دار الإفتاء المصرية.. هل هي مصنع الإسلام على مقاس الدولة؟
مليون ونصف المليون فتوى أصدرتها دار الإفتاء المصرية عام 2022، وهو أعلى عدد من الفتاوى منذ نشأة الدار عام 1895، وقد تعلَّق 63% من تلك الفتاوى بمسائل المجتمع والأسرة، في حين توزعت النسبة الباقية بين فتاوى "التطرف" والعبادات والمعاملات والآداب والأخلاق وغيرها. هذا الرقم الضخم ربما يشي بإقبال كبير من المصريين على طلب الفتوى من المؤسسة الدينية الرسمية، وثقة كبيرة في توجهاتها، لكن هل هذا الأمر يعكس الحقيقة الكاملة؟
في الواقع، فإن هذا الإحصاء الرسمي الصادر من دار الإفتاء المصرية جاء متناقضًا مع نتائج استطلاع رأي أجرته الدار نفسها في وقت سابق على صفحتها بموقع "فيسبوك"، حيث خيَّرت دار الإفتاء المصريين بين مُحرِّك البحث غوغل وموقع دار الإفتاء بوصفه جهة أولى للحصول على الفتاوى الدينية، وجاءت النتيجة لصالح الأول بنحو 70% من المشاركين. كما أجرى المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام دراسة حول مدى ثقة المصريين في الفتاوى الصادرة من دار الإفتاء عام 2020، وأظهرت أن 46% ممن شاركوا بالدراسة لا يثقون بفتاوى دار الإفتاء عموما، في حين أبدى 51% عدم ثقتهم بالفتاوى ذات الجانب السياسي. (1) يشهد على ذلك "حرب التعليقات" التي يثيرها كل بيان تنشره صفحة الدار على فيسبوك، خاصة البيانات المتعلقة بفتاوى "مثيرة للجدل"، مثل فتوى تحليل "فوائد البنوك" التي صدرت بالتزامن مع اتجاه الحكومة المصرية لإصدار شهادات بعوائد مرتفعة منذ التعويم الأول للجنيه المصري عام 2016.
لم تكن الدار وحدها التي أثارت الجدل على مدار السنوات الماضية، بل والشخصيات التي تبوَّأت منصب المُفتي وجلست على رأس المؤسسة. ومن هؤلاء المفتي السابق علي جمعة، وقبله سيد طنطاوي المفتي الأسبق في عهد حسني مبارك وشيخ الأزهر بين عامي 1996-2010، الذي أثارت فتاواه الجدل في عدة قضايا. وقد مثَّل طنطاوي حليفا قويا للنظام إلى درجة أنه أصدر فتوى بجلد الصحفيين الذين نشروا أخبارا تتناول مبارك شخصيا (1)، بل ووصل به الأمر إلى استضافة وفد "صهيوني" بدار الإفتاء عام 1994 خلال مؤتمر حول الصحة العقلية تماشيا مع سياسة النظام آنذاك.
على غرار كثيرين سبقوه، لم يدَّخِر المفتي الحالي شوقي إبراهيم علام جهدا لدعم النظام في مصر، ليس فقط بالتصديق على أحكام إعدام مئات المعارضين، ولكن أيضا بدعم سائر التوجهات الدينية المثيرة للجدل. فعندما رغب النظام في إلغاء "الطلاق الشفهي" وتحويله إلى طلاق موثق برسوم وضرائب، وعارضه في ذلك شيخ الأزهر، أيَّد علام توجه الدولة ضمنيا قائلا إن الطلاق الشفهي يحتاج إلى تعديل تشريعي. (2) وفي العام نفسه أجاز علام إخراج أموال الزكاة للإنفاق على قوات الجيش والشرطة التي تحارب "الإرهاب"(2)، وفي عام 2018 أفتى بتحريم عدم المشاركة في الانتخابات الرئاسية، بعد أن وصفت أصوات مُعارضة الانتخابات بأنها مسرحية.
