إدمان الديون.. كيف دفع الجنرالات باكستان إلى حافة الانهيار الاقتصادي؟

Protest against the rising inflation in Pakistan- - KARACHI, PAKISTAN - MARCH 03: The workers of Tehreek-e-Labaik Pakistan are protesting against the rising inflation and poor strategy in Pakistan, there are thousands of people in Karachi, Pakistan on March 03, 2023.
تعاني باكستان من أزمة ديون مزمنة، لكن صناع القرار لطالما اعتقدوا أن بلادهم أكبر من أن تفشل أو أن يسمح العالم بفشلها، بسبب موقعها والدور الذي تلعبه في جنوب آسيا. (الأناضول)

في عام 1854، عرفت الدولة العثمانية طريق الديون لأول مرة على يد الدائنين الأوروبيين من أجل تمويل حربها مع روسيا، ومنذ ذلك الحين دخلت إلى لعبة كراسي الديون الموسيقية، ديون جديدة لسداد ديون قديمة، وهي لعبة أغوتها بها الدول الأوروبية رغم إدراكها عدم قدرة الأستانة على سداد ديونها بسبب بنية اقتصادها القائم على الاستيراد بالأساس لا التصدير. وقد حوَّلت تلك اللعبة إيرادات السلطنة مباشرة إلى البنوك الأوروبية لا إلى خزائنها، ومن ثم باتت الرغبة في إصلاح الاقتصاد أمنية بعيدة المنال. وقد انتهت اللعبة على كل حال بانهيار الدولة العثمانية، ولكن سرعان ما تكرَّرت قصة الفشل الاقتصادي في الكثير من الدول القومية حديثة النشأة، لا سيما تلك التي خرجت من عباءة دول كبرى، كإمبراطوريات العثمانيين، والهند البريطانية، والنمسا والمجر.

 

في العام الحالي، ومع أصداء الحرب الروسية الأوكرانية وعواقب جائحة الكوفيد وسياسات الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، أصبحت العديد من الدول الغارقة والمعتمدة على الديون تواجه حلقة أشد قتامة من كل ما رأته سابقا، إذ زادت ديون الدول النامية بأكثر من الضِّعْف خلال العقد الماضي ووصلت إلى 9 تريليونات دولار، ومن المتوقع في هذا العام بحسب البنك الدولي أن تغرق 60% من أفقر دول العالم في أزمة ديون، إن لم تكن غارقة فيها بالفعل. وباكستان هي واحدة من تلك الدول التي تواجه عبء الديون الآن، ويخشى المحللون الاقتصاديون من انهيارها. ومثلها مثل الكثير من نظرائها في العالم النامي، عليها التوسُّل للمؤسسات الدولية المانحة والدول الصديقة، وأن تبتلع وصفة صندوق النقد الدولي المُرَّة كي يَقبل باستئناف برامج مساعداته المالية من أجل تجنب التخلف عن سداد الديون، ما يعني إنذارا لأعداد مهولة من فقراء البلاد بالهلاك المحتوم سواء تجرَّعت إسلام أباد الدواء المُرَّ أو لم تتجرَّعه.

 

تعاني باكستان من أزمة ديون مزمنة، لكن صناع القرار لطالما اعتقدوا أن بلادهم أكبر من أن تفشل أو أن يسمح العالم بفشلها، بسبب موقعها والدور الذي تلعبه في جنوب آسيا، علاوة على كونها دولة مُسلَّحة نوويا، وخامس أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان. وقد اعتمدت باكستان على الدعم الخليجي من حين إلى آخر، لكنها فوجئت بعد سنوات أن بعضا من أهم المانحين في الخليج غيَّروا إستراتيجيتهم الخاصة بالمِنَح المالية، بعد أن قرروا أنها تُعزِّز ثقافة الاعتماد لدى الدول المُتلقية للمساعدات، فلا تُحدِث تغييرا جادا في بنية اقتصادها. ورغم أن المملكة العربية السعودية، الداعم المالي الأبرز للبلاد، لا تزال تزيد من استثماراتها في باكستان، لكن تغيُّر إستراتيجيتها تجاه المعونات المالية يثير قلق الدولة الجنوب آسيوية تجاه المستقبل.

