كيف يتسبب الجيش الأميركي في احترار الكوكب؟
مقدمة الترجمة:
لم يكن أحد ليتوقع أبدا أن التغير المناخي سيمضي بهذا التسارع، فقد تحطمت أغلب توقعات الباحثين في هذا النطاق كموجات البحر على صخور التصاعد اللاهث لتردد وشدة الظواهر المناخية المتطرفة، ما تسبب في إثارة موضوعات حاول الكثيرون السكوت عنها لعقود، أهمها كان مقدار ما تتسبب فيه الجيوش من نفث للغازات الدفيئة في غلافنا الجوي. في هذا المقال، تركز زوي شلانغر من موقع "ذي أتلانتيك" بشكل خاص على الجيش الأميركي وإسهامه الكبير في التغير المناخي، الذي تسبب، بحسب دراسة صدرت خلال الأسبوع الأول من يناير/كانون الثاني 2024، في بصمة كربونية كانت أكبر من البصمة الكربونية السنوية لأكثر من 20 دولة من أكثر دول العالم تعرُّضا لمخاطر تغير المناخ.
نص الترجمة:
في الوقت الذي يجتمع فيه دبلوماسيو العالم باستمرار للحديث عن إبطاء مسيرة تغير المناخ، كانت المؤسسة العسكرية هي الجهة الوحيدة التي اختفت وخلَّفت وراءها غيابا ملحوظا عن هذه الأجندة. ولم يكن ذلك من قبيل المصادفة، بل جاء بناء على طلب من الولايات المتحدة، فقد كان الإبلاغ عن انبعاثات القوات العسكرية مُستثنى غالبا من بروتوكول كيوتو لعام 1997، وهو البروتوكول الذي حدد أهدافا للانبعاثات التي يجب على الدول المُوقعة الالتزام بها. ورغم أن اتفاقية باريس لعام 2015 ألغت هذا الاستثناء القديم، فإنها مع ذلك لم تطلب تقديم تقارير بشأن انبعاثات القوات العسكرية، وهو ما أفضى إلى نقص كبير في البيانات المتاحة، فتعذَّر الحصول على صورة كاملة أو دقيقة للموضوع حتى الآن. ولم تُطرَح العلاقة بين الجيوش وتغيّر المناخ إلا في أواخر العام الماضي فقط، في الفترة التي سبقت انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (COP28) في دبي، حيث أُشير حينذاك إلى العلاقة بين الجيش وتغير المناخ على نحوٍ موجز في أحد التقارير.
ربما كان السبب الكامن وراء التحدث عن علاقة الجيوش بتغير المناخ الآن هي الجهود البيئية التي بدأت القوات العسكرية في بذلها، فقد أعلن بعض الجيوش بالفعل عن برامج لاستخدام الطاقة النظيفة وتحسين أثرها البيئي. أو لعل الحروب الحالية كانت سببا آخر في جعل مناقشة دور الجيوش وانبعاثاتها أمرا في غاية الأهمية، أو لعل الوضع المناخي بات مروعا إلى الحد الذي لم يعد فيه العالم قادرا على تجاهل أي مصدر رئيسي لانبعاثات الغازات الدفيئة. المشكلة أن الجهود المبذولة للحفاظ على نشاط القوات العسكرية (بما في ذلك العمليات اليومية والصيانة والتدريب والأنشطة الأخرى المتعلقة بالقوات العسكرية) تتسبب في استهلاك كميات مهولة من الطاقة، فضلا عن الحروب التي مضت تضرب في الأرض على غير هدى وتجر وراءها كوارث أشد إيلاما كخسارة الأرواح البشرية، ولا يقتصر أذاها على ذلك فحسب، بل تتسبب أيضا في زيادة انبعاثات الغازات الدفيئة.
القليل من الانتباه
ومهما كان السبب، فإن الانبعاثات العسكرية لم تحظَ بمستوى كافٍ من الانتباه والنقاش رغم الأهمية القصوى لهذه القضية. يشير تقرير الأمم المتحدة بعنوان "فجوة الانبعاثات العالمية" لعام 2023 إلى أنه يجب عدم الاستهانة بانبعاثات القوات العسكرية حتى وإن لم تكن غير محسوبة بصورة كافية وفقا لمعايير التقارير الحالية المعنية بالانبعاثات. وقد ظهر هذا الموضوع لأول مرة في تقرير "فجوة الانبعاثات" التابع للأمم المتحدة، حسبما صرَّحت لينزي كوتريل من مرصد الصراع والبيئة في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ. وقد حاولت منظمتها تقدير الأثر الكربوني العالمي للقوات العسكرية باستخدام المعلومات المتاحة، وتوصلت إلى أن نسبة الانبعاثات قد تكون 5.5%، وهي أكثر من إجمالي انبعاثات القارة الأفريقية.
