بالأرقام والإحصاءات.. عنصرية الإعلام الغربي ضد غزة والفلسطينيين
هناك الكثير مما يستدعي الذهول في الطريقة التي يتعامل بها الإعلام والمسؤولون في الغرب مع ما يحدث في قطاع غزة وطبيعة "الحلول" التي تُطرَح لهذا "الصراع"، ومنها مثلا إمكانية "نقل" الفلسطينيين إلى الدول العربية المجاورة. حل يبدو سهلا جدا، لكنه يقوم على فرضية أن الأرض بلا قيمة، ببساطة لأننا كلنا عرب، وكلها صحراء، بالضبط كما تظهر في الأفلام، بالتالي لا مشكلة في أن يعيش الفلسطينيون في سوريا أو مصر أو العراق أو في الشتات، أو حتى في الكونغو الديموقراطية التي تبعد آلاف الكيلومترات عن فلسطين، طبقا لبعض "المقترحات" التي تُناقش الآن على أعلى مستوى حكومي في دولة الاحتلال، فالجميع دول عالم ثالث متخلفة متكدسة اعتادت الحروب، وبضعة ملايين من اللاجئين الإضافيين لن يُحدثوا فارقا يُذكر (1) (2) (3).
كل هذا ليس مفاجئا بالطبع، ولكنه صادم في الوقت ذاته. نعلم أن العبارة مُربكة، ولكن "أوين جونز"، الصحفي الإنجليزي والكاتب في "الغارديان"، لم يجد أفضل منها لوصف الوضع القائم؛ كان يعلم أن هناك درجة ما من العنصرية في تغطية إعلام بلده -والإعلام الغربي عموما- للأحداث المختلفة في الشرق الأوسط وأفريقيا، ولكنه لم يتخيل أن تتجلى بهذا الوضوح الساطع في 2024، بعد أن حقق الغرب ما يُفترض أنه قفزات واسعة على مسار حقوق الإنسان والحريات (4) (5) (6). هذا التناقض الذي يواجهه "أوين جونز"، وأمثاله ممن ما زالوا محتفظين بإنسانيتهم في هذا المناخ الثقافي والسياسي الغربي المخبول، هو في الواقع ليس تناقضا أبدا؛ ببساطة لأن الحضارة الغربية فعليا لم تحقق طوعيا أبدا "قفزات واسعة على مسار حقوق الإنسان والحريات"، بل انتزعت منهم تلك الحقوق والحريات انتزاعا بعد عقود وقرون من النضال الشعبي للأقليات المضطهدة.
هذه هي الحقيقة التي يعلمها الجميع، ولكن تخجل الحضارة الغربية من الاعتراف بها؛ أنها لم "تمنح" بل "أُرغمت"، وبعد أن أُرغمت، أنفقت العقود التالية في تزييف حقيقة هذا الصراع، وتصوير التغير في المزاج العنصري بوصفه قرارا طوعيا نابعا من الحس الإنساني. "قفزات واسعة" توحي بأن المسألة برمتها كانت اختيارا واعيا، سبقه اعتراف بالخطأ ومحاولات جادة للتطهر والتكفير عن قرون من الجرائم والاستعباد المباشر وغيره، بينما في الحقيقة كان الأمر أشبه بتنازل إجباري عما رآه قادة تلك الحضارة حقا أصيلا بحكم العِرق أو الدين أو الإنتاج المادي.
هذا الخلط التأسيسي هو ما أوقع "جونز" وأمثاله من الصادقين الذين آمنوا بهذه الدعاية في التناقض الحالي، وأصابه بـ"الصدمة غير المفاجئة" على حد تعبيره، وفقط عندما يتضح هذا الالتباس المتعمد، يتضح أن النسق العنصري الوحشي الحالي ضد الفلسطينيين ليس إلا امتدادا للخط "الحضاري" الأصلي، والفارق الوحيد هنا أنه لا يوجد -بعد- ما يدعو قادة الحضارة ذاتها للتنازل هذه المرة.
القتل غير المذكور
هذه المقدمة مهمة للغاية لتفسير الظاهرة محل الدراسة وفهم خلفياتها؛ المئات من هؤلاء الصحفيين والمراسلين والمذيعين في شبكات الإعلام الغربي الرئيسية، الذين يفيضون عنصرية وجهلا وكسلا تجاه الفلسطينيين وغيرهم، لم يُوجدوا فجأة من العدم، ولم يُستحدثوا لمتطلبات طارئة استثنائية، بل فقط عثروا على فرصة للبوح بما يعتمل في دواخلهم، ولا تسمح القوانين الغربية المحلية بممارسته ضد الأقليات في بلادهم، على الأقل بهذا الوضوح وتلك الفجاجة.
من هنا أتت المحاولات العديدة لتوثيق المسألة، وتحويل الحُجج الكلامية المُرسلة التي تضل طريقها في متاهات الصهاينة اللغوية إلى أرقام صلبة يصعب إنكارها أو الجدال معها، وأولى تلك المحاولات المُسجلة أتت من "هولي جاكسون"، طالبة الدراسات العليا في علوم الحاسوب بجامعة "بيركلي" في "كاليفورنيا"، التي عمدت إلى تسجيل المرات التي ذُكر فيها "القتلى" الفلسطينيون والإسرائيليون من ثلاث صحف أميركية كبرى هي "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" و"وول ستريت جورنال" في الفترة ما بين 7-22 أكتوبر/تشرين الأول 2023، مع مقارنتها بعدد القتلى الفعليين طبقا لسجلات الأمم المتحدة، وبالطبع كان ما وجدته لافتا (7).
حتى بعد الأسبوع الأول، عندما كانت حصيلة القتلى الفلسطينيين قد تجاوزت نظيرتها الإسرائيلية المُعلنة من دولة الاحتلال فإن عدد مرات ذكرهم ظلت أقل، وهو ما بنت عليه "مُنى شلبي"، الصحفية الإنجليزية من أصل عراقي، والكاتبة في "الغارديان" الإنجليزية وغيرها، والحاصلة على جائزة "بوليتزر"، أرفع الجوائز الصحفية العالمية، وطبَّقته على تغطية شبكة "بي بي سي" البريطانية تحديدا في فترة أكبر، شملت التغطية الحية المُتلفزة وغيرها حتى الثاني من ديسمبر/كانون الأول، لتحصل على نتائج مشابهة (8) (9).
هذا الانفصال عن الواقع الذي أجاب عن سؤال "الكمّ" دفع "منى" للبحث عن سؤال "الكيف" كذلك، فبدأت في دراسة لغة الوصف المستخدمة وألفاظها، واكتشفت أنه حتى مع ذكر القتلى الفلسطينيين لمرات لا تتناسب مع عددهم أبدا، فإن صحفيي "بي بي سي" غالبا ما يعمدون لاستخدام أوصاف مُجهّلة أثناء تغطية أخبارهم، مثل "أناس" أو "أشخاص" أو حتى بدون ذكر للمبتدأ من الأصل، على غرار "150 ماتوا اليوم في غزة جرّاء العمليات الإسرائيلية العسكرية"، بينما يُقدَّم القتلى الإسرائيليون بأوصاف علاقاتهم الأسرية والاجتماعية على غرار "أم" و"جدة" و"صديق" و"أخ" و"ابن" و"حفيدة" (8).
الشاهد هنا طبعا هو نزع الإنسانية عن الفلسطينيين بتجهيلهم، وكأن هؤلاء "الناس" أو "الأشخاص" لم يكونوا إخوة وأحفادا وأمهات وجدودا وجدات وأزواجا وزوجات، وبالتالي لم يخلّفوا وراءهم أيتاما أو ثكالى أو أرامل، ولم يؤثر قتلهم على شبكة علاقاتهم الأسرية والاجتماعية، وبالتالي يصعب على المشاهد/القارئ/المستمع تكوين صلة إنسانية ما بحالتهم، والتعاطف مع مظلوميتهم، وكأنهم أتوا من العدم وعادوا إليه.
ما اكتشفته "منى" أيضا هو ما نعتقد أنك لاحظته من تلقاء نفسك في العبارة الماضية، وهو أن الفلسطيني عادة ما "يموت" أو "يهلك" أو "يُتوفى" في تغطية "بي بي سي"، على عكس الإسرائيلي الذي غالبا ما "يُقتل" أو "يُذبح" أو "يُمثل بجثته"، وكأن الكوارث الطبيعية تشمل القنابل أميركية الصنع كذلك، التي "يموت" فيها الفلسطيني كما يموت الناس في الزلازل والأعاصير والفيضانات.
كل هذه الأساليب تعمل على مخاطبة اللاوعي من خلال استدعاء صور ذهنية مرتبطة بألفاظ معينة، وهي لا تُجدي نفعا مع أي عربي يشاهد الإبادة كل يوم ويدرك مفرداتها وأطرافها، ولكنها مفيدة للغاية مع غير العرب الذين يتعرفون على هذه المفردات والأطراف لأول مرة، وبالطبع هذا التجهيل المتعمد لا ينعكس حينها على الضحية فقط، بل على القاتل كذلك، لأنه يبرِّئه ببساطة؛ "القتل" يُوجب وجود جانٍ ومجني عليه، بينما "الموت" هو مصير الجميع حتى لو خلا العالم من القتلة.
"ليسوا إسرائيليين"
"آدم جونسون" و"عثمان علي"، الصحفيان بموقع "ذي إنترسبت" (The Intercept)، التقطا خيط العنصرية الصارخة في التغطية الإعلامية الغربية، ونشرا تقريرا موسعا في 9 يناير/كانون الثاني الجاري يعتمد على أساليب التحليل الإحصائي ذاتها لخطاب ثلاث من الصحف الأميركية الكبرى هي "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" و"لوس أنجلوس تايمز" ما بين 7 أكتوبر/تشرين الأول و25 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وكانت النتائج أكثر عنصرية من كل ما سبق، وبفارق ملحوظ (10).
المحاور هي ذاتها؛ القتلى الفلسطينيون لا يُذكرون بأي نسبة منطقية، والإسرائيليون فقط هم مَن يتعرضون لـ"الذبح كالحيوانات" أو "Slaughter"، لكن الفوارق في الأرقام تصير أوضح مع اتساع النطاق الزمني للتغطية.
النقطة الأكثر إيلاما وعنصرية في الوقت ذاته في تقرير "جونسون" و"علي" كانت أن هذا التعامل الإعلامي الوحشي -إن جاز التعبير- امتد لكلٍّ من الأطفال والنساء والصحفيين، الفئات الأكثر إثارة للتعاطف عادة بين المشاهدين والمستمعين والقراء.
الأطفال الإسرائيليون هم أطفال طبعا، بينما الأطفال الفلسطينيون هم "أناس تحت سن الثامنة عشرة" (People under 18) أو "قُصَّر" (Minors)؛ في محاولة شيطانية للالتفاف على حقيقة أنهم -صدِّق أو لا تُصدِّق- أطفال فعلا، ويُعد المصطلح الأول -"أناس تحت سن الثامنة عشرة"- امتدادا للغة العنصرية ذاتها التي استخدمها "آرثر بلفور" في إعلانه البغيض منذ مئة عام تقريبا، عندما وصف الأغلبية العربية الفلسطينية في فلسطين التاريخية بـ"الأقليات غير اليهودية" (10) (11) (12).
للأسف لم يتمكن محررو الصحف الأميركية الثلاثة من تكرار الأمر مع النساء باعتبارهم "ليسوا رجالا"، ولكن الجدير بالذكر أن المصطلح الثاني "قُصَّر" (Minors) هو مصطلح إنجليزي قانوني بالأساس، عادة ما يُستخدم مع مرتكبي الجرائم والمتهمين بها في النظام القضائي الأميركي، والتلميح هنا لا يحتاج إلى شرح.