 

على خطى سريلانكا.. باكستان على حافة الانهيار

Protest against the rising inflation in Pakistan- - KARACHI, PAKISTAN - MARCH 03: The workers of Tehreek-e-Labaik Pakistan are protesting against the rising inflation and poor strategy in Pakistan, there are thousands of people in Karachi, Pakistan on March 03, 2023.
احتجاج على ارتفاع التضخم في باكستان. (الأناضول)

منذ عام 2022 بدأت خيوط الكارثة تُنسج حول الدولة الباكستانية من كل الجهات، من الاحتقان السياسي إلى الظروف الخارجية إلى العمليات المسلحة العنيفة، وصولا إلى الكوارث المناخية، وهي خيوط فاقمت الكارثة الاقتصادية، حتى دفعت في الأشهر الأخيرة بقطاعات واسعة من الناس إلى ما دون خط الفقر، وجعلت أبسط السلع بعيدة المنال، ما هدَّد الأمن الغذائي في البلاد. وقد بلغ معدل التضخم السنوي مع بداية هذا العام في باكستان أعلى مستوى له منذ عام 1975، عند 27.6%، ولا يزال مُرشَّحا للارتفاع.

 

وفي يناير/كانون الثاني الماضي، انهارت عملة البلاد (الروبية الباكستانية) إلى مستوى تاريخي أمام الدولار بعدما ألغت الحكومة الحد الأقصى لسعر الصرف من أجل الحصول على حزمة الإنقاذ المأمولة من صندوق النقد الدولي، ومن ثمَّ صارت الروبية من أسوأ العملات أداء في آسيا. ويُضاف إلى ذلك تضاؤل احتياطيات النقد الأجنبي لأكثر من النصف في عام واحد، حيث انخفضت احتياطات العملات الأجنبية إلى أقل من 3 مليارات دولار في بداية شهر فبراير/شباط الماضي، وهو ما يغطي أقل من شهر من الواردات. كما انخفض الإنتاج الصناعي بشكل مُطَّرِد منذ العام الماضي في القطاعات التي تعتمد على الاستيراد، مثل السيارات والمواد الكيميائية والمنسوجات.

 

لذلك يسود التشاؤم والسخط شتى طبقات المجتمع، من رجال الأعمال إلى الفقراء، ومن المُحلِّلين الاقتصاديين إلى بائعي الفاكهة، ولم تعُد الأزمة في نظرهم تُفرِّق بين غني وفقير، ففي الأحياء الغنية بمدينتَيْ كراتشي ولاهور، يقوم المواطنون بتركيب مُولِّدات انقطاع الكهرباء وخزانات للمياه بسبب الانقطاع المستمر للكهرباء والماء، بينما تناشد الدولة المواطنين تقليل استهلاك الشاي لكوبين فقط في اليوم من أجل المحافظة على احتياطات النقد الأجنبي الشحيحة، إذ تستورد باكستان الشاي وحده بـ600 مليون دولار سنويا.

 

تشارك البيئة وتغيُّر المناخ في تعميق أزمة باكستان. فقد تسبَّبت فيضانات عام 2022 التي أغرقت أكثر من 10% من الأراضي الباكستانية في خسائر بمليارات الدولارات، علاوة على فقدان الدولة نحو 40% من محصول القطن، وخسارة 7 ملايين عامل في قطاع النسيج وظائفهم، وانتقال 9 ملايين من ساكني الريف تحت خط الفقر. وقد قالت الدولة وقتها إنها غير قادرة على تحمُّل عبء التعافي من الكارثة في ظل المساعدات الدولية البطيئة، وقال تجار الفاكهة والخضراوات إن التغير المناخي صار يَضُر أرباحهم اليومية بشكل ملحوظ، إذ بدأت المانجو تفسد أسرع عند التجار على سبيل المثال، ما يتسبَّب في نقص الأرباح.

DADU, PAKISTAN - OCTOBER 19: A flooded village is seen from above October 19, 2022 in Khairpur Nathan Shah, Pakistan. Nearly one-third of Pakistan was deeply affected by flooding which hit the country in 2022, with many areas still inundated or recovering from the event which left millions of people dispossessed of land and lacking food, water or work. (Photo by Getty Images)
تأثر ما يقرب من ثلث باكستان بشدة بالفيضانات، وما زالت العديد من المناطق تغمرها المياه أو تتعافى من الحدث الذي حرم ملايين الأشخاص من أراضيهم. (غيتي)

لقد أصبحت باكستان بوضوح على رأس قائمة الاقتصادات التي يُخشَى من أن تلحق بسريلانكا في التخلُّف عن سداد الديون، وقالت وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني في منتصف شهر فبراير/شباط الماضي إن الاقتصاد الباكستاني يعيش مخاطر ائتمانية كبيرة في ظل مستويات منخفضة من احتياطيات النقد الأجنبي، وأكَّدت الوكالة أن التخلف عن السداد بات احتمالا حقيقيا في باكستان، ومن ثمَّ خفضت الوكالة التصنيف الافتراضي طويل الأجل للسندات الأجنبية لباكستان من "CCC+" إلى "CCC-". ووفقا للأرقام الصادرة عن البنك المركزي الباكستاني في فبراير/شباط الماضي، انخفض الدَّيْن العام الخارجي في العام المنصرم من 102.2 مليار دولار إلى 97.5 مليار دولار بحلول نهاية 2022، ولكن لم يأتِ التخفيض بسبب أي زيادة في دخل البلاد، وإنما نتيجة السحب من إجمالي احتياطيات النقد الأجنبي، وبحسب وكالة "رويترز"، فإن نسبة الدَّيْن إلى الناتج المحلي الإجمالي في باكستان الآن تقترب من 70%.

 

في ظل هذه الأجواء الملبدة بالغيوم، يظل طوق النجاة الوحيد الذي تتشبث به الدولة الباكستانية هو أن يستأنف صندوق النقد الدولي برنامج مساعداته بقرض متدرج قيمته 6.5 مليارات دولار تم إيصال نصفه تقريبا حتى الآن. وفي حين تحتاج باكستان عاجلا إلى تسلم الشريحة الجديدة في البرنامج، يبدو الصندوق هذه المرة غير راغب في تقديم أي تنازل لباكستان فيما يخص السياسات القاسية التي يريد أن يفرضها على البلاد، بعكس "تنازلاته" في العقود السابقة. هذا ومن غير المرجح أن يفرج الصندوق عن الشريحة التالية من مساعداته إلا مع التنفيذ الكامل لتوصياته، ما يعني تكيُّفا صارما سيعاني منه ملايين الفقراء الباكستانيين.

 

ورغم ذلك، لا تمتلك الدولة في باكستان خيارات أخرى بخلاف المُضي قُدما مع صندوق النقد، وبخلاف إنعاش خزائنها الخاوية، تسعى إسلام أباد من وراء قرض الصندوق أيضا لإثناء كبار الدائنين وعلى رأسهم الصين عن المطالبة بالسداد الفوري لمستحقاتهم، وإقناع الأسواق من جديد بقدرة البلاد على الاستفاقة. وفي أثناء كل هذا، يشعر العديد من الباكستانيين أنهم ضحايا حكومات متعاقبة قصيرة النظر، ودولة لم تستطع إنشاء نمط تنمية حقيقيا على مدار العقود السابقة.

 

جنرالات وديون.. الأسباب العميقة لأزمة باكستان

Train services resumed partially in Pakistan- - RAWALPINDI, PAKISTAN - MAY 20: Pakistani people wearing a face mask as a precaution against coronavirus (Covid-19) arrive at Rawalpindi Railways Station to board a train to leave for their hometowns to celebrate Eid al-Fitr with their families, in Rawalpindi, Pakistan on May 20, 2020. Pakistan on Wednesday partially resumed train services cross the country after being suspended for two months as the country continues to grapple with the coronavirus pandemic, resulting the death of more than 1,000 and infected coronavirus cases around 47,000.
تورَّطت باكستان في مشروعات فاخرة وبراقة لكنها غير مدروسة وقليلة الجدوى، مثل التوسُّع الكبير في الطرق السريعة والمطارات وأنظمة السكك الحديدية. (الأناضول)

بعد نجاحها في اختبار خمسة رؤوس نووية عام 1998، بات يُنظر إلى باكستان في العالم الإسلامي بوصفها نموذجا لدولة إسلامية ناجحة. ولم يكن هذا بعيدا تماما عن الصحة، إذ كانت باكستان قبل عام 1990 أحد أنجح اقتصادات جنوب آسيا وأكثرها تحقيقا للنمو، بل وفي وقت ما من الثمانينيات، استطاعت أن تتجاوز جارتها اللدود الهند، وحقَّقت معدلات مميزة في مكافحة الفقر. ومع ذلك لم ينظر الكثيرون بتمعُّن في طبيعة النموذج الباكستاني، الذي اتَّسَم بعدم الاستدامة وحمل في طياته بذور انهياره. ما الذي جعل النموذج الباكستاني إذن عاجزا عن تحقيق النمو المُستدام؟ كما نرى في السطور التالية، أخذت باكستان دوما طريق الإصلاحات قصيرة الأجل أو التسكين بدل الدواء، وهيمنت المؤسسة العسكرية على البلاد وتورَّطت في الديون، ما أدى بها إلى الفشل الاقتصادي الحالي.

 

لدى باكستان تاريخ طويل ومُعقَّد مع صندوق النقد الدولي، فقد وقعت في حباله منذ عام 1958، ولم تستطع الفكاك منه منذئذ. فقد اعتمدت على الديون الخارجية لتلبية حاجاتها التمويلية بشكل هيكلي، وسادت دائما في إدارة الدولة العقلية القائلة إن أهمية باكستان الإستراتيجية ستتيح لها دوما الحصول على المال. واستعانت إسلام أباد بصندوق النقد 22 مرة منذ ذلك الوقت، بخلاف الديون التي استدانتها من الدول الأخرى. وفي حين أقامت الهند خطتها طويلة الأمد عام 1990 لتحقيق تنمية مستدامة بمعدلات مرتفعة، ظلت باكستان أسيرة حلقات مع الديون لتحقيق استقرار قصير الأجل، ومن ثمَّ باتت سِمَتها الأساسية الإنفاق بأكثر مما تنتج. وعلى عكس جارتها الهند، لم يستطع الاقتصاد الباكستاني أن يتحوَّل من صيغة ريعية إلى صيغة إنتاجية حقيقية، ما تسبَّب في تفاقم العجز الذي أدى بدوره إلى تفاقم الديون. ويقول "حسين حقاني"، المدير الحالي لقسم جنوب ووسط آسيا في معهد "هَدسون" بواشنطن: "اتخذ صناع القرار المتعاقبون في باكستان خيار الاعتماد على المساعدات الخارجية في خضم تقوية الجيش متجاهلين أساسيات الاقتصاد".

 

على الجانب الآخر، لم تكن هناك سياسات جدية طويلة الأجل لتحسين القطاعات التي تستطيع أن تنقل الاقتصاد الباكستاني إلى طور جديد مُستدام يعتقها من حلقة الديون، فقد ذكر "محمد زبير خان"، وزير التجارة الباكستاني الأسبق في ورقة بحثية بعنوان "اللبرلة والأزمة الاقتصادية في باكستان"، أن باكستان لم تُجرِ خطة محكمة لتحسين كفاءة إنفاقها منذ التسعينيات، وأن تخفيضات ميزانيتها ظلت تتجه نحو الطريق الأسهل وهو تقليص القواعد التي تعتمد عليها التنمية، في حين تورَّطت الدولة في مشروعات فاخرة وبراقة لكنها غير مدروسة وقليلة الجدوى، مثل التوسُّع الكبير في الطرق السريعة والمطارات وأنظمة السكك الحديدية، دون تكامل اقتصادي مع القطاعات التي يُفترض أن تستفيد من تلك الطفرة في البنية التحتية وتخلق تنمية حقيقية.

 

لقد عانت باكستان طيلة العقد الماضي من تراجع الصادرات كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في ظل التنافس مع جيرانها وضعف قدرتها على توليد بيئة تكنولوجية وتصنيعية ناجحة. ومن ثم انخفضت باستمرار حصتها في التجارة العالمية، وزاد اعتمادها في صادراتها على السلع الأولية. ومن جهة أخرى، تقع باكستان وفق مؤشرات عام 2020 في المرتبة 108 بين الدول التي يغطيها تقرير ممارسة أنشطة الأعمال الصادر عن البنك الدولي، في حين تحتل الهند المرتبة 63، ما يعني أن تطوير بيئة الأعمال لم يؤخذ على محمل الجدية في باكستان لسنوات طويلة بعكس جيرانها.

 

ويشير المحللون أيضا إلى أن الزراعة أُهمِلَت في البلاد رغم مساهمتها بنسبة 24% من الناتج القومي، إذ بدأت باكستان مؤخرا في استيراد محاصيل أساسية لم تكن بحاجة إلى استيرادها من قبل، وكان ذلك نتاجا لعدم وجود خطط متكاملة طويلة الأجل للتنمية. ويختصر "مايكل كوجلمان"، نائب مدير برنامج آسيا بمركز "ويلسون" الأميركي، التجربة الباكستانية بالمقارنة مع جارتها وعدوها اللدود قائلا إنه في الوقت الذي أخذت فيه الهند خطوات جادة لتنفيذ سياسات تحقق التعليم الشامل والرعاية الصحية، في اهتمام واضح بالعنصر البشري؛ تجاهلت نخبة باكستان الحاكمة أبسط احتياجات الشعب الاقتصادية، ودور العنصر البشري في تحقيق طفرة نسبية مشابهة لتلك التي نجحت فيها الهند مقارنة بدول جنوب وجنوب شرق آسيا.

 

أزمة مزمنة.. وقلق هندي

NEW YORK, NY - SEPTEMBER 27: Prime Minister of Pakistan Imran Khan addresses the United Nations General Assembly at UN headquarters on September 27, 2019 in New York City. World leaders from across the globe are gathered at the 74th session of the UN General Assembly, amid crises ranging from climate change to possible conflict between Iran and the United States. Drew Angerer/Getty Images/AFP== FOR NEWSPAPERS, INTERNET, TELCOS & TELEVISION USE ONLY ==
يرصد متابعو الشأن الباكستاني تضاؤل شعبية الدور السياسي للجيش، الذي بدأ يفقد أنصاره التقليديين في صفوف الطبقات العليا والوسطى بالمدن منذ الإطاحة بـ"عمران خان"، رئيس الوزراء السابق الذي لا يزال يتمتع بشعبية كبيرة. (الفرنسية)

