسف- لم يحظ بحقوقه المسلوبة، ويخضع للتجاهل المتعمد -في بعض الأحيان- من قبل الحكومة، لكنه يستمر بهذه المهنة لحبه لها ومن أجل محبته لمجتمعه كونه أقدم ساعي بريد في العراق.
وعن أصعب موقف مر به وتسبب له في مرض مزمن، يقول العزاوي إنه في أحد الأيام كانت العواصف الترابية تملأ الطرقات بينما كان يسير متجها إلى تحقيق هدفه لإيصال إحدى الرسائل البريدية إلى أصحابها، مسرعا بدراجته الهوائية، "لكن العاصفة الرملية حالت دون ذلك، وتزامن ذلك مع حادث دهس تعرض له أحد الكلاب السائبة، مما دفعه للنباح علي، وهربت من شدة الموقف، ولكن الأذى شملنا، وبعد هذا الموقف المؤلم أصبت بمرض السكري".
يواجه التنمر -في بعض الأحيان- من قبل البعض بسبب التطور ووجود الإنترنت؛ إذ يسخر البعض من ساعي البريد، ويلقون على مسامعه كلمات تنمر مؤذية، لكنه يستقبلها بابتسامة، كما أن قيافته الجميلة ودراجته الأنيقة تغير وجهة نظر البعض ويبقى ساعي البريد من التراث.
يقول العزاوي "من المواقف الطريفة التي حدثت معي في أثناء عملي وأنا متجه إلى إحدى الشركات الأهلية لتسليم ظروف بريدية، صادفت أحد المجانين الذي اقترب مني وخطف أحد الظروف البريدية وهرب، ولم أسترجعه منه إلا مقابل عصائر وإحدى الوجبات السريعة. ولكن الموقف كان مرهقا لي جدا، لأن القانون يعاقب بالحبس لمدة 7 سنوات إذا فقد أحد الظروف البريدية".
تمتاز مهنة ساعي البريد بالعلاقات الاجتماعية والإنسانية والرسمية لكثرة التواصل مع المجتمع بشكل مباشر، ويقول العزاوي "في بعض الأحيان تصل إلينا ظروف لا تحمل عنوانا واضحا أو تحمل أرقام هواتف خاطئة، فأضطر إلى التواصل مع الشخص المرسل للتعرف على المرسل إليه، ولكن يصعب في بعض الأحيان معرفة عنوان المرسل لحدوث خطأ في رقم الهاتف، وقد يستغرق الأمر أحيانا أكثر من 4 أشهر للوصول إلى صاحب الرسالة".