مع تواطؤ الاحتلال في تهريبها.. كيف تحارب حماس المخدرات في غزة؟
في فبراير/شباط الماضي، أعلنت سلطات المعابر التابعة للاحتلال الإسرائيلي عن ضبط 10 آلاف رصاصة مخصصة للبنادق والمسدسات على معبر كرم أبو سالم التجاري كانت في طريقها إلى غزة، بعد أن خُبِّئت داخل شُحنة أدوات منزلية، وهو ما يسلط الضوء على حجم السلطة الرقابية التي يملكها ويمارسها الاحتلال على منافذه مع قطاع غزة لمنع إدخال كل ما يمكن أن يُستخدم بواسطة المقاومة الفلسطينية، أو حتى لتسيير حياة الفلسطينيين اليومية.
في المقابل، فإن هذه الآلة الرقابية الضخمة يصيبها العجز أو العمى عندما تكون المضبوطات مواد مخدرة في طريقها لسكان غزة، حيث تُمرَّر تلك المواد بسهولة بواسطة سلطات الاحتلال، التي تمتلك أدوات تفتيش حديثة تصل قدرتها إلى درجة تمييز ماركات معينة للملابس يُمنع دخولها إلى القطاع. أما على الجانب الآخر من المعبر المذكور، لا يكفّ موظفو المعبر الفلسطينيون عن بذل الجهود لاكتشاف المخدرات داخل الشحنات بعد أن تمر على عناصر التفتيش الإسرائيلي.
بشكل إجمالي، تشير تقديرات عبرية أن حجم تجارة المخدرات بقطاع غزة، ذلك الكيان المحدود جغرافيا والمحاصر إسرائيليا، يبلغ قرابة 2.5 مليون دولار أميركي سنويا. ومن أكثر المواد المخدرة التي تُهرَّب إلى غزة أقراص الحشيش والكِبتاغون، المعروف محليا باسم "حبوب روتانا"، والتي يمكن للمارّ في الأزقة أن يرى عمليات بيعها بأم عينه. هذا ووصل عدد القضايا الخاصة بالمخدرات المنظورة أمام المحاكم في غزة عام 2021 إلى 1300 قضية، بالتزامن مع تصاعد عمليات المواجهة والتصدي للمخدرات من قبل سلطات القطاع.
من البر والبحر.. طريق المخدرات إلى غزة
يُعَد استخدام الحشيش في فلسطين ظاهرة حديثة نسبيا، فقد وصل إليها أثناء فترة الانتداب البريطاني في عشرينيات القرن الماضي، واشتهرت آنذاك طريقة تهريب الحشيش عبر قوافل الإبل، إذ أجبر المهربون الإبل على ابتلاع أسطوانات من الصفيح ممتلئة بالحشيش، وبعد وصول القافلة إلى مكان مُعيَّن، يقومون بذبحها وبقر بطونها من أجل إخراج الأسطوانات منها. وفي الثلاثينيات، قُدِّم الحشيش في حانات تل أبيب لليهود، وكذلك في مقاهي المدن العربية التي اختلط فيها العرب باليهود مثل حيفا ويافا. وفي الخمسينيات أنشِئت مصانع مخصصة لصناعة مُخدّرَي الكوكايين والهيروين والمخدرات الصناعية في دولة الاحتلال، ومن هناك انتقل بكثافة إلى دول عديدة من جيرانها في المنطقة.
ضلعت دولة الاحتلال في تجارة المخدرات وإرسالها لمصر بطبيعة الحال، إذ شاركت المنظمة الصهيونية شبه العسكرية "إرجون" في تهريب الحشيش إلى مصر في الأربعينيات من أجل تأمين الإنفاق الحربي لصالح العصابات الصهيونية. ولم يكتفِ تجار المخدرات اليهود بالسماح لمهربي الحشيش من بدو النقب بمواصلة سيرهم نحو مصر وهم يحملون المخدرات المُهرَّبة، بل واستخدموا المركبات العسكرية تحت سمع وبصر جيش الاحتلال لنقل الحشيش إلى مصر أثناء احتلال سيناء طيلة 6 سنوات بين عامي 1967 و1973.
بالنسبة إلى قطاع غزة، يُعتقد أن المخدرات دخلت إليه عن طريق الأنفاق الحدودية مع مصر، التي بدأت عملها منذ خمسينيات القرن وتوسَّعت خلال التسعينيات، إذ كانت سيناء بيئة صحراوية جيدة لزراعة البانجو والحشيش. ومع سيطرة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على غزة عام 2007، شنّنت الحركة حملات اعتقال استهدفت مُروِّجي المخدرات، فيما بادر بعضهم بتسليم نفسه. ومع ذلك بقيت الأنفاق بعد أن تحوَّلت إلى وسيلة وحيدة لفك الحصار المفروض إقليميا ودوليا على القطاع، وأدخِلت من خلالها البضائع الحيوية، ومن ثَمّ بقيت مصدرا رئيسيا لتهريب المخدرات أيضا. ومع تدمير معظم الأنفاق من قبل الجيش المصري منذ عام 2013 وما بعده، تراجعت التجارة عبر الأنفاق وإن لم تتوقف تماما.
سرعان ما انتقلت مسارات التجارة إلى معبر كرم أبو سالم الذي يربط قطاع غزة بالأراضي المحتلة، إذ أصبح هذا المعبر التحدي الأكبر لغزة مع دخول مئات الأطنان من البضائع التي تمر على ظهر أكثر من 500 شاحنة يوميا ويستحيل تفتيشها جميعا بطبيعة الحال، ولذا، باتت عمليات إخفاء المخدرات داخل الملابس والأحذية والمنتجات الخشبية الوسيلة الجديدة لإدخال المخدرات؛ ما صعَّب المهمة على موظفي المكافحة في القطاع. وقد ارتفعت كميات الحبوب المخدرة المضبوطة وسط بضائع هذا المعبر مؤخرا إلى نحو ربع مليون حبة من مختلف الأنواع في بداية عام 2020.
هناك أيضا معبر بيت حانون (إيرز) الذي يُستخدم لحركة الأفراد لكن بنِسَب قليلة، أما الحدود البحرية لقطاع غزة مع مصر فتشهد نشاطا ملحوظا مؤخرا في تهريب المخدرات نظرا لسهولة نقل المواد المخدرة عبرها مقارنة بالطرق الأخرى المتاحة. وبينما اشتهرت عملية ضبط 321 عبوة حشيش بعد العثور عليها في حاويات محملة بأسماك البلطي النيلي القادمة من مصر عام 2017، استمرت عمليات التهريب البحري بعدها بطرق مختلفة، وقد ضبطت الشرطة البحرية في غزة عملية تهريب 120 "فرش حشيش" إلى القطاع عبر الحدود البحرية لمحافظة رفح جنوب قطاع غزة في نوفمبر/تشرين الأول الماضي.
حماس.. الضرب بيد من حديد
في مواجهة هذا النشاط الواسع لتجارة المخدرات، والتواطؤ الإسرائيلي معها، عززت الحكومة في غزة قبضتها الأمنية على المتورطين، كما سعت لتغيير الإطار التشريعي والقانوني من أجل تشديد العقوبات على المهربين. تعود بعض هذه الجهود إلى وقت مبكر، تحديدا إلى عام 2013 حين وافق المجلس التشريعي الفلسطيني في غزة على قانون المخدرات والمؤثرات العقلية، الذي تضمَّن عقوبات صارمة، بما في ذلك عقوبة الإعدام، في محاولة لإنهاء تهريب المخدرات واستخدامها. وفي وقت لاحق، اتخذت السلطات في غزة قرارا بمحاكمة بعض التجار والمهربين أمام المحاكم العسكرية، وذلك استنادا إلى قرار المجلس التشريعي الصادر في أغسطس/آب 2016، والقاضي بـ"اعتبار جرائم المخدرات تمس بالأمن القومي الفلسطيني"، رغم أن القانون الفلسطيني يعتبر قضايا الاتجار بالمخدرات ضمن اختصاص المحاكم المدنية فقط.
استنادا إلى هذه التشريعات المشددة، أصدرت محكمة عسكرية في غزة حكمها الأول بالإعدام على اثنين من تجار المخدرات في مارس/آذار 2017، لتتوالى العقوبات بعد ذلك مثيرة نوعا من الجدل داخل القطاع حول إذا ما كان ينبغي محاكمة مروجي المخدرات أمام المحاكم العسكرية وإصدار أحكام إعدام بحقهم، رغم الاتفاق على أهمية العقوبات الرادعة. فمن ناحيتها، ترى السلطات في القطاع أن جرائم التهريب العابرة للحدود تُصنَّف تحت إطار الجرائم المهددة للأمن القومي، ومن ثم فإن مرتكبيها يجب أن يُحاكموا أمام القضاء العسكري بموجب ما نصت عليه المادة "17" من قانون القضاء العسكري المعدل للعام 2020، والتي تمنحه الاختصاص بالفصل في الجرائم التي تقع في جميع الأماكن والمحلات التي تشغلها قوى الأمن، ومنها المناطق الحدودية بطبيعة الحال.
في هذا السياق، توجه "ميدان" بالحديث أيضا إلى "علاء الوادية"، مدير دائرة الشؤون القانونية بإدارة مكافحة المخدرات، والذي أكد أن "المحاكمات العسكرية تخص فقط جرائم التهريب التي تتم عبر الحدود، لأنها جرائم تمس أمن الدولة بطبيعة الحال، ومن ثَمّ يُحال المتهم فيها -حتى إن كان مدنيا- إلى القضاء العسكري بسبب تصنيف الجريمة بأنها جريمة حدودية، سواء أكانت تهريب مخدرات أو أي مواد أخرى"، في حين أن جرائم الاتجار والنقل والتخزين والتعاطي تُعرَض بشكل طبيعي أمام القضاء المدني.
لكن هذه التفرقة بين جرائم التهريب عبر الحدود وسائر القضايا المتعلقة بالمخدرات لم تمنع المنظمات الحقوقية من انتقاد القرارات التي تُحيل تجار ومهربي المخدرات للقضاء العسكري وليس المدني. وقد تحدث "ميدان" مع "محمد عبد الوهاب"، وهو باحث قانوني في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان بغزة، والذي أكد أن إحالة مدنيين للقضاء العسكري مخالفة للقانون الأساسي بغض النظر عن الجريمة، وأضاف: "من أجل ألّا يدان بريء، يجب أن تكون جميع إجراءات التقاضي سليمة، وهو ما يؤمّنه القضاء المدني وليس القضاء العسكري، وبما أن ازدهار تجارة المخدرات في أي مكان في العالم يعود إلى الفساد، فإن محاربتها تتم بمحاربة الفساد وضبط المنافذ وتشديد الرقابة عليها، وليست بإنكار حق المواطنين في محاكمة عادلة بعرضهم على القضاء العسكري"، بحسب قوله.
أما فيما يتعلق بأحكام الإعدام التي تُوجَّه لتجار ومهربي المخدرات، فيقول عبد الوهاب: "فلسطين منذ عام 2018 موقعة على البروتوكول الاختياري الثاني الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1989 والمتعلق بإلغاء عقوبة الإعدام، ولذا من المفترض ألا تستطيع السلطة الفلسطينية تطبيق عقوبة الإعدام أصلا لمخالفة ذلك التزاماتها على المستوى الدولي، وهذا الأمر ملزم للسلطات في الضفة الغربية وفي قطاع غزة على السواء".
ردا على اعتراض المنظمات الحقوقية على تنفيذ عقوبة الإعدام في تجار المخدرات، يوضح "الوادية" بدوره لميدان أن المُشرِّع الفلسطيني والمصري أجاز عقوبة الإعدام لتحقيق الردع العام، وأن الإعدام كعقوبة لا يُنفَّذ سوى في حالات معينة، وهي استخدام التاجر أو المهرب الأسلحة ضد عناصر من قوة الشرطة أو الأجهزة الأمنية، وإصابة أو قتل أحد هذه العناصر، كما أنه مع تكرار حبس التاجر أكثر من مرة دون عدوله عن جريمته، تتخذ ضده عقوبة المؤبد أو الإعدام.
وقد أوضح "الوادية" أن المنظومة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية، وهي الشرطة ومراكز الإصلاح والتأهيل والقضاء والنيابة العامة، تكثف جهودها لتحقيق الردع المطلوب لتجار ومهربي المخدرات. وقد أنشأت محكمة الجنايات الكبرى اختصاصا للاتجار بالمخدرات، وأصدرت أحكاما صارمة ورادعة في هذا الصدد، وهي سياسة أثبتت نجاعتها وسرعان ما انعكست على السوق الذي شحَّت فيه مؤخرا المواد المخدرة، واضطُر تجارها إلى تداولها في السوق خِفية أكثر من أي وقت مضى، على حد قول "الوادية".
حليف إسرائيل الجديد المتخفِّي
تهتم سلطات القطاع بإظهار حربها على المخدرات إلى العلن، وعلى رأسها مشاهد حرق المواد المخدرة العلنية التي تُنفَّذ بين الفينة والأخرى، والتي يشهدها سكان القطاع على اختلاف أعمارهم. ويرى العديد من هؤلاء في الدخان المتصاعد انتصارا في الحرب التي تخوضها السلطات بعد أن رأوا بأعينهم شوارع الأحياء السكنية في غزة غارقة بالباعة والمروجين لهذه المخدرات في وقت سابق. ويظهر في تلك العمليات جهد الأجهزة الأمنية الواضح لمكافحة ما يعتبره البعض حرب إسرائيل "الأخرى" على غزة.
جرت آخر هذه العمليات في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حين حُرِق ما يقارب من 1927 فرش حشيش، و199 ألفا و675 حبة مخدرة، بالإضافة إلى أعشاب "بانجو" وصل وزنها إلى قرابة 4 كيلوجرامات، وذلك في أفران مخصصة لذلك الغرض. ومن جانبهم، يضطلع موظفو المعابر بعمل مرهق لضبط هذه الكميات، معتمدين على جهود ذاتية مثل التفتيش اليدوي للبضائع التي يتوقع إخفاء المخدرات بداخلها، وكذلك عبر استخدام الكلاب البوليسية المدربة، وأحيانا عبر توفر معلومات مسبقة من قبل المتعاونين مع السلطات.
لفهم الأمور أكثر، يمكن تتبع خط السير المعتاد لعمليات التهريب إلى غزة، إذ تؤكد المصادر الحكومية أن المخدرات تُصنع بشتى أنواعها في إحدى الدول بالمنطقة (سوريا على الأرجح التي ذاع صيت تجارة الكِبتاغون فيها في السنوات الأخيرة)، بحيث توضع وسط بضائع تجارية قادمة إلى غزة عن طريق موانئ الاحتلال، وعند وصولها تُنقَل إلى مستودعات شركات النقل والشحن بواسطة شركاء لبعض التجار موجودين خارج القطاع. وتشمل تلك العملية أكثر من طرف؛ ما يُعقِّد المهمة على السلطات في غزة. فمثلا، يستخدم أحيانا بعض التجار الصغار أسماء تجار كبار لهم سجلات تجارية، فيجلبون بضائع عبر المعبر فيما يعرف بالشحن الجزئي عبر الشركات، بحيث يستورد تاجر بضاعة لصالح تاجر آخر، ويُدخل المخدرات تحت ستار بضائع مثل الأحذية والأثاث والمواد الغذائية وغيرها.
على أي حال، يتفق سكان قطاع غزة مع الرأي الحكومي الذي يُرجع إغراق القطاع بالمخدرات إلى تعمُّد سلطات الاحتلال وتسهيلها دخول المواد المخدرة عبر المعابر الحدودية بين غزة وإسرائيل. وفي هذا الصدد، يعدِّد المقدم "أحمد الشاعر"، مدير دائرة مكافحة المخدرات في الموانئ والمعابر الحدودية، في حديثه مع "ميدان"، دلائل ضلوع الإسرائيليين قائلا: "لا شيء يخرج أو يدخل إلى غزة إلا تحت أعين الاحتلال، فحين نرى المخدرات تدخل من المعابر التي يتحكم بها الاحتلال، فهو متواطئ إذن مع تجار المخدرات ليُغرق بها قطاع غزة. بمعنى آخر، هناك بضائع دخلت غزة بعد أن خضعت للتفتيش واكتُشِف أمرها لدى سلطات الاحتلال التي سمحت بعدئذ بإدخالها". أما النقطة الثانية والأهم، على حد قول "الشاعر"، فهي أن الاحتلال يمنع قطاع غزة من إدخال أجهزة الأشعة السينية التي تُسهِم في الكشف عن المخدرات المعروفة، رغم أن هناك دولا تبرّعت بها لغزة، مثل مصر وقطر وتركيا، كما لا يسمح الاحتلال للكوادر العاملة في المعابر بالسفر من أجل تلقي التدريبات اللازمة وتبادل الخبرات مع الدول الأخرى.
وحول جهود السلطات لتعويض نقص تلك الإمكانيات يقول "الشاعر": "نحن في قطاع غزة نكافح المخدرات بأبسط الإمكانيات، ونعتمد على الأيدي البشرية من ضباط وأفراد بشكل كبير، حيث نُجري التفتيش اليدوي لعدد كبير من الشاحنات، أو بواسطة المعلومات التي تصل لسلطات مكافحة المخدرات بأن الحاوية الفلانية تحوي مواد مخدرة". ويأسف "الشاعر" لكون قطاع غزة منطقة محاصرة حيث تُمنع سلطات القطاع من امتلاك أبسط المعدات لمكافحة المواد المخدرة، ومقابل ذلك يملك تجار المخدرات النفوذ والإمكانيات ويُسخِّرون جلَّ أوقاتهم للتفكير في آليات جديدة لتطوير عمليات التهريب.
في نهاية المطاف، يبدو أن مواجهة تهريب المواد المخدرة في قطاع غزة باتت أشبه بحرب أخرى بين الأجهزة الأمنية في غزة من جهة وتجار المخدرات والاحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى، إذ تدور رحى هذه الحرب بشكل كبير على منافذ القطاع ومداخله ومعابره التي يفرض الاحتلال سلطته عليها. فيما يبقى القطاع يواجه بإمكانياته المحدودة تلك الحرب التي تهدف لإغراقه بالمخدرات وتدمير شبابه المحبط من الظروف الاقتصادية السيئة.