قد يؤلم الجرح مَن ليس به الألم.. لماذا تقاضي جنوب أفريقيا إسرائيل؟

فلسطينيون وصحافيون يجتمعون لمشاهدة حكم محكمة العدل الدولية بشأن قضية رفعتها جنوب أفريقيا تتهم فيها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة (الأناضول)

في الحادي عشر من يناير/كانون الثاني 2024، وقفت المحامية عديلة هاشم أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، مقدِّمة مرافعتها التي اشتهرت حول العالم ضد جرائم الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، مُعبِّرة عن موقف جنوب أفريقيا، الدولة التي تطوعت منفردة لمحاكمة الكيان المحتل للمرة الأولى في تاريخه المخضب بالدماء. وقد أثارت القضية تساؤلات حول أسباب هذا التضامن من جنوب أفريقيا، إذ يبدو للناظر غير المدقق أن البلد الواقع في أقصى جنوب القارة السمراء لا يشارك فلسطين أيَّ روابط تاريخية أو لغوية أو دينية أو قومية. غير أن رفقة واحدة بقيت تجمع البلدين برحم لا يذوب: رفقة الفصل العنصري.

صَعَد المستوطنون ذوو الأصول الأوروبية إلى سدّة الحكم بجنوب أفريقيا بعد استقلال شكلي عن بريطانيا عام 1948، وقادوا لأكثر من أربعة عقود واحدا من أشد أنظمة الحكم عنصرية في التاريخ الحديث، حيث انتهجوا سياسة الفصل العنصري أو الجزر المنعزلة، التي شرَّعت للفصل التام بين البيض/المستوطنين والسود/الأصليين في كل مناحي الحياة. وقد بدأت تلك السياسة بالاستيلاء على أغلب أراضي السكان الأصليين، بما فيها من خيرات وموارد طبيعية، مع إجلاء أصحاب الأرض نحو جغرافيا ضئيلة شحيحة الموارد، وفوق هذا حرمانهم من ممارسة أي حقوق سياسية أو اجتماعية، فلا حكم ولا انتخاب، ولا تعليم جيد، ولا مواصلات عامة، ولا رعاية صحية آدمية، ولا أي من مقومات الحياة التي تنعَّم بها المستوطنون. كان أصحاب الأرض مقهورين بتضييق أمني تعسفي، ومُغرَّرين باستقلال وهمي تحت حكومة متورطة في التنسيق الأمني مع الاحتلال الجديد (1).

لعلك قد أدركت الشبه بالفعل، لكن للتأكيد، يمكننا أن نستعير بعض الأسماء والمصطلحات من حكاية جنوب أفريقيا، وأن نستبدل باسمها اسم فلسطين، وسنتعرَّف من فورنا على فداحة الجرم الإسرائيلي. فقد سلب الكيان الصهيوني الإحلالي 78% من أرض فلسطين التاريخية عام 1948، ثم تغول على ما تبقى منها عام 1967، فحاصر، واستوطن، وأباد. وفي الوقت الذي قدَّم فيه الاحتلال الإسرائيلي واحدا من أشرس نظم الفصل العنصري في تاريخ الإنسان، صنع من نفسه آلة تنبيه وتذكير دائم لأهل جنوب أفريقيا بما عانوه على يد الرجل الأبيض.

لأجل هذا، ولأجل الدعم الإسرائيلي الواسع لحكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا (2)، وقفت عديلة هاشم أمام المحكمة لتُقاضي مَن يبيدون الفلسطينيين، ضحايا الفصل العنصري مثلها، ولتمنحنا طرف الخيط كي نذهب بعيدا في البحث عن تاريخ الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وفلسطين كلتيهما.

القدس وكيب تاون.. قصة مدينتين

في كتابه "أرض جوفاء"، حاول الأكاديمي والمعماري الإسرائيلي إيال وايزمان وصف المشهد الاستيطاني العنصري في الضفة والقدس، فلم يجد وصفا لما تقوم به حكومته ومستوطنوها أنسب من "الأبارتايد" (Apartheid)، ذلك المصطلح الذي يُستخدم أصلا لوصف الفصل العنصري داخل الأراضي المحتلة عام 1948، ولوصف ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية تجاه فلسطينيي الداخل. لكن الباحثة إسلام شحدة العالول (1) قد ضمَّت إلى هذين النمطين (في الداخل المحتل وفي الضفة والقدس) نمطا آخر ثالثا من الفصل العنصري يتجسد في الحصار الصهيوني لقطاع غزة والمُهَيمِن على سمائها منذ عقود.

قبل تفصيل كل نمط من الأنماط الثلاثة، يجدر بنا السؤال: ما الفصل العنصري؟ وما الذي يجمع بين نموذجَيْه الإسرائيلي وجنوب الأفريقي، وما الذي يفرقهما؟

في هذا الصدد، نجد أن بدايات المصطلح تعود إلى لغة الأفريكانز (لغة الأوروبيين البيض) في جنوب أفريقيا، وهو يشير إلى الفصل العنصري القسري بين مجموعات سكانية تقع تحت سلطة واحدة، لكن هذه السلطة تفاضل بين هذه المجموعات السكانية على أساس عنصري (1). وبهذا المفهوم أضحى نظام الفصل العنصري نظاما سياسيا قائما بذاته، مثله مثل النظامين الديمقراطي والاستبدادي. ورغم التشابه الكبير بين تاريخ الاستيطان في جنوب أفريقيا وفلسطين، فإن الاستيطان الصهيوني تفوق في سياساته العنصرية بإضافة تحسينات فريدة.

أخذ نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في الظهور مع استقلال البلاد عن بريطانيا عام 1930، ثم تبلور عام 1948 بحملة "الحزب الوطني" للانتخابات، التي أتت تحت شعار "حماية الأمة البيضاء من ثقافة السود"، فنجح الحزب وشرَّع برلمانه، الذي انتُخب أعضاؤه من البيض وحدهم، سياسة الفصل العنصري في مختلف مناحي الحياة. وقد قامت تلك السياسة على أربع ركائز رئيسية، أولها الفصل الجغرافي بين الأعراق، حيث سكن البيض 87% من الأراضي العامرة بمناجم الذهب والألماس والموانئ والمطارات والخدمات، فيما هُجِّر ملايين السود قسريا إلى مدن الصفيح بعد نهب ممتلكاتهم وثرواتهم، وهي مدن سُمّيت بـ"البانتوستانات"، ولم تكن تحتوي على شيء من الموارد والخدمات (3) (4).

تمثَّلت الركيزة الثانية في الفصل الديموغرافي بين البيض والسود، وهو ما حظر على السود الخروج من مواقعهم المعزولة إلى أراضي البيض دون تصريح مرور يثبت الغرض من الخروج، وإلا فإن السجن كان المصير المحتوم لمَن يخالف التعليمات، وقد اعتُقِل بالفعل آلاف الأفارقة السود بدعوى مخالفتهم قوانين الفصل الديموغرافي (3) (4). ثم جاءت الركيزة الثالثة، بوصفها نتيجة منطقية، بالفصل في كل مناحي الحياة، في المدارس والمطاعم وقاعات السينما والمستشفيات والمواصلات والوظائف ودور العبادة وحتى المقابر. تلقى أبناء السود في البانتوستانات تعليما متواضعا لا يؤهلهم إلا للوظائف الخدمية البسيطة ذات الأجور الزهيدة. وأخيرا، كان كل هذا مؤطرا تحت حماية الركيزة الرابعة وهي الفصل السياسي، فلا ترشيح ولا انتخاب إلا للبيض، وفوق هذا مُنِح السود استقلالا اسميا في أقاليم خاصة برؤساء منهم وأناشيد وطنية جديدة، ولكن تحت سيادة الحكومة المركزية للبيض، ما يعني أن ولاء حكومات البانتوستانات كان خالصا للحكومة العنصرية، وأن الاستقلال لم يكن سوى استقلال اسمي (3) (4).

ورغم تشابه السياسات العنصرية بين إسرائيل ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ترى العالول أن تصنيف دولة الاحتلال بوصفها نظام فصل عنصري فقط يختزل الكثير من حقيقة الكيان الاستيطاني القائم على فكرة مركزية لا تتغير: محو الفلسطينيين واستبدال المهاجرين اليهود بهم. وبناء على هذا، لا يُمثِّل الفصل العنصري إلا أحد أضلاع المشروع الاستيطاني الذي لا يتوقف. وعن التشابهات بينهما، تذكر العالول أن القواسم المشتركة بين الفصل العنصري الأفريقي ونظيره الصهيوني تتمثَّل في البُعد الاستيطاني-الإحلالي للنظامين، وفي ادعاء كلٍّ من النظامين أنه الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، سواء كان ذلك في القارة الأفريقية أو في الشرق الأوسط، وكذا في الأيديولوجية العنصرية التي جعلت من البيض عِرقا متفوقا على السود، تماما كما تجعل اليوم العقيدة الصهيونية من سكان إسرائيل من اليهود شعب الله المختار لسحق الفلسطينيين. أما آخِر تلك التشابهات فيتمثَّل في التشريع البرلماني للفصل العنصري، الذي مرره الكيان المحتل عام 2018 بإقرار قانون "الدولة القومية" الذي يجعل من غير اليهود مواطنين من الدرجة الثانية في أفضل الأحوال.

ولكن ما تفرَّد به الفصل العنصري الصهيوني، متفوقا على نظيره الأفريقي، يظهر في حجم الإجرام المادي والجسدي الذي يتعرض له الفلسطينيون، بحسب ما ذكره البروفيسور والخبير القانوني جنوب الأفريقي جون دوغارد (5) حول الطبيعة اللوجستية والخدمية في كلٍّ من البانتوستانات والأراضي الفلسطينية المحتلة. فقد هدف نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي للبانتوستانات، فأنشأ لها المدارس والمستشفيات والطرق الممهدة وكل ما يكفل لساكنيها حياة طبيعية، حتى وإن كانت رديئة الجودة، بينما يحرم الاحتلال الصهيوني ساكني الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة من هذه الخدمات الحياتية البسيطة، فضلا عن بناء جدار فصل عنصري، وتبنّي سياسات النهب والهدم والقصف. كل هذا وأكثر يجعل من النمط الإسرائيلي نظام فصل "أكثر عنصرية" من نظيره الذي انتهى بجنوب أفريقيا قبل ثلاثة عقود، وأشد فتكا بالفلسطينيين في كل مناحي حياتهم.

مواطنون بلا موطن

عقب الهدنة الدائمة بين دولة الاحتلال الوليدة والجيوش العربية عام 1949، وبين عشية وضحاها، وجد مئات الآلاف من الفلسطينيين أنفسهم وقد تحولوا من مواطنين فلسطينيين عرب، يتمتعون بجواز سفر فلسطيني وهوية عربية ممتدة في الشرق والغرب، إلى مواطنين من الدرجة الثانية في كيان مُحتل يُهوِّد كل ما تقع يده عليه من فلسطين. كان أولئك الفلسطينيون هم سعيدو الحظ الذين لم تتمكن العصابات الصهيونية من ترحيلهم أثناء النكبة، فبقوا في منازلهم حتى وجدوا أنفسهم وقد تحولوا إلى أقلية عِرقية تخضع لأبشع ممارسات الفصل العنصري داخل وطنهم الأم.

لقد عمدت سلطات الاحتلال منذ اللحظة الأولى إلى "التجزئة الجغرافية لفلسطينيي 48، والاحتواء الديموغرافي لهم، والهيمنة السياسية عليهم، وجعلهم مرتبطين قدر الإمكان بالبنية التحتية الاقتصادية التابعة للأكثرية اليهودية" (1). ومن ذلك مصادرة الأراضي التي أفقدت الكثير منهم مصدر رزقه الرئيسي المعتمد على الزراعة وألجأته إلى العمل لدى الصهاينة، ومنه أيضا السياسات التشريعية والتنفيذية المختلفة التي عمدت إلى تقنين يهودية الدولة: سياسيا وجغرافيا وثقافيا، وأفقدت الفلسطيني أي حق في أرضه أو تراثه، وهو ما أنتج واقعا يعيش فيه الفلسطيني على أرضه المحتلة وهو مجروح وجدانيا، ومهمش اجتماعيا، وضائع سياسيا، ومفلس اقتصاديا، ومصاب قوميا، على حد وصف العالول.

يحيا الفلسطيني حياة مطردة من الاضطهاد والعنصرية، فلا فرص تعليم كافية، ولا أجور موازية لأجور اليهود، هذا إن وُجِدَت فرص العمل من الأساس، وهو فوق ذلك خاضع لهذا الواقع بصورة دائمة، لا يُنتَظَر انتهاؤها ما بقي الاحتلال، كونه يُمثِّل خطرا ديموغرافيا وثقافيا يهدد أساس الكيان الصهيوني المتمثل في يهودية الدولة، ولهذا كان الفلسطيني ولا يزال عُرضة لكل أشكال الاضطهاد. ففي دراسة لمعهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي رُصِدت الكثير من أنماط الفصل العنصري التي تمارسها الحكومة ضد العرب الفلسطينيين بالداخل المحتل، وخلصت "إلى أن الزعماء الإسرائيليين ومؤسسات الدولة الحكومية والقضائية والتعليمية فشلت في مهمتها لوضع حدٍّ لظاهرة انتشار العنصرية والتحريض ضد العرب" (6).

ومن أكبر مظاهر الفصل العنصري داخل خط الهدنة هو قانون الجنسية الإسرائيلية الذي يعيش الفلسطينيون بسببه في تهديد دائم بفقدان أي أوراق ثبوتية أمام العالم. فوفقا للقانون (7) الذي أقرّه الكنيست في 14 يوليو/تموز 1952، يُمنح حق التجنيس لكل يهودي في العالم بمجرد دخوله الأراضي المحتلة، فيما يشترط على غيرهم، ومنهم الفلسطينيون المقيمون في فلسطين وأبناؤهم، شروطا مثل تلك التي تفرضها الدول على الوافدين إليها من أجل التجنيس، مع جعل قرار رفض التجنيس (الذي يقرره وزير الداخلية الإسرائيلي) قرارا نافذا غير قابل للطعن، وبناء على تلك الشروط يظل بعض الفلسطينيين بلا جنسية ولا جواز سفر حتى اليوم.

وحتى الحصول على الجنسية لا يعني التمتع بحقوق المواطنة الكاملة، وهنا يتجلى الفصل العنصري في أوضح صوره، إذ أقر الكنيست عام 2018 قانون "الدولة القومية"، بموافقة 62 نائبا، ومعارضة 55 آخرين، وامتناع نائبَيْن عن التصويت، وهو قانون نصَّ على أن "إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي"، وأن حق تقرير المصير فيها "يخص الشعب اليهودي فقط" (8) (9)، ما اعتبره رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حينها "لحظة فارقة في تاريخ الصهيونية وتاريخ دولة إسرائيل". وبذلك شرَّعت دولة الاحتلال ما عمدت إلى تمريره طيلة عقود من تضييق الخناق على عرب 48 وحرمانهم من حقوق يتمتع بها أي مواطن في البلد التي يحمل جواز سفرها، بل و"أجبرتهم" على أداء قسم الولاء لدولة إسرائيل بوصفها دولة "يهودية وديمقراطية"، رغم ما جاء في إعلان الاستقلال المزعوم الذي نص على أن "دولة إسرائيل ستضمن الحقوق الكاملة الاجتماعية والسياسية لجميع سكانها بغض النظر عن الدين أو العِرق أو الجنس".

تتجلى العنصرية تجاه فلسطينيي 48 أيضا في عدد من المظاهر الواضحة، منها التمويل الحكومي المتدني لكل المجالات الخاصة بهم من تعليم وصحة وزراعة وخلافه، بجانب اختلاق الحجج الدائمة لهدم بيوتهم وتشريدهم إلى تجمعات فقيرة مزدحمة، وخضوعهم لتفتيش ذاتي مهين في المطارات، ورغم امتلاك حكومة الاحتلال تقنيات دقيقة في التفتيش، فإنها لا تستخدمها إلا مع اليهود أو السياح. وعلى المستوى التعليمي والوظيفي، تذكر العالول (1) في دراستها عن الفصل العنصري أن الحكومة الإسرائيلية تحافظ على انخفاض مستوى التعليم في المراحل الأساسية عبر ميزانية هزيلة لا تقارن بمثيلتها المخصصة للمدارس الصهيونية، ما يؤثر على الكفاءة العلمية للطلاب ولا يؤهلهم بشكل كافٍ للمرحلة الجامعية.

وتقول دراسة للباحثيْن إسماعيل أبو سعد وحاتم محاميد (10) إن المنهجية التعليمية الإسرائيلية تفاقم الأمر باستخدام معايير منحازة لليهود في نظم القبول بالجامعات؛ إذ إن امتحان قياس الكفاءة (بسيخومتري) مُعَدٌّ ليناسب المقومات الثقافية والعلمية لطالب المدارس الإسرائيلية وحسب، ولا يجد الطالب الفلسطيني ملاذا تعليميا غير هذه الجامعات لانعدام وجود أي جامعة عربية في دولة الاحتلال. وحتى إذا واجه الطالب كل هذه الصعاب، وفوقها الدعم المالي الشحيح من الحكومة للطلاب العرب، فإنه يخرج من الجامعة ليواجه عقبة كبرى بخصوص فرص العمل؛ فالقطاع العام والخاص مغلقان أمام الكثير من الخريجين الفلسطينيين، وخاصة الوظائف القادرة على تطوير المجتمع الفلسطيني.

ومن جهة أخرى، يأتي بدو النقب من العرب ليدللوا على نموذج آخر من نماذج الفصل العنصري الصهيوني داخل حدود 1948، إذ استحدثت حكومة الاحتلال عام 1976 "الدورية الخضراء"، وهي وحدة شبه عسكرية مهمتها إجبار بدو النقب على الهجرة نحو البلدات التي تعترف بها الدولة، ولأجل هذا كانت الدورية تستخدم العديد من الممارسات العنصرية للضغط على السكان العرب، مثل هدم المنازل، ومصادرة قطعان المواشي، وتدمير المحاصيل الزراعية، وقطع الأشجار. غير أن هذا لم يكن كافيا، حيث استصدرت سلطات الاحتلال وحدة "يوآب" عام 2012، وهي وحدة شرطية لمراقبة المفتشين والقوات التي تنفذ الهدم المستمر. وبلغ الأمر أن قرية واحدة مثل قرية "العراقيب" هدمتها قوات الاحتلال 160 مرة حتى عام 2019، مستخدمة في ذلك كل سبل القمع والإرهاب الممكنة ضد البدو (11).

يجري كل هذا تحت غلاف جمالي شعاره "التمدين وعصرنة البدو" تزعم من خلاله حكومة الاحتلال أنها تعيد توطين البدو في 6 بلدات متحضرة، لكن الحقيقة هي أنها تحجّم الوجود الديموغرافي للبدو؛ حيث تحصرهم (وهم 34% من سكان النقب) في مساحة لا تزيد على 1% من قضاء بئر السبع بأكمله (12). ورغم اعتراف الاحتلال بهذه البلدات الست، فإن بلدات العرب تعاني دائما من الإهمال المُتعمَّد وضعف البنية التحتية، في مقابل الخدمة الفائقة التي تقدمها الحكومة ليهود النقب من مياه وكهرباء وصرف صحي وما شابه. وهذا كله لمَن يحملون جنسية دولة الاحتلال وتعترف بوجودهم، فكيف بمَن لا تعترف بهم؟

وزير الأمن القومي الإسرائيلي إتمار بن غفير يسكن في مستوطنة "كريات أربع" المقامة بصفة غير شرعية على أراضي الخليل بالضفة الغربية المعترف بخضوعها للسلطة الفلسطينية. (رويترز)

فصل عنصري عابر للحدود

تُرى ما الذي ستجيب به عن سؤال: أين يسكن الوزير الفلاني للحكومة البلجيكية؟ الإجابة هي بلجيكا بالطبع، دون تردد ودون لحظة تفكير، فلا يمكن للمسؤول الحكومي أن يدير حكومته من دولة أخرى، لكن على ما يبدو هذه القاعدة لا تُعد منطقية في دولة الاحتلال التي يسكن عدد من وزرائها في بلد آخر، وفق تصنيف الأمم المتحدة والقانون الدولي. فنجد مثلا أن وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير (13) يسكن في مستوطنة "كريات أربع" المقامة بصفة غير شرعية على أراضي الخليل بالضفة الغربية المعترف بخضوعها للسلطة الفلسطينية.

هذا الملمح البسيط يعطينا مفتاحا للصورة التي يصنعها الاحتلال بالضفة الغربية والقدس وقطاع غزة (قبل انسحابه منه عام 2005) منذ عام 1967. فرغم اتفاقية أوسلو التي سمحت للسلطة الفلسطينية بالسيطرة على المنطقة (أ) من الضفة الغربية، والسيطرة الجزئية على المنطقة (ب)، مع تعهدات بتسلمهم المُتدرِّج للسلطة في المنطقة (ج)، فإن ما حدث على الحقيقة هو أن الضفة بأكملها، بما فيها القدس الشرقية، خاضعة لجميع الممارسات العنصرية ضد الفلسطينيين. وفي هذا الصدد يصف نيف غوردون (14)، الرئيس الأسبق بقسم العلوم السياسية بجامعة بن غوريون، سياسة الاحتلال في الضفة بأنها "سياسة فصل عنصري بكل تأكيد"، معللا ذلك بأن الاستيطان يصنع مجموعتين سكانيَّتيْن تعيشان في مكان واحد: الفلسطينيون والمستوطنون اليهود، وعندما "تكون هناك مجموعتان سكانيَّتان ونظامان للقوانين في منطقة واحدة، وتخضع مجموعة لنظام قانوني مختلف عن النظام الآخر لأسباب عِرقية، فإن هذا فصل عنصري".

ويعلِّق غوردون على ادعاء دولة الاحتلال بأن سكان الضفة لا يحيون في إسرائيل، وبهذا لا تلتزم تجاههم بشيء، ويستدعي نموذج المسؤول الحكومي المقيم في المستوطنة قائلا: "هل يمكن أن يعيش وزير خارجية ألمانيا أو بريطانيا في فرنسا؟". وعليه، لا مفر من الاعتراف بأن الوزير الإسرائيلي المقيم في المستوطنة يعيش فعليا تحت السيادة الإسرائيلية المفروضة هناك. إذن هذا يعني أنه يوجد فصل عنصري في إسرائيل، ولا يجد غوردون دليلا على هذا الفصل العنصري في الضفة أكثر منه هو نفسه، إذ يقول إن بإمكانه التنقل من بئر السبع إلى الخليل بسهولة ويسر، بينما يجد ساكنو الخليل الفلسطينيين معاناة صعبة في التنقل داخل الخليل نفسها.

تمثل الخليل فصلا من فصول العنصرية الإسرائيلية المتعددة في الضفة بأكملها (الجزيرة)

وعلى ذكر الخليل، فقد عمد الاحتلال منذ مذبحة الحرم الإبراهيمي عام 1994 إلى تقسيمها إلى منطقتين: منطقة "H1" المسموح للفلسطينيين التنقل والعيش فيها، ومنطقة "H2" المحظورة عليهم لأجل 700 مستوطن يهودي يحيون بها، ويتمتعون فيها برفاهية لا تُقارن بمعاناة الفلسطينيين الهائلة داخل مدينتهم. فقد فرضت سلطات الاحتلال نظاما خاصا للتصاريح الخاضعة حصرا للإدارة الصهيونية، وذلك من أجل تقييد حركة الخليليين داخل المنطقة "H2″، حتى صار وصول الفلسطيني الخليلي إلى مقر عمله أو الحصول على خدمة طبية أشبه بالجحيم. وفي حين تُمهَّد الطرق وتُذلَّل الصعاب أمام المستوطنين اليهود، يقف 20 حاجزا دائما و14 حاجزا جزئيا في وجه الفلسطينيين من أجل عزلهم عن مناطق المستوطنين المرفهة، ما يضطرهم لاستخدام طرق التفافية بديلة، أو التحرك على أسطح المنازل وصعود السلالم الشاهقة بما لا يناسب المرضى وكبار السن (15).

ولا تُمثِّل الخليل بهذا الفصل العنصري إلا فصلا من فصول العنصرية المتعددة في الضفة بأكملها؛ حيث تقسم المستوطنات وطرقها الالتفافية (المحظورة على الفلسطينيين) أراضي الضفة بصورة تعزل كل مدينة عن أختها، وتجعل المرور عبر المدن الفلسطينية بالضفة أصعب من السفر بين البلدان المتناحرة (16). ويضاف إلى تلك المعاناة معاناة أكبر صنعها جدار الفصل العنصري وحواجزه الأمنية المتعددة، إذ بلغ طول مسار الجدار نحو 712 كيلومترا (بما أُنجِزَ منه وما ينتظر البناء)، ما يجعله أطول من الخط الأخضر المحدد لدولة الاحتلال البالغ طوله 320 كيلومترا. ويقتطع الجدار بذلك أكثر من نصف مليون دونم من الضفة بواقع 9.5% تقريبا من مساحتها الكلية، فاصلا بذلك بين الفلسطينيين وأراضيهم في أكثر من 150 تجمعا سكنيا، وجاعلا أكثر من 11 ألف فلسطيني ممن يحيون بين الخط الأخضر والجدار في وضع أشبه بالمساجين المحرومين من الخروج من هذا الحيز الجغرافي الضيق (1).

وما يُصعِّب عملية الخروج تلك هي الحواجز الإلكترونية المنثورة على طول الجدار بمسافات متباعدة تفاقم من المعاناة، حيث يضطر المزارع الفلسطيني للسير لمسافات تصل إلى 50 كيلومترا من أجل الوصول إلى البوابة المخصصة لبطاقته الممغنطة، في حين أن أرضه الزراعية قد تبعُد عن محل سكنه كيلومترا واحدا فقط، بينما يتنقل المستوطن بين المستوطنات وحتى الأراضي المحتلة داخل الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل في دقائق معدودة على طرق ممهدة بلا أي عواقب. وقد ساهم الجدار أيضا في شل الحياة الاقتصادية في الضفة بشكل كبير، إذ إن المصادرة الدائمة للأراضي وابتلاعها وراء الجدار يفقد الضفة العديد من الموارد الطبيعية، فضلا عن وقوع أغلب الأراضي الزراعية ومصادر المياه الجوفية في المنطقة (ج) التي تُمثِّل 60% من مساحة الضفة وتضم أغلب الموارد الاقتصادية الحيوية (17).

الحواجز العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة أضحت بمثابة مصائد موت للفلسطينيين (الجزيرة)

الحصار الخانق والتصفية البطيئة

وعلى صعيد آخر، لا يتوقف الاحتلال رغم الحظر القانوني الدولي عن إنشاء المستوطنات والبؤر الاستيطانية وتقنينها من طرف واحد، في مقابل الهدم المستمر للمنازل الفلسطينية المبنية على المنطقة (ج) دون تراخيص من حكومة الاحتلال، نظرا للاكتظاظ الشديد بالمنطقة (أ) وارتفاع تكاليف الترخيص في المنطقة (ج)، وهو ما يصنع واقعا حيًّا لأشد أنواع الفصل العنصري. لكن هذا الفصل العنصري تصنعه نظريا حكومة دولة في شعب دولة أخرى، على اعتبار تصنيف الأمم المتحدة، في مخالفة فجَّة وواضحة لجميع القوانين الدولية التي شُرِّعَت حتى إقامة إسرائيل واعترفت بها.

ولا يختلف الحال كثيرا في قطاع غزة المحاصر منذ عقود، الذي لا يتوقف حصاره فقط على الحصار البري والجوي والبحري الذي يفرضه الاحتلال منذ انتصار حماس الانتخابي ثم توليها السلطة عام 2007، وإنما يمتد لأكثر من ثلاثة عقود، وتحديدا منذ يونيو/حزيران عام 1989 في أعقاب الانتفاضة الأولى، حينما ضيَّق الاحتلال على ساكني القطاع الخروج من غزة دون الحصول على البطاقة الممغنطة، وبهذا أصبح من السهل حصار الغزاوي داخل قطاعه بمجرد حرمانه من هذه البطاقة (1).

ضرب الاحتلال حصاره الجوي مع إغلاق مطار غزة الدولي عام 2000 عقب اندلاع انتفاضة الأقصى، قبل أن يقوم بقصفه عام 2001، ثم عامي 2008 و2009 والأعوام التي تلتهما (18)، فانهار المطار بالكلية وانهارت معه أحلام الاستقلال الجوي والاقتصادي الغزاوية، وانقلب منفذ الحرية الوحيد إلى مكب نفايات كبير. وحتى البحر جعله الاحتلال سورا آخر من أسوار الحصار حينما أعاق عملية بناء ميناء غزة، رغم الاتفاقات الموقعة مع السلطة الفلسطينية وتعهُّد المنظمات الدولية ببنائه، فقد قصف الاحتلال عام 2001 منشآت تابعة للشركات المنفذة، ما أدى إلى انسحاب هذه الشركات وتعليق عملية البناء التي كانت تحمل مستقبلا اقتصاديا وتنمويا كبيرا للقطاع (19).

ولكن يبدو أن هذا الحصار غير مُرضٍ للاحتلال، الذي فرض حصارا بحريا آخر منع الصيادين من الإبحار على بُعد أكثر من ثلاثة أميال بحرية، رغم سماح اتفاقية أوسلو بعشرين ميلا بحريا (20). ونتيجة لذلك، واجه الصيادون أزمة كبيرة بسبب شح الثروة السمكية في هذه المسافة القريبة من اليابسة، وتقلص على إثر ذلك عددهم من 10 آلاف صياد عام 2000 إلى نحو 3700 عام 2019، منهم 2000 فقط هم مَن يعملون يوميا، فضلا عن الاعتقالات الدائمة وإطلاق النار الذي يتعرض له الصيادون من القوات البحرية الإسرائيلية. وبسبب كل هذا، وهو غيض من فيض الانتهاكات اليومية للاحتلال، لا يجد الفلسطينيون منفذا واحدا على الحياة في أي بقعة من أراضيهم المحتلة، سواء تلك التي احتُلَّت عام 1948 أو التي سقطت في براثن الاحتلال عام 1967، كما لا يمنحهم الاستقلال الشكلي في غزة شيئا من الحرية وهم محاصرون من كل جانب ومُحرَّم عليهم سلع طبيعية بسيطة لا يحيا الناس بدونها، بحجة أنها سلع ذات استخدام ثنائي وقد تُستخدم في صناعة الأسلحة.

يقدم الاحتلال بذلك نظام فصل عنصري استثنائيا عابرا للحدود ومخالفا لكل القيم والقوانين الدولية، ومتفوقا على نظيره جنوب الأفريقي، لكن الفارق الأكبر هو تعرُّض حكومة الفصل العنصري الأفريقي لحصار عالمي ومقاطعة ضخمة على عدد من المستويات، بينما تنعم دولة الاحتلال بدعم عالمي وغربي واسع النطاق رغم الإبادة الجماعية التي بدأت قبل عقود ولا تزال مستمرة حتى اليوم بجرائم لم يكن يتخيَّل العالم أن يواجهها في هذه الحقبة من تاريخه. فهل سيبقى نظام الفصل العنصري الصهيوني مُنعما في هذا الدعم غير المشروط، أم أن للعالم ضميرا يمكن أن ينتفض ويرحم هؤلاء المحاصرين المحرومين من كل سبل الحياة؟

______________________________________________

المصادر

  1. إسلام شحدة العالول، نظام الفصل العنصري في دولة الاحتلال راهنا وجنوب أفريقيا سابقا وسُبل مناهضته.
  2. The unspoken alliance: Israel’s secret relationship with apartheid South Africa.
  3. منى قواسمي وآمال ركيز، سياسة التمييز العنصري في جنوب أفريقيا ونضال نيلسون مانديلا.
  4. عبد الوهاب دفع الله، التطور التاريخي لسياسة التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا.
  5. جون دوغارد، نظام وممارسات الفصل العنصري في كل من جنوب أفريقيا وفلسطين.
  6. اتساع أوجه العنصرية والتمييز الإسرائيلي ضد عرب 48 | أخبار حريات | الجزيرة نت.
  7. التجنيس.. وجه إسرائيل العنصري | أخبار | الجزيرة نت.
  8. قانون يهودية الدولة.. أي خيارات للمواجهة؟ | أخبار | الجزيرة نت
  9. .نتنياهو يحقق حلمه بقانون يهودية الدولة وهذه أبرز بنوده.
  10. إسماعيل أبو سعد وحاتم محاميد، المنهاج المدرسي وبلورة الهوية لدى الشبيبة الفلسطينية في جهاز التعليم العربي في إسرائيل، مجلة النبراس.
  11. منتدى التعايش السلمي في النقب من أجل المساواة المدنية، 2018.
  12. سها بشارة وحنين نعامنة، رحل رغما عنها.. تهجير السكان البدو في النقب.
  13. إتمار بن غفير وزير الأمن القومي الإسرائيلي | الموسوعة | الجزيرة نت.
  14. نيف غوردون، اسرائيل دولة أبرتهايد، مجلة قضايا إسرائيلية، موقع مدار للدراسات الإسرائيلية.
  15. مجموعة من الباحثين، التهجير القسري للسكان.. دراسة حالة: البلدة القديمة في مدينة الخليل.
  16. إيال وايزمان، أرض جوفاء.. الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي.
  17. محمود جرابعة، وضع الضفة الغربية في السياسة الإسرائيلية وتداعياته على حل الدولتين، مركز الجزيرة للدراسات.
  18. ربع قرن على أوسلو.. أطلال مطار غزة تستقبل القمامة.
  19. المُخبر الاقتصادي+ | لماذا دمرت إسرائيل ميناء غزة البحري؟
  20.  الثروة السمكية في قطاع غزة | مركز المعلومات الوطني الفلسطيني.
  21. الصيد البحري في غزة مصيدة للبشر | إندبندنت عربية.
المصدر : الجزيرة

إعلان