بعيدا عن غزة.. هل تخطط إسرائيل لنكبة جديدة في الضفة الغربية؟
مقدمة الترجمة:
منذ اللحظة الأولى التي بدأ فيها الرد الإسرائيلي على "طوفان الأقصى"، التفتت الأنظار إلى غزة، لكنَّ أحدا لم يدرك أن الضفة الغربية كذلك تعاني بشكل غير مسبوق، حيث تعالت الأصوات الصهيونية المتطرفة في كل مكان، ووجد المستوطنون فرصتهم لتنفيذ ما يدّعون أنه "مهمتهم المقدسة" بحماية الأرض التي وعدهم الله بها، خطة تقول إن الفلسطينيين في الضفة الغربية، البالغ عددهم 3 ملايين نسمة، ليس أمامهم سوى خيارين، إما العيش بوصفهم مواطنين من الدرجة الثانية داخل دولة يهودية لا يتمتعون فيها بأي حقوق سياسية أو شخصية، وإما الهجرة إلى إحدى الدول العربية المجاورة.
جرامي وود، الكاتب في موقع "ذي أتلانتك"، شهد بعينيه على ذلك في زيارة إلى الضفة الغربية، بل وتعرض هو نفسه للتهديد، وفي هذه المادة المطولة يستعرض رحلته، وحواراته مع الفلسطينيين والمستوطنين، ويدرس خلالها جانبا من طبائع المستوطنين وسلوكهم.
نص الترجمة:
في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بينما كنت أقود سيارتي على طريق ترابي متجها إلى الضفة الغربية، تلقيت مكالمة هاتفية من مكتب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي لتحديد موعد لاجتماعنا، لكنني أوضحت له مدى صعوبة التحدث إليه الآن لأنني ببساطة كنت أتعرض في هذه اللحظة للتهديد من رجلين يحملان سكاكين. وكان أول ما طرحه عليّ: "هل هم يهود أم عرب؟". أجبته بأنهم يهود. في النهاية، سألني إن كنت أرغب في أن يساعدني بالتحدث إليهم.
قبل دقيقة تقريبا من هذا الاتصال، قاد هذان الشابان سيارتهما البيضاء المُتهالكة أمام سيارتي وصرخا في وجهي بالعبرية لكي أركنها على جانب الطريق وأترجل منها. ظهر كلاهما بسروال زيتوني يشبه ما يرتديه الجيش الإسرائيلي رغم أن قمصانهما كانت مدنية. وحينما تأملتهما، رأيت سكاكين قتالية طويلة مثبتة على خصريهما، بينما تعتلي رأسيهما هذه القبعة الصغيرة الشائعة بين مستوطني الضفة الغربية، التي يتدلى من جانبها خصلات شعر طويلة ، والمعروفة باسم "الكيباه".
في تلك اللحظة، جال في خاطري أنه يمكنني دهسهما قبل أن يطعناني. لذلك رفضت مساعدة المتحدث الرسمي، وهيأت نفسي للضغط على دواسة الوقود بينما أصرخ في وجهيهما بأنني صحفي. أمطراني بأسئلة على غرار: مَن أنت؟ وماذا تريد؟ اتضح لي أن النظرية الأميركية الكلاسيكية التي تشير إلى أن صراخك على الأجانب باللغة الإنجليزية سيؤتي ثماره على الفور كانت صحيحة. اتجه أحدهما إلى نافذة سيارتي وهو يتمتم بأن هذا المكان خطير وأن مَن يسكنه إرهابيون، وعليَّ ألا آتي إلى هنا مرة أخرى. قلت له: "لا بأس، سأكون بخير في هذا المكان". وبينما كان الرجل الآخر يصورني أنا وسيارتي، استمر الأول في تهديده لي باذلا ما في وسعه للتأكد من أنني أرى تلك السكاكين وأنهى حديثه معي قائلا: "لا تعد إلى هنا مرة أخرى، وهذا تحذيرنا الأخير لك".
لقد مرَّ الآن قرابة شهرين منذ هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ومضى وقت مماثل تقريبا منذ تعهدت إسرائيل ردا على ذلك بتدمير حماس وقطاع غزة بالكامل. وفهم الجميع أن ذلك يعني اجتياح غزة بحملة برية اعتقد الكثيرون أنها ستبدأ رغم تردد إسرائيل في اتخاذ هذه الخطوة كثيرا. وبينما ينشغل الجميع بأحداث غزة والاجتياح البري، لم ينتبه الكثيرون لما يحدث في الضفة الغربية من حملات أخرى يشنها المستوطنون على أهالي المنطقة.
إن حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اليمينية مؤيدة للاستيطان بدرجة أكبر وأشد عدوانية من أي حكومة أخرى في الذاكرة الحديثة. وعندما وصلت هذه الحكومة إلى السلطة في ديسمبر/كانون الأول، ضاعف المستوطنون الإسرائيليون جهودهم لإنشاء مستوطنات جديدة وطرد الفلسطينيين الذين يعيشون بالقرب منها. وبعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، ازدادت وتيرة هذه العملية على نحو واسع وعنيف لدرجة أن بعض المجتمعات الفلسطينية التي كانت موجودة قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول لم يتبقَّ منها شيء الآن.
أراضٍ فلسطينية يبتلعها الاستيطان
في منتصف شهر سبتمبر/أيلول الماضي، زرتُ وادي السيق، وهو مجتمع بدوي يقع شرق مدينة رام الله ويبعد 25 دقيقة فقط بالسيارة عن وسط القدس. أخبرني أحد سكان وادي السيق، أبو بشار ذو الـ48 عاما، أن ما يقرب من 30 عائلة انتقلت إلى هذه القرية على مراحل، وبحلول التسعينيات جاء معظم أهالي القرية إلى هناك. من الواضح أن مجتمع وادي السيق تمكن من الاحتفاظ بأنماط حياة أجداده في التجول والترحال، فيما ترتكز الحياة الاجتماعية للذكور على خيمة كبيرة ذات إطار خشبي، مع أقمشة ومراتب على الأرض.
حينما وصلتُ إلى هناك في ذلك الوقت، رأيت الرجال وهم مستلقون على المراتب، يدخنون، ويشربون القهوة ذات القوام الكثيف، ومنهم مَن كانوا منشغلين بهواتفهم. ولكن كلما تناهى إلى مسامعهم صوت سيارة قادم من الطريق الترابي، خرجوا من الخيمة لمعرفة ما إذا كان القادم صديقا أم عدوا. في تلك الأثناء راود العديد من البدو الآخرين، ومعهم ناشطون إسرائيليون، رغبة في توثيق غارات المستوطنين على أهالي هذه القرية.
يحكي أبو بشار كيف بدأت حكاية الاستيطان في هذه القرية قبل أقل من عام واحد، وذلك حينما نصب مستوطن إسرائيلي خيمة على الطريق، ثم شجع الآخرين على الانضمام، وهو ما خلَّف وراءه بؤرة استيطانية تُعرَف بـ"معاخاز" (وهي كلمة عبرية تعني معقل أو قبضة). وتختلف المعاخاز عن أي مستوطنة إسرائيلية عادية في الضفة الغربية بكونها أشد وحشية وتطرفا، فضلا عن أنها غير قانونية، رغم أن القانون الإسرائيلي يحظر بناء بؤر استيطانية جديدة. وفي حين تتكرر شكاوى الفلسطينيين في وادي السيق من أن إسرائيل لم تسمح لهم حتى ببناء أي أكواخ جديدة في العقود الأخيرة، تتسارع على الجانب الآخر وتيرة توسع البؤر الاستيطانية. وفي خضم هذه الأحداث، لا يُبدي الجيش الإسرائيلي -الذي يفرض سيطرته على الأرض- أدنى اهتمام تجاه هذه القضية.
إحدى المفارقات العجيبة التي أشار إليها أبو بشار هو أسلوب حياة المجتمع البدوي الذي تبنَّاه هذا المستوطن وأصدقاؤه، بإحضارهم مواشيهم الخاصة، وبنائهم للأكواخ، ونصبهم للخيام. وأكدَّ أبو بشار زيادة مستوى شراستهم وعدوانيتهم مع وصول الحكومة الإسرائيلية اليمينية الحالية إلى السلطة. ويعتبر حلفاء نتنياهو الضفة الغربية جزءا لا يتجزأ من إسرائيل الكبرى، لذا فهم لا يتوانون لحظة عن تشجيع الآخرين لبناء المزيد من المستوطنات اليهودية التي ستساعد في بلع الأراضي الفلسطينية وتحويلها إلى دولة يهودية. وبلغتْ استفزازات مستوطني وادي السيق أقصاها بإغلاقهم الطريق الذي كان يستخدمه الفلسطينيون للوصول إلى الطريق السريع المؤدي إلى أريحا. ولم يكتفوا بذلك، بل عبثوا بخزانات احتجاز مياه الأمطار الخاصة بالبدو.
استمر عدوان المستوطنين على الأهالي هناك، وهو ما يتجلى في هجومهم على المخيّم وتكسيرهم للنوافذ وبذل ما في وسعهم لمضايقة الرجال والنساء هناك. وفي مكان قريب من القرية، توجد مدرسة صغيرة بتمويل أوروبي. حينما ألقيتُ نظرة خاطفة عليها، رأيتُ دروس التهجئة المكتوبة على السبورات، بجانب بعض الشعارات الفلسطينية المرسومة على جدران المدرسة مثل "أمتي هي روحي!". وأفاد أبو بشار بأن المستوطنين زاروا هذه المدرسة أيضا وبثوا في قلوب أطفالها الرعب.
منشورات تحذّر من نكبة جديدة
يبدو أن أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول سمحت لمستوى جديد من الوحشية في الضفة الغربية. فعلى سبيل المثال، تمحور أحد أهداف مجموعة من المستوطنين حول بث منشورات تفزع الفلسطينيين الذين لم يغادروا أراضيهم بعد، على مواقع ووسائل على التواصل مثل واتساب. وغلب على هذه المنشورات طابع التهديد على غرار: "أنتم مَن بدأتم الحرب، لذا فلتستعدوا لمواجهة نكبة جديدة". واصل المستوطنون سعيهم لمضايقة الفلسطينيين وتذكيرهم في هذه المنشورات بتهجير أهلهم في حرب 1948، كما أخبروهم بضرورة البحث عن ملجأ في مكان آخر: "نحن نمنحكم فرصة الهروب إلى الأردن الآن على نحوٍ منظَّم، لأننا سنُبيدكم ونطردكم بالقوة من أرضنا. لذا يُستحسن أن تحزموا أمتعتكم بسرعة، ولا تنسوا أننا حذرناكم!".
مع زيادة حِدَّة هجمات المستوطنين وشراستهم، أخبرني أبو بشار في مقابلة أجريتها معه الشهر الماضي أن الفلسطينيين تركوا مجتمعهم الصغير المتداعي، وقرروا إرسال النساء والأطفال أولا. لكن عندما عاد الرجال لجمع أمتعتهم، استقبلهم مستوطنون بزي عسكري، وبمجرد لمحهم عائدين، أطلقوا النار في الهواء وهددوهم بأن أمامهم ساعة واحدة فقط لأخذ أغراضهم، وإلا فسيقتلونهم. وفقا لتقرير نشرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، فإن الجيش الإسرائيلي والمستوطنين قد زاروا وادي السيق في 12 أكتوبر/تشرين الأول، واعتدوا على ثلاثة من الفلسطينيين. وأظهر التقرير صورا لرجلين فلسطينيين، جردهما الجيش الإسرائيلي من ملابسهما، وضربهما، وقيَّدهما، وكمَّم أفواههما، كما سلَّط التقرير الضوء أيضا على شراسة الجيش في التنكيل بهما. أخبرني متحدث باسم الجيش الإسرائيلي أن الجنود كانوا موجودين بالفعل في وادي السيق في ذلك اليوم جراء استلامهم بلاغا عن وجود "مشتبه بهم" في إحدى المزارع. ولم يؤكد الجيش الإسرائيلي حدوث التعذيب، لكنه قدَّم بيانا يوضح أن "القادة العسكريين اعتقدوا أن سلوك الجنود جاء مخالفا لتوقعاتهم، وقرروا عزل قائد القوات الذي نفذ الاعتقال".
عدتُ إلى وادي السيق من جديد، وفي الوقت الذي توجهت فيه إلى مخيم بدوي يُسمى مغاير الدير، على التل المقابل لوادي السيق، اعترض طريقي مستوطنان. ورغم محاولاتي التحدث إليهما وإجراء حوار سريع معهما، قررا المغادرة دون أن يتفوّها بكلمة واحدة. وعندما وصلت إلى هناك، أخبرني بدوي كان بصحبة أطفاله أن أبو بشار ومجتمعه قد سبق ونزحوا من هنا، وعبّر عن استيائه من الصحفيين والناشطين الأجانب على شاكلتي، لعدم قدرتنا على تغيير أي شيء رغم كل المقابلات التي نجريها معهم. لقد أبعدني وقال لي إن وجودنا في حد ذاته يؤجج شراسة المستوطنين ويزيد من عدوانهم علينا. فما إن نغادر المكان، حتى يسارعوا في إثارة المشكلات وضرب أطفاله.
استطعت أن أرى وأنا في مخيم "مغاير الدير" ما تبقى من وادي السيق الذي بات أشبه بساحة للخردة. وأكدَّ أبو بشار في وقت لاحق أن المستوطنين فتشوا تلك الأنقاض، وسرقوا بعض الأشياء وخربوا ما تبقى منها. أرسل إليّ ناشط إسرائيلي صورا لمراتب ممزقة متناثرة على الأرض تكتنفها فوضى عارمة بدت وكأنها نتيجة لأعمال شغب أو إعصار ما. كما شاهدتُ أيضا صورا للمدرسة الجميلة وقد لحقت بها الكثير من الويلات، ولم يعد باستطاعة التلاميذ الرجوع إليها من جديد.
خطة سموتريتش
وبالعودة إلى المشهد الذي بدأت به مقالي، سنجد أنني كنت حينها متجها نحو وادي السيق عندما اعترض طريقي مستوطنان ظلّا يصرخان في وجهي وفي أيديهم سكاكين. في تلك الأثناء، قررت أنني لست بحاجة إلى البقاء لأشهد على ما قد يحدث لي. ورغم قراري بالابتعاد عنهما، ظلّا يتعقباني ويحدقان بي بغضب ويلتقطان مقاطع فيديو لسيارتي. وفي النهاية، واصلا القيادة على الطريق الترابي المؤدي إلى وادي السيق.
يشير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، وهو أحد مراكز تبادل البيانات حول ما يرتكبه المستوطنون من تعديات، إلى أن حوادث عنف المستوطنين تضاعفت منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وعن ذلك الموضوع تُفيد أليغرا باتشيكو، رئيسة اتحاد حماية الضفة الغربية، بأن أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول كانت فرصة للمستوطنين لارتكاب جميع الجرائم التي لطالما عقدوا العزم على ارتكابها. وأكدت ذلك بقولها: "نحن نتحدث عن أعداد مهولة من المدنيين المسلحين العدوانيين الذين يستغلون الوضع في أوقات الحرب لتعزيز أجندتهم السياسية".
قد يبدو هذا العنف حادثا ثانويا، أو حلقة عنف بسيطة وسط حادثتين أكبر؛ وهما هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والرد الإسرائيلي العنيف على قطاع غزة الذي راح ضحيته آلاف المدنيين. ومع ذلك، يرى المستوطنون أن أنشطتهم مرتبطة ارتباطا وثيقا بجميع الخلافات الإسرائيلية مع غير اليهود. ويعتبر بعضهم أن مهمتهم مقدسة وهي حماية الأرض التي وعدهم الله بها ولديهم أهداف عملية لتنفيذها. في عام 2017، وضع بتسلئيل سموتريتش، الذي كان آنذاك عضوا في الكنيست عن حزب البيت اليهودي، ما سمّاه بـ"خطة التسوية الحاسمة"، ووصف هذه الخطة بأنها ليست ميثاقا دينيا، وإنما وثيقة واقعية وجيوسياسية وإستراتيجية، قادرة على إنهاء الصراع بين الطرفين عن طريق الاستيطان.
دعا سموتريتش إلى إنشاء مدن ومستوطنات إسرائيلية جديدة داخل الأراضي الفلسطينية واستقطاب مئات الآلاف من المستوطنين الإضافيين للسكن فيها، وإحدى المفارقات أنه يشغل حاليا منصب وزير المالية في حكومة نتنياهو، ويُعد أحد أكثر أعضائها نفوذا. تنص خطة سموتريتش على أن الفلسطينيين في الضفة الغربية، البالغ عددهم 3 ملايين نسمة، ليس أمامهم سوى خيارين، إما العيش بوصفهم سكانا داخل دولة يهودية لا يتمتعون بأي حقوق سياسية ومحرومين من أي نفوذ سياسي، وإما الهجرة إلى إحدى الدول العربية لتحقيق طموحاتهم الوطنية أو لأي وجهة أخرى في العالم. تُضفي هذه الشروط على فكرة "التهجير" طابع الإجازة مدفوعة الأجر، ولكنها تظهر على حقيقتها في الجزء الذي ينص على ضرورة الغزو العسكري لأولئك الذين لا يختارون أحد الخيارين. بمعنى آخر، تُعد هذه الخطة أقرب إلى عمليات التهجير والتطهير العِرقي.
خضع وادي السيق لتطهير عِرقي، ليس لأن الحكومة قد وافقت خطة سموتريتش، بل لأنه بات من الممكن الآن -تحت غطاء ما يُسمى بحالات الطوارئ- ارتكاب جرائم شنيعة كان من المستحيل حدوثها في ظروف أكثر هدوءا واستقرارا. بعد أن أمضيتُ الليلة في وادي السيق، أخبرتُ البدو برغبتي في مقابلة المستوطنين، لكنهم حذّروني من مدى قسوة هؤلاء وخطورة التعامل معهم، وإن أردت مقابلتهم فعليَّ الذهاب بمفردي. ذكّرتني الطريقة التي تحدث بها الفلسطينيون عن البؤرة الاستيطانية بالطريقة التي يتحدث بها رواد الفضاء في الأفلام الفضائية عن الذهاب في رحلة إلى الفضاء. وكأن ما أردت القيام به كان أشبه بنشاط خارج المركبة، فيما يراقبني الآخرون من خلال الفتحات ويأملون ألا تلتهمني الوحوش الموجودة هناك.
وبينما أسير على الطريق، رأيت البؤرة الاستيطانية الصغيرة على بُعد ربع ميل عبر وادٍ جاف. جلست على صخرة وأنا أتأمل هذه البؤرة لبضع دقائق، بدت لي مكانا بدائيا ومُتهالكا يضم حظيرة أغنام، وبعض السيارات، ومعدات زراعية متناثرة. وفي النهاية ظهر قطيع من الأغنام يقوده مستوطن ببطء إلى جانب التل. مشيت نحوه ولوّحت بذراعي في محاولة مني لبدء الحديث معه. وعندما اقتربت، اكتشفت أنه صبي في سن المراهقة تقريبا، يرتدي قميصَ عملٍ متسخا وملطخا بقطع من العلف. بدا الوضع غريبا وأنا أحييه بصوت عالٍ وهو ينظر إليّ مستنكرا، لذا قررت تركه والمُضي قُدما.
وبعد نحو خمس دقائق، اعترضت طريقي شاحنة صغيرة متهالكة. ومع ذلك، ألقيت التحية على السائق، لكنني رأيته يبحث عن شيء داخل السيارة، وتساءلت عما إذا كان يبحث عن سلاح ليطلق النار على رجل كان يتمنى له السلام. لكن لحُسن الحظ، أخرج في النهاية هاتفا وسلمه لي بطريقة تشي بنفاد صبره. وبمجرد أن أمسكت الهاتف، سرعان ما أمطرت عليّ امرأة وابلا من الأسئلة في مكالمة عبر الهاتف: "مَن أنت؟ وما الذي تفعله هنا؟ وماذا تكتب في دفترك؟". أخبرتها أنني صحفي وأرغب في مقابلة المستوطنين والتعرف على حياتهم، وقد ركنت سيارتي بالقرب من مخيم البدو.
بدا الرجل متوترا وهو يتحدث إليها مرة أخرى لبضع دقائق. وعندما أعطاني الهاتف من جديد قالت لي إنه سيوصلني إلى سيارتي، ولا بد أن أتوخى الحذر لأن الشعب الفلسطيني -من وجهة نظرها- هو شعب إرهابي للغاية. في النهاية، ركبت شاحنة الرجل، وأعادني إلى المجتمع الفلسطيني. (استطعت أن أرى من تعابير وجهه أن مساعدته لي لم تكن معروفا منه، بل كانت نقلا قسريا في صورة مصغرة: لقد أرادوا رحيلي والتخلص مني). وصلت بشاحنة المستوطن وكان بانتظاري على حافة الطريق ستة رجال من الفلسطينيين. وما إن وطأت قدمي الأرض حتى استقبلوني ونظروا إليَّ باهتمام وعناية، في حين غادر المستوطن مسرعا بسيارته مخلِّفا وراءه كومة من الأتربة والغبار غمرتنا جميعا. سألت أحد الرجال هناك إن كان قد تعرف على المستوطن الذي أوصلني، فأجابني بكلمة واحدة يبدو أن الجميع في وادي السيق يعرفونها باللغة الإنجليزية: "إنه إرهابي لعين بلا شك!".
———————————————————————————-
هذا المقال مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
ترجمة: سمية زاهر.