على الجانب الآخر، ترى كوتريل أن هناك بارقة أمل بدأت تلوح في الأفق، وذلك لأن التعامل مع انبعاثات القوات العسكرية بدأ يأخذ اهتماما على المستوى الدولي، خاصة في سياق مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ. يُذكر أن الاتحاد الأوروبي أصدر دعوة لتضمين انبعاثات القوات العسكرية ضمن الأهداف الوطنية لتحقيق الصفر الصافي لانبعاثات الكربون في قراره الخاص أثناء المؤتمر. ومن جانبه، علَّق بيتر ليز، رئيس وفد الاتحاد الأوروبي، خلال مؤتمر صحفي له في دبي قائلا: "كنا دائما مترددين في تشريعاتنا بشأن تضمين الجوانب العسكرية، ورغم أنها قضية معقدة وشائكة، فإن التفكير في عواقبها لا يزال أمرا منطقيا. حتى إن القوات العسكرية نفسها بدأت في التعامل مع مسألة انبعاثاتها وتأثيرها على المناخ بصورة أكثر شفافية ووضوحا، بجانب الانتباه إلى الجوانب البيئية لأفعالها ومحاولة تقييمها".
وفقا لمشروع تكاليف الحرب التابع لجامعة براون الأميركية، يُعَدُّ الجيش الأميركي وحده أكبر مستهلك للنفط على مستوى العالم. تستخدم القوات العسكرية الأميركية هذا الكم الهائل من النفط لتشغيل طائراتها وسفنها، وتزويد قواعدها البالغ عددها 750 قاعدة في 80 دولة وإقليما. وبسبب نقص البيانات، ما زال من الصعب المقارنة بين انبعاثات الجيوش حول العالم. لكن في السياق ذاته، قدَّر البرلمان البريطاني أن الجيش البريطاني كان مسؤولا عن 3.3 ملايين طن متري من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في السنة المالية 2021-2022، كل ذلك ولم نتحدث بعد عن صناعاته الدفاعية التي قد ترفعه إلى مستوى أعلى بكثير. أما بالنسبة لتصريحات لينزي كوتريل، فإن الصين التي تُعَدُّ حاليا أكبر مصدر لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العالم، تمتلك -على سبيل المثال- إحدى أكبر القوات العسكرية من حيث عدد الأفراد النشطين، ولكنها مع ذلك لا تقدِّم تقارير حول انبعاثاتها العسكرية.
تقدِّر وزارة الدفاع الأميركية انبعاثاتها بنحو 51 مليون طن متري من مكافئ ثاني أكسيد الكربون في السنة المالية 2021، وهو ما يعادل تقريبا الانبعاثات التي أنتجتها السويد في الفترة ذاتها. وجاء نحو نصف الإجمالي من استخدام وقود الطائرات، وهو ما يزيد على ثلاثة أرباع إجمالي انبعاثات الحكومة الأميركية بأكملها، ويُشكِّل نحو 1% من إجمالي انبعاثات البلاد في عام 2020. الفكرة أن هذا الرقم لا يأخذ في اعتباره حتى انبعاثات مقاولي الدفاع الذين ليسوا مطالبين حاليا بالكشف عن نسبة انبعاثاتهم. وفي حالة إدراج القطاع الصناعي الذي يدعم الجيش ضمن إجمالي الانبعاثات، ستبلغ نسبة الانبعاثات الكلية لهذا القطاع في الولايات المتحدة نحو 2% على الأغلب.
في التسعينيات، عارضت الولايات المتحدة أي مطلب للكشف عن انبعاثات الغازات الدفيئة العسكرية في بروتوكول كيوتو، وحينها حذر المسؤولون العسكريون من أن تقديم تقارير حول انبعاثاتهم قد يؤثر سلبا على استعدادات الجيش. ومن جانبها، ترى نيتا كروفورد، الأستاذة في جامعة أكسفورد ومديرة مشروع تكلفة الحروب، أن التفسير الوحيد لرد الفعل هذا هو إدراكهم أنهم تسببوا في إطلاق كميات مهولة من الغازات الدفيئة، ولم يرغبوا في الالتزام بتقليص هذه الكميات. كان استثناء الولايات المتحدة من هذا الكشف مهما للغاية بالنسبة إليها، لدرجة أنه عندما أعلن كبير مفاوضي المناخ في البلاد "ستيوارت آيزنستات" للجنة في الكونغرس -التي ضمت حينذاك الرئيس الحالي جو بايدن ومبعوثه للمناخ جون كيري- عن حصوله على هذا الإعفاء، هنَّأه كيري.
مشكلة أكثر خطورة
في ذلك الوقت، بدا تحقيق الهدف العالمي الذي كان أكثر تواضعا فيما يتعلق بخفض الانبعاثات دون المساس بجيوش العالم أمرا ممكنا. فقد تمحور هدف الاتحاد الأوروبي آنذاك حول تخفيض نسبة الانبعاثات إلى 8% فقط، في حين كان هدف الولايات المتحدة هو تخفيض النسبة إلى 7% فقط، لكن الوضع تغير الآن وبات العالم يُناقش كيفية الوصول إلى صافي صفر من الانبعاثات في مؤتمر الأطراف (وهو مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ)، وهو ما يُعَدُّ أمرا مستحيلا بدون التعامل مع انبعاثات الجيوش. (يشير صافي الصفر إلى التوازن بين كمية الغازات الدفيئة الناتجة من النشاط البشري، والكمية التي تُزال من الغلاف الجوي)*.
حتى بعد اتفاق باريس عام 2015 الذي استبدل الاستثناء المتعلِّق ببروتوكول كيوتو فيما يتعلق بالجيوش، ما زالت المشكلة قائمة، لأن إرشادات الإبلاغ التابعة للأمم المتحدة تشير إلى أن الإبلاغ عن انبعاثات القوات العسكرية ينبغي أن يُدرج ضمن فئة "غير محددة"، التي يمكن أن تشمل العديد من المصادر الأخرى. (هذا يعني أنه لا يوجد تصنيف محدد تماما لانبعاثات الجيش، بل يمكن إدراجها ضمن فئة عامة، وهو ما يزيد من صعوبة فهم مدى التأثير الدقيق لانبعاثات القوات العسكرية وتحليلها بدقة)*. فضلا عن أن انبعاثات الجيش خلال فترات السلام تختلف عن انبعاثاتها خلال فترات الحرب، وهو ما يزيد الأمور تعقيدا. وفي حالة كهذه، لا يبقى أمام الخبراء سوى تقديم تخميناتهم بناء على معلومات جزئية.
على الجانب الآخر، حاول تحليل حديث حساب الانبعاثات الصادرة عن أول 60 يوما من الحملة الإسرائيلية على قطاع غزة، وتوصل الباحثون إلى أن أحد أكبر المساهمين في هذه الانبعاثات كانت طائرات الشحن الأميركية التي حلّقت لنقل الإمدادات العسكرية. ووفقا لهذا التحليل، كان إجمالي الانبعاثات الناتجة من هذه الحملة أعلى من الانبعاثات السنوية للعديد من الدول والأقاليم الصغيرة، بما في ذلك جمهورية أفريقيا الوسطى ودولة بليز في شمال أميركا الوسطى. وفيما يتعلق بالحرب الروسية على أوكرانيا، يُقدِّر الباحثون أن نسبة الانبعاثات الناجمة عن الحرب تتساوى تقريبا مع الانبعاثات السنوية الإجمالية لبلجيكا.
في الآونة الأخيرة، بدأت الجيوش الكبرى في البحث عن بعض الحلول للتقليل من انبعاثاتها الكربونية. ولأهمية هذا الموضوع، صرَّح الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "ينس ستولتنبرغ" في مؤتمر الأمم المتحدة للتغيرات المناخية في عام 2021 بأنه لا توجد وسيلة للوصول إلى صافي الصفر دون تضمين الانبعاثات العسكرية أيضا. وفي ذلك العام، حضر المؤتمر موظفو وزارة الدفاع الأميركية لدعم المبادرات الصديقة للبيئة، التي تشمل خطة للجيش لبناء شبكات كهربائية متصلة على جميع مرافقه والتوجه نحو استخدام مركبات قتالية كهربائية. يبدو أن الدافع وراء هذه التغييرات نابع في الغالب من المخاطر الأمنية التي يفرضها التغير المناخي وتفرضها إمدادات الوقود الأحفوري نفسها.
وفقا لبحث نيتا كروفورد، فإن انبعاثات الكربون الناتجة عن القوات العسكرية الأميركية قد شهدت انخفاضا هائلا منذ السبعينيات، رغم أن ذلك لم يكن بالضرورة بسبب استخدام الأنظمة الكهربائية المستقلة أو الدبابات الكهربائية، بل كان سببه الرئيسي هو إغلاق القواعد العسكرية في الخارج، بوصفه جزءا من الانسحاب العام منذ انتهاء الحرب الباردة. وتصرِّح وزارة الدفاع بأن السبب وراء هذا الانخفاض هو تقليل المهام القتالية في العراق وأفغانستان منذ عام 2010، بجانب زيادة كفاءة الطاقة واستخدام مصادر الطاقة المتجددة، ومؤخرا تقليل التمارين العسكرية بسبب جائحة كورونا.
يبدو أن الطريقة الوحيدة لكبح جماح الانبعاثات تتلخص في تقليص الحضور العسكري العالمي للولايات المتحدة. في أحد الأيام خلال المفاوضات التي استمرت أسبوعين في دبي، دخل شخصان إلى المركز الإعلامي وهما يحملان لافتات مكتوب عليها "أوقفوا الحرب. لقد حان الوقت للانطلاق نحو تقنيات صديقة للبيئة"، وتحتها نص يطلب تخصيص 10% من ميزانية الجيش لصالح صندوق المناخ (الذي يساعد الدول النامية على الحد من أثر التغير المناخي والتكيف معه)*. كان هذان الشخصان هما يون صن جين، عميدة الدراسات البيئية في جامعة سيول الوطنية، ويول تشوي، عالم البيئة الكوري البارز الذي فاز عام 1995 بجائزة جولدمان في مجال البيئة، عن عمله في مكافحة التلوث والأسلحة النووية. وعن ذلك الموضوع تقول يون: "تتسبب الحرب في إطلاق الكثير من الغازات الدفيئة، كما أن الكثير من الأموال تذهب أدراج الرياح بسببها، لذا بدلا من إهدار هذه الأموال سيكون من الأفضل لو استُخدمت لصالح صناديق المناخ لإنقاذ حياة الدول النامية".
في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ، كانت البلدان الأكثر تضررا من تغير المناخ تناضل من أجل الحصول على حصة ضئيلة جدا من الإنفاق العسكري العالمي الذي بلغ نحو 2.2 تريليون دولار في عام 2022 وفقا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. وقد حدد صندوق "الخسائر والأضرار" الجديد لمعالجة الضرر الناجم عن التغيرات المناخية في الدول الضعيفة هدفا بقيمة 100 مليار دولار، لكنه لم يتمكن حتى من جمع مليار دولار، فيما أعلنت الولايات المتحدة -التي تُعَدُّ أكبر مصدر لانبعاثات الغازات الدفيئة في التاريخ- عن نية تقديم 17.5 مليون دولار في حين بلغ إجمالي ميزانيتها العسكرية السنوية المقبلة 886 مليار دولار.
إذا كنت تعتقد أن الجيوش تسبب ضررا أكثر من نفعها، فقد تكون فكرة تحويل الميزانية العسكرية إلى صناديق المناخ لدعم المبادرات البيئية فكرة جذابة بالنسبة إليك. لكن إذا كنت تعتبر أن الاستقرار العالمي يعتمد على وجود جيش قوي، فإن السؤال حول كيفية تقليل مساهمته في تفاقم الأزمات المناخية يغدو أكثر تعقيدا. فالتغير المناخي سيتسبب في ضرر مستقبلي وزعزعة الاستقرار العالمي وتأجيج وتيرة الصراعات، كما أن الحروب والعمليات العسكرية تزيد أيضا من أزمات المناخ من خلال نقص الغذاء وزيادة التلوث والتسبب في النزوح. في نهاية المطاف، إن التعامل مع انبعاثات الجيوش هي في الأصل مسألة حول كيفية رؤيتنا للأمن على الأرض. ورغم تعقيد هذا النقاش، فلا مفر من أن يحدث. وكما هو الحال مع كل الأمور المتعلِّقة بتغير المناخ، لا يبدو أن هناك شيئا يلوح في الأفق قد يدل على حدوث تغييرات في القريب العاجل.
————————————————————-
هذا المقال مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
ترجمة: سمية زاهر.