يشير العديد من المتخصصين في العلوم السياسية اليوم إلى باكستان بوصفها نموذجا لكيف يمكن أن تؤثر هيمنة الجيش على دولة إلى زعزعة استقرارها السياسي والاقتصادي على المدى الطويل. ويسيطر الجيش على نسبة تتراوح من 18% إلى 23% من ميزانية إسلام أباد. وقد منحت السيطرة الراسخة على البلاد فوائد أصيلة لأعضاء المؤسسة العسكرية، مثل العضوية الزهيدة في النوادي وملكية الأراضي والمكانة الاجتماعية. ولطالما خدمت السياسات الاقتصادية النخب العسكرية والأغنياء المدنيين الذين اعتمدوا على رفاهية مصنوعة من عجلة الديون والمعونات، مع إهمال وضع خطط طويلة المدى للتنمية المستدامة تستفيد منها قطاعات أوسع من السكان.

 

نتيجة لذلك، يؤكد بعض الخبراء رفع يد الجيش عن الاقتصاد الباكستاني هي الخطوة الأولى من أجل الإصلاح، في حين ينادي بعضهم بأن تخفيض الإنفاق العسكري الضخم نفسه ضرورة لا مفر منها في ظل الانهيار الاقتصادي الوشيك. ورغم أهمية التسليح بالنسبة لباكستان نظرا لموقعها، فإن أولوية إطعام الباكستانيين باتت أكثر إلحاحا، لا سيما أن احتمالات اندلاع حرب شاملة مع الهند تظل بعيدة في ظل التوازن النووي بين البلدين. ولذا، يرصد متابعو الشأن الباكستاني تضاؤل شعبية الدور السياسي للجيش، الذي بدأ يفقد أنصاره التقليديين في صفوف الطبقات العليا والوسطى بالمدن منذ الإطاحة بـ"عمران خان"، رئيس الوزراء السابق الذي لا يزال يتمتع بشعبية كبيرة. ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية، بدأ النقد الحاد على مواقع التواصل الاجتماعي لأسلوب إدارة البلاد، فضلا عن انتقادات بدأت تصدر من بعض العسكريين المتقاعدين.

 

واحدة من السياسات التي يريد صندوق النقد الدولي من باكستان الالتزام بها مقابل المساعدة هي إنهاء الإعفاءات الضريبية للصناعات المُخصَّصة للتصدير، بالإضافة إلى إلغاء الدعم على الوقود والغاز والكهرباء. ورغم أن إلغاء الإعفاءات الضريبية إحدى سياسات الصندوق التي كثيرا ما تتعرض للنقد، وتحديدا من أصحاب التوجه اليساري، فإن مشكلة السياسات الضريبية في باكستان أبعد من تلك النقطة بكثير، إذ يشير "زبير خان" إلى أن الوضع المالي البائس لباكستان في السنوات الأخيرة يعود إلى أسباب عديدة، أهمها القاعدة الضريبية الضيقة وغير العادلة. ولدى باكستان نسبة لتحصيل الضرائب إلى الناتج المحلي الإجمالي تُعَدُّ من النِّسَب الأدنى في العالم، وتشير أرقام عام 2021 إلى أن ثلثي الأشخاص الذين لديهم رقم ضريبي سارٍ وأعمال تجارية لم يقدموا إقراراتهم الضريبية السنوية. ولتوضيح الأمر أكثر، فإن كل ولاية البنجاب التي يزيد عدد سكانها على 100 مليون نسمة، حُصِّلَت عنها ضرائب عام 2021 أقل من مدينة "تشيناي" الهندية التي يسكنها 10 ملايين نسمة فقط.

 

علاوة على ذلك، لا يعمل نظام الضرائب على نحو تصاعدي بحيث يستطيع الجباية من الأكثر ثراء لينقذ الأكثر فقرا، كما توجد امتيازات وإعفاءات للشركات وملاك الأراضي الكبار والمؤسسات الاقتصادية التابعة للجيش، التي تُقدَّر بنحو 17.4 مليار دولار بحسب تقرير الأمم المتحدة عن التنمية البشرية في باكستان لعام 2021. إذن، ليس اقتصاد باكستان باقتصاد ريعي فحسب، بل إنه يتَّسِم أيضا بحجم كبير من الإعفاءات الضريبية، ما يجعل البلد دائما غير قادر على تحصيل الإيرادات الضرورية إلا بالقروض. ويُشبِّه "عزير يونس"، مدير المبادرة الباكستانية بمركز جنوب آسيا التابع للمجلس الأطلسي، الكارثة في باكستان إذا حدثت بما حدث في بعض البلدان العربية في العقد المنصرم، ويقول إن العالم منزعج بسبب تدفُّق اللاجئين والأسلحة من سوريا وليبيا، فلنا أن نتخيَّل ما يُمكن أن يحدث إن وقع شيء مشابه في باكستان النووية وذات الجيش القوي والتعداد السكاني الضخم والانقسامات الاجتماعية الخطيرة والجماعات المسلحة النشِطة.

 

وفيما يبدو، فإن الأمر وصل إلى مرحلة من الخطورة دفعت بعض المحللين السياسيين الهنود للتحذير من أزمة باكستان، محذرين أنها ربما تضر بالهند في نهاية المطاف رغم تنافس البلدين، لأنها تؤثر على صادرات الهند لباكستان، كما تتخوف الهند من اشتداد الكارثة في باكستان وما قد تجلبه من أعداد غفيرة من اللاجئين. فضلا عن ذلك، فإن الصين التي جمعتها الكثير من المناوشات مع الهند في السنوات الأخيرة قد تستغل الأزمة لزيادة نفوذها في باكستان بشكل يزيد من قلق صناع القرار في الهند في ظل التنافس الجيوسياسي بين القُطبين الآسيويَّيْن. ولهذه الأسباب يُستبعد أن يسمح جيران باكستان على الأقل بسقوطها، ولكن إذا لم تجد باكستان حلولا طويلة المدى، وتعمل عليها بجدية للتخلص من الديون وتسلك مسارات التنمية المستدامة، فإنها ستظل تعيش في دوامات الأزمات العاصفة بلا توقف، ولن يسعفها دوما وضعها الإقليمي والدولي أو ترسانتها النووية.

——————————————————————————

المصادر

  1. Inflation in Pakistan could average 33% in H1 2023
  2. Number of active taxpayers falls 30%
  3. External public debt falls by $4.7b
  4. Pakistan may be able to avoid a full-blown economic crisis
  5. The fragile state of Pakistan
  6. Pakistan is at risk of default
  7. Why is Pakistan’s government asking people to drink less tea?
  8. Pakistan’s Climate Disconnect
  9. Pakistan’s Year of Turmoil
  10. Another Sri Lanka In The Making? Pakistan On Brink Of Economic Ruin | Insight | Full Episode
  11. Pakistan Economic Crisis: Fitch downgrades Pakistan’s currency ratings | World News | WION
  12. Why Pakistan’s economy is a mess
  13. Why Pakistan’s Economic Crisis Is Getting Worse
  14. Pakistan’s economic crisis
  15. Liberalization and Economic Crisis in Pakistan
  16. Five Steps Pakistan Needs To Take To Resolve Its Grave Economic Crisis
  17. ‘Move beyond Jinnah’: A financial guru traces the origins of Pakistan’s economic despair
  18. Why has Pakistan not realized its potential?
  19. ECONOMY: PAKISTAN’S STORY OF DEBT
  20. Why Pakistan Always Seems on the Brink of Collapse
  21. Pakistan’s Government Is Choosing Extremist Islam Over Economic Stability
  22. Pakistan-economic-crisis-deepens-and-why-india-should-be-worried
  23. Pakistan on the Brink: What the Collapse of the Nuclear-Armed Regional Power Could Mean for the World
  24. Fitch Downgrades Pakistan to ‘CCC-‘
  25.  أزمة الديون العالمية على وشك الانفجار مع توقعات قاتمة
المصدر : الجزيرة

إعلان