في مقابلة للصحفي ذاته، "أوين جونز"، مع دكتور "حنان عشراوي"، الناشطة والمتحدثة السابقة باسم السلطة الفلسطينية في محادثات سلام مدريد، لفتت النظر إلى هذه المنهجية المستقرة في الخطاب الإعلامي والسياسي الغربي، التي تُلخص أسلوب التعامل التاريخي مع الفلسطينيين بعبقرية موجعة، باعتبارهم "ليسوا إسرائيليين" ببساطة (13).
هذا هو كل ما يحتاج إليه غالبية إعلام الغرب لكي يُطلق لعنصريته العنان، وهو أمر مُثبت بالتجربة في العراق وسوريا والسودان ولبنان وليبيا، أو أي بلاد تتلخص مشكلة شعوبها في أنهم ليسوا غربيين أو إسرائيليين، وهذا كافٍ فيما يبدو لتحويلهم إلى "أشخاص" و"أناس"، واعتبار أطفالهم "قُصَّرا" واختصارهم في أرقام وجداول عديمة الروح لا تثير أي تعاطف ولا تبني صلات إنسانية، تمهيدا لإنكار حقيقتهم وحجبها عن العالم.
هذه هي الحقائق الصلبة المصمتة المجردة، ومشكلة الحقائق الصلبة المصمتة المجردة أننا نقضي حياتنا في محاولة إدراكها، ثم نُصاب بالشلل بمجرد النجاح في ذلك. ننهمك في التخطيط للرحلة نحو الحقيقة، متخيلين أن أسهل ما فيها هو لحظة الوصول، وهذا هو ما يجعلها -للمفارقة- الأصعب على الإطلاق.
نحن أمام أُمم تملك قنابل تزن الواحدة منها طنا، ويحتقرنا إعلامها وسياسيوها وجيوشها لأننا لسنا إسرائيليين. هذه هي الحقيقة الصلبة المصمتة المجردة، التي تبادلنا النظرات الصامتة الجامدة بوجه من صخر، لا يعبأ بمشاعرنا واستدراكاتنا وانحيازاتنا، ولا يهزه فزعنا من هول الواقع، ولا تخدعه محاولاتنا لتجميله أو إنكاره، ولعله الوقت المناسب للبدء في التفكير في خطوتنا التالية.
————————————————————————————-
المصادر:
1- مذيعة شبكة "توك تي في" “Talk TV”، "جوليا هارتلي-بروِر" تتساءل عما إذا كان التطهير العرقي للفلسطينيين هو الحل – Novara Media
2- إسرائيل في محادثات مع الكونغو الديموقراطية ودول أخرى حول خطط "هجرة" الفلسطينيين في أعقاب الحرب – Times of Israel
3- الكونغو تنفي اشتراكها في محادثات مع إسرائيل حول استعدادها لاستقبال مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين – Times of Israel
4- عنصرية "بي بي سي" ضد غزة تنكشف بدراسة صادمة – Owen Jones
5- عنصرية الإعلام تنكشف بدراسات جديدة – Owen Jones
6- جو بايدن يظهر احتقارا مثيرا للغثيان لأرواح الفلسطينيين – Owen Jones
7- دراسة | التحيز الإعلامي لإسرائيل في الصحف الأميركية الكبرى | هولي جاكسون – Github
8- دراسة | تحيز شبكة "بي بي سي" لإسرائيل في تغطيتها للحرب على غزة | منى شلبي – Github
9- منى شلبي – The Guardian
10- تغطية حرب غزة في "ذا نيويورك تايمز" وصحف أميركية كبرى أخرى انحازت لإسرائيل بوضوح كما تظهر التحليلات – The Intercept
11- توثيق تحيز الإعلام الغربي ضد الفلسطينيين ما بين 7 أكتوبر و7 نوفمبر – The Column
12- بعد قرن من الزمان؛ شرح إعلام بالفور – الجزيرة
13- أيقونة فلسطينية تفضح تواطؤ الغرب على الفلسطينيين – Owen Jones