لقد أصدرت دار الإفتاء طيلة العقد الماضي العشرات من الفتاوى لدعم توجهات الدولة، ليس على مستوى السياسات الداخلية فحسب، بل وسُمِع صوتها في القضايا الخارجية أيضا. فعندما قررت مصر إرسال قواتها إلى ليبيا، أصدرت دار الإفتاء فتوى لدعم موقفه وقالت إن الجيش المصري يحارب "المتطرفين"(3)، وعندما قررت الحكومة التركية تحويل "آيا صوفيا" إلى مسجد مرة أخرى، نشرت دار الإفتاء المصرية على صفحة "المؤشر العالمي للفتوى" التابعة لها تقول إن "العثمانيين احتلوا مدينة إسطنبول"، وزعمت أن الرئيس التركي أردوغان يستخدم ورقة المساجد لكسب مؤيدين له من "المتشددين". (4) (5)
لم تعد وظيفة دار الإفتاء المصرية إذن إفتاء الناس في شؤون دينهم ودنياهم فقط، وهي الوظيفة التي طالما اضطلع بها المُفتون منذ قرون، بل باتت وظيفتها أيضا إصدار فتاوى تؤيد سياسات الحكومة المصرية، حتى لو كانت فتاوى مثيرة للجدل مثل فتوى عوائد شهادات الاستثمار وفوائد الودائع البنكية، التي أفتى أكثر من خمسة من كبار علماء الأزهر بحُرمتها سابقا، أولهم المفتي الأسبق الشيخ سيد طنطاوي نفسه أثناء ولايته مُفتيا للديار المصرية قبل أن يعدل عن رأيه ويقول إنها جائزة عندما تولى مشيخة الأزهر. وقبلها فتوى الشيخ عبد المجيد سليم المفتي بين عامي 1950-1951، وفتوى الشيخ حسن مأمون المفتي بين عامي 1964-1969، وفتوى الشيخ محمد أبو زهرة وهو من كبار علماء الأزهر، وأخيرا فتوى الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر بين عامي 1982-1996 الذي تولى منصب مُفتي الديار أيضا قبلها بأربعة أعوام. وقد أفتى جميع هؤلاء بحُرمة فوائد ودائع البنوك وشهادات الاستثمار وصناديق توفير البريد.
رغم كل تلك الفتاوى وغيرها الكثير، غيرت دار الإفتاء موقفها الفقهي بمرور الوقت، فأصبحت القروض في نظرها حلالا، وكذلك صارت عوائد شهادات الاستثمار وودائع البنوك. هكذا إذن تحوَّلت دار الإفتاء تدريجيا لتصبح متوافقة مع ما تريده الدولة المصرية، لكن المفاجأة أن هذا التحول ليس وليد السنوات الأخيرة. فمنذ إنشائها في نهاية القرن التاسع عشر، كانت دار الإفتاء المصرية محل جدل واتهام دائم بـ"تمييع الدين" وإصدار فتاوى بأوامر من السلطة السياسية، وهو ما يدفعنا إلى التقليب في صفحات التاريخ لاستكشاف جذور تسييس الدين من قِبَل الدولة في مصر.
محمد علي وجذور التوظيف الديني
يعود استخدام العلماء والشيوخ وفتاواهم لشرعنة سياسات الدولة الحديثة إلى عهد محمد علي باشا حاكم مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر. فبعد وصوله إلى سدة الحكم في مصر، بدأت مرحلة جديدة من العلاقة بين العلماء والوالي، أو بشكل أعم بين الدين والدولة المصرية، واصل فيها العلماء دورهم التقليدي في الوساطة بين الوالي والأمراء، ولكن مع وضع جديد هو أن العلماء لم يعودوا مستقلين كما كانوا سابقا، وإنما صاروا تابعين للباشا حاكم مصر الجديد، فهو مَن يأذن لهم بالوساطة ويحدد لهم عناصر التفاوض وسقفه. ولكن بعد مذبحة القلعة التي نصبها الباشا للأمراء المماليك، انتهى توازن القوى في السياسة المصرية للأبد، وخسر العلماء قدرا كبيرا من نفوذهم إلى درجة أنه عندما أراد الشيخ عبد الله الشرقاوي، شيخ الأزهر آنذاك، التشفع في اثنين من أمراء المماليك الفارين من مقتلة القلعة الرهيبة، ومنحهما الأمان في بيته، لم يقبل الباشا شفاعته وقتلهما غيلة رغم توسُّل الشرقاوي إليه ألا "يفضح شيبته". (6)
لم يسمح محمد علي للعلماء بلعب دور الوساطة بين الحاكم والجماهير مجددا، حتى إنه عندما أصر السيد عمر مكرم صاحب الدور المحوري في تنصيب محمد علي واليا على لعب ذلك الدور، عُزِل من منصبه بفتوى شرعية من رفاقه العلماء، واستُبعِد من الحياة السياسية والمشهد الثقافي والديني كله، ومن بعدها تحول العلماء والشيوخ إلى "مجرد أدوات بين يدي محمد علي يحركها كيفما شاء ويستخدمها ستارا يتخفى خلفه".
وبعد أن قضى الباشا على أي نخب ذات دور سياسي، سواء مماليك أو علماء أو مشايخ، بدأ في توظيف العلماء لصالح مشروعه الجديد لإضفاء الشرعية على سياساته، فعندما شرع في مشروعه التحديثي لبناء جيش على النسق الغربي الحديث، لم يَغِب عن باله أبدا ما حدث للسلطان العثماني "سليم الثالث" قبل بضع سنوات عندما عزلته العساكر العثمانية بموجب فتوى شرعية من شيخ الإسلام قالت إن "كل سلطان يدخل نظامات الإفرنج ويُجبِر الرعية على اتِّباعِها لا يكون صالحا للملك"، ثم اغتالوه بعدها. (7)
كان محمد علي إذن في حاجة إلى سند شرعي قوي خاصة بعد أن أبدى عساكره بعض التململ والغضب عندما ألزمهم بالنظام الجديد وألبسهم الملابس العسكرية. وقد وجد الباشا بُغيته في أحد العلماء الجزائريين المقيمين في مصر آنذاك، وهو الشيخ محمد بن محمود الجزائري ابن العنابي (تُوفي عام 1851). (8) وقد تولَّى العنابي منصب مفتي المذهب الحنفي في بلاده لأكثر من عقدين، ثم توجَّه قاصدا الحج عام 1820، لكنه لم يعد إلى الجزائر ومكث في الإسكندرية ثم انتقل إلى القاهرة ودرس بالأزهر، وقد أخذت عنه العلم طائفة من أهم المُفتين في القرن التاسع العشر مثل الشيخ إبراهيم السقا، الذي طلب منه محمد علي أن يكتب اختصارا لكتاب الشيخ العنابي وعنوانه "السعي المحمود في ترتيب العساكر والجنود"، وهو من أوائل الكتب التي تناولت قضية تحديث المؤسسة العسكرية من المنظور الفقهي، وقد كتبه العنابي عام 1826، وهو العام نفسه الذي شهد تخلُّص السلطان العثماني من الإنكشارية وأعلن فيه تأسيس الجيش العثماني الحديث. (9)
في كتابها "الفتوى والحداثة"، ذهبت الدكتورة فاطمة حافظ إلى أنها لا تستبعد أن تكون الدولة العثمانية أو محمد علي وراء تكليف العنابي بكتابة كتاب "السعي المحمود"، لا سيما أن تلك المحاولة لم تكن الأولى للشيخ الجزائري لإسباغ الشرعية على سياسات الباشا، إذ حاول العنابي أن يُبرِّر استعانة محمد علي بالكولونيل الفرنسي "جوزيف سيف" المعروف بسليمان باشا الفرنساوي ليقوم بمهام تحديث الجيش المصري، ولمَّا لم يجد العنابي أي نص فقهي يبيح "جواز الاستعانة بأهل الذمة في الجيش الإسلامي"، لجأ إلى نص تعليق للإمام السرخسي يقول فيه: "ولكنا نقول في الاستعانة بهم زيادة كبت وغيظ لهم"، فنقله قائلا إن هذا رأي المذهب الحنفي في المسألة.
لم تقف الأمور عند هذا القدر، حيث كان واعيا أشد الوعي بأهمية الفتاوى الدينية في حياة المصريين، ولذا فإنه عمد إلى استغلالها وتوظيفها لصالحه، واستعان بالعلماء وسلطتهم الدينية على الناس قبل أي إجراء، وحتى عندما أراد إجراء إحصاء لتعداد السكان في مصر عام 1846، أرسل يستدعي "حضرة شيخ الجامع الأزهر وحضرات المُفتين والباشا العروسي والباشا الشرقاوي وأرباب مجلس التجار وبعض العُمَد إلى الديوان الخديوي"، وأفهمهم ماهية وأهمية الإحصاء ليُعاونوا فيه السلطات. (10)
وعقب سيطرة محمد بن سعود على الحجاز، أوعز الباشا إلى العلماء في مصر بإصدار فتوى بتوقيف الحج من مصر، وسارع بإرسال صورتها إلى الأستانة، وبعد انتصار الجيش المصري على الجيش العثماني في موقعة قونية عام 1832، طلب إبراهيم باشا قائد الجيش المصري ونجل محمد علي من والي الشام جمع أعيان دمشق وعلمائها في مجلس وتلا عليهم خطابا من محمد علي مضمونه أن "السلطان خرج عن طور أسلافه، وزاد في الظلم والبغي، وأمر بتغيير زي الناس وملبوسهم. وبسبب سوء رأيه تغلب عليه الإفرنج، والمصلحة تقتضي عزله وتولية ابنه محله، وطلب فتوى بجواز ذلك، وأن يكتب عليها المفتي وعلماء المذاهب الأربعة، فكتبوا له ما أراد". ومثلما احتاج محمد علي إلى الفتاوى في العسكرية السياسية، فإنه كان بحاجة إلى فتاوى مماثلة تدعم إجراءاته الاجتماعية الجديدة، فعندما أراد إلغاء الوقف الأهلي طلب من الشيخ العنابي أن يبحث له في المسألة، فأفتى له بعدم جواز الوقف الأهلي، وعلى أساس تلك الفتوى أصدر الباشا قرارا بإلغاء الوقف الأهلي عام 1845، رغم أن الأوقاف الإسلامية كانت ممارسة مستقرة منذ مئات السنين. (11)
هكذا أصبح الإفتاء في مصر مرتبطا بالسلطة، رغم أن مصر لم تعرف من قبل منصبا يسمى "المفتي الحكومي" إلا في فترة قصيرة برز فيها منصب "مفتي السلطنة العثمانية الشريفة بالديار المصرية"، وهو منصب شرفي منحته الدولة لبعض المتصوفة من أسرة البكري ثم اختفى بعد فترة في القرن الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي. عدا ذلك، كان الإفتاء في مصر بالحقبة العثمانية وما قبلها عملا مستقلا عن الدولة "التي لم يكن لها دور في عملية اختيار المُفتين وتنصيبهم بمصر"، على عكس ما جرى في بلاد الشام. كيف جرت إذن مأسسة الإفتاء في مصر حتى ظهرت دار الإفتاء المصرية كما نعرفها؟
دار الإفتاء.. معقل البيروقراطية المصرية
كان التقليد المتبع في مصر منذ القرون التي سبقت صعود محمد علي ومشروعه التحديثي هو وجود مُفتين للمذاهب الأربعة وصلوا إلى تلك المكانة بعد رحلة طويلة وشاقة من طلب العلم والتتلمُذ على أيدي الفقهاء والعلماء الكبار في عصرهم. وكان أهل كل مذهب ينتخبون مفتيهم من بين أكثرهم علما، ثم يقومون برفع اختيارهم إلى "الوالي" الذي يقوم بدوره بإلباس المفتي المنتخب "خِلْعَة" تعبيرا عن إقراره بذلك الاختيار. ورغم استمرار ذلك التقليد في عهد محمد علي، فإنه بدأ التدخل في تعيين وعزل المُفتين، كما تدخَّل لعزل الشيخ أحمد الطحاوي مفتي المذهب الحنفي لرفضه التوقيع على فتوى عزل السيد عمر مكرم من نقابة الأشراف.
بنهاية عهد محمد علي، ومع حركة تقنين المذهب الحنفي التي بدأت في الدولة العثمانية، صار مفتي المذهب الحنفي هو "مفتي الديار المصرية"، ومع توسُّع محمد علي في إلحاق المُفتين بالمؤسسات بوصفهم موظفين بالدولة والمجالس والمحاكم، بدأ الإفتاء في مصر يأخذ طريقه نحو الهيكلة الإدارية. وما إن خُصِّصَ القضاء بالمذهب الحنفي عام 1228/1835 حتى أصبح القضاة مُكلَّفين بالحُكم وفقا لأحكامه وإن كانوا غير أحناف، كما لم يعُد مسموحا للقاضي أن يأخذ بفتاوى المذاهب الأخرى إن تعارضت مع المذهب الحنفي، ومن ثمَّ ضعفت مناصب مفتي المذاهب الأخرى وضعف الإفتاء الأهلي. ورويدا رويدا اختفت التعددية المذهبية من مصر، التي كان يستفيد منها المُحتكِمون أمام القضاء، وأتاحت في الماضي مساحة كبيرة من الحرية أمام السائل للفتوى. ولذا ساد الارتباك بين الناس، وحلَّ الشقاق المذهبي، إذ لم يكن للمذهب الحنفي من الأصل أتباع كُثُر في مