الشخصية النرجسية.. حينما تستمتع باللعب على مشاعر الآخرين
يعاني النرجسي من اضطراب الشخصية الذي يتميز بنمط العظمة طويل الأمد والحاجة الماسة للإعجاب، حيث تجده دائم الاهتمام بمظهره وحضوره أمام الآخرين، ووفقا لنظرية عالم النفس سيغموند فرويد عن اضطراب الشخصية النرجسية التي أوضحها في أطروحته التي نُشرت عام 1914 بعنوان "مقدمة إلى مفهوم النرجسية" فإن الشخص النرجسي يتميز بالغيرة من الآخرين، والعجرفة عليهم، وفرط الحساسية تجاه آرائهم، وعدم تقبلها، بالإضافة إلى السخرية منها، فيعتقد الشخص بتميزه وفرادته عن غيره، إذ يمتلك شعورا متضخما بأهميته، ويستحوذ عليه وهم النجاح والتألق والانشغال في المبالغة بإنجازاته.(2،3)
بالإضافة إلى ذلك، فإنه يعتمد على الآخرين في حصوله على قيمته الذاتية، كما أنه يعتقد بكونه شخصا أساسيا وذو أهمية قصوى في حياة من حوله، حيث لا يقوى أحد على الاستغناء عنه. فخلف الشخصية الواثقة في نفسها حد التمرد تقبع شخصية أخرى -مختلفة تماما- متمركزة حول ذاتها ومعجبة بنفسها حد التضخم، متفننة في اللعب على مشاعر الآخرين وعقولهم، وعلى عكس ما يظهره هؤلاء الأشخاص من الجرأة والدبلوماسية والاستقرار، فهم يفتقرون إلى الاستقرار النفسي والسلام الداخلي حيث يعانون من القلق المستمر، ويلحظ عليهم الانفعال من النقد الموجه لهم ويرفضون سماع الرأي المخالف لرأيهم.(4)
الشخص النرجسي يستشعر عدم انتمائه للأماكن والأشخاص في معظم الوقت، حيث يسعى عقله باستمرار إلى مطاردة شخص جديد ليلفت انتباهه ولينال إعجابه، مما يعني تجدد الموارد التي يستمد منها ثقته بنفسه واحترامه لذاته. فالنرجسي لا يرضيه شخص واحد، ونادرا ما يستمر في علاقة عاطفية لفترة طويلة، إذ يسعى دائما إلى العلاقات العابرة قصيرة المدى التي تخضع للشروط التي يضعها، فالدافع الأوحد لدخوله لأي علاقة عاطفية هو محاولة إيجاد شخص يملأ الفراغ بداخله، وأن يكون متاحا دائما لتلبية احتياجاته ورغباته وإمداده باحترام الذات، وهو ما يفسر سبب وقوع الكثير من الشخصيات أو الضحايا في شباك الشخصية النرجسية، فالشخص النرجسي بارع في التلاعب بالمشاعر، خاصة في بداية علاقاته العاطفية، فكل شيء يقوم به ليس حقيقيا كما يبدو، وإنما يكون دافع التصرف مبنيا ليبدو جاذبا للطرف الآخر، وقد يسعى الطرف الآخر من العلاقة -في كثير من الأحوال- إلى بذل أقصى جهده في محاولة تغيير صاحب الشخصية النرجسية، لكنه يصاب بخيبة الأمل في نهاية المطاف لعدم قدرته على ذلك.(6)
بعد المرحلة الأولى، وحين تأكد الشخص النرجسي من حب الطرف الآخر له وتيقنه من كونه الملجأ الوحيد والملاذ الآمن ومركز اهتمام الطرف الآخر، يبدأ النرجسي في بإسقاط أقنعته والكشف عن شخصيته الحقيقية، إذ يختفي الاهتمام المبالغ فيه الذي غرق فيه الطرف الآخر في البداية فجأة، لتظهر اللامبالاة على تصرفات الشخصية النرجسية بصورة جلية، تمر الأيام والأسابيع دون رؤية الطرف الآخر أو الاتصال به والاطمئنان عليه، مما يصيب الطرف الآخر بالارتباك والحيرة، فهو لا يدري ما الذي طرأ، ليبدأ في التساؤل عن ماهية الخطأ الجسيم الذي ارتكبه والذي اجتر هذا التغير والتحول المفاجئ.
ليجد الطرف الآخر أن التحول لم يبن على ذنب واضح، عدا عن كونه وقع في شراك شخصية نرجسية يصيبها الملل بشكل مفاجئ وسريع، حينها يصبح الشخص النرجسي أكثر مزاجية، ليتعمد التقليل من شأن الطرف الآخر، وإلقاء اللوم عليه، ثم الاختفاء معظم الوقت، والانسحاب لخلق حدود فاصلة بينه وبين الطرف الآخر. يحدث كل ذلك لأن الفراغ الذي يسكن داخل الشخص النرجسي بدأ في الظهور مجددا، وشريكه الحالي لم يعد يحمل بريقه السابق ليملأ هذا الفراغ كما حدث في البداية.(8)
حيث يقترح هذا النموذج أن النرجسيين يسعون إلى تضخيم واحترام الذات بطريقة ثنائية الأبعاد تعتمد على بُعدي الإعجاب والمنافسة، فينطوي بُعد الإعجاب على الرغبة الملحة في الحصول على قبول الآخرين بالإضافة إلى الثناء والتقييم الإيجابي الذي يحب أن يحظى به النرجسي من الآخرين، بينما ينطوي بُعد المنافسة عند النرجسيين على حماية النفس من وجهات النظر والتقييمات السلبية وذلك عن طريق إقصاء الآخرين والانتقاص منهم، فمن خلال بُعد النرجسية الأول (الإعجاب) يرى الشخص النرجسي نفسه عظيما ومميزا، كما يرى أنه بارع في التعامل مع الناس، بينما يتمثل البعد الآخر للنرجسية (المنافسة) في كون النرجسي يسعى لرؤية خصومه في حالة فشل مستمرة، إذ يرى -بطريقة أو بأخرى- أن معظم الناس فشلة وخاسرين.(10)
يؤكد البحث أن بُعد المنافسة لا يظهره النرجسي في بداية العلاقات العاطفية أو خلال العلاقات قصيرة الأمد، بل يعتمد النرجسي على جذب الانتباه عبر إظهار الجانب المشرق من النرجسية في البداية (الإعجاب) حيث يكون هو الجانب المسؤول عن انجذاب الكثير من الأشخاص إلى الشخص النرجسي في بداية معرفتهم به، لكن مع مرور الوقت وخلال العلاقات طويلة الأمد يبدأ بُعد النرجسية المظلم (التنافس) في الظهور والسيطرة، إذ يبدأ التنافس في خلق العديد من المشكلات مثل الميل إلى الحجج وعدم الرغبة في التسامح والغفران عن التجاوزات، وبالتزامن مع ظهور جانب المنافسة قد يتخذ الشخص النرجسي آلية الانتقاص من الطرف الآخر والتقليل من شأنه،إلا أن الدراسة تؤكد -أيضا- أنه بمجرد أن تصبح العلاقة أكثر استقرارا ويصبح فيها الحب هدفا أسمى، حيث تصل العلاقة لمرحلة يتخطى فيها النرجسي بالرغبة في السيطرة المطلقة، فإن الصفات الاجتماعية الجيدة في الظهور، مثل انخفاض الأنانية والميل إلى التسامح وتجاوز الأخطاء وغفران التجاوزات، والاهتمام ودعم ورعاية الطرف الآخر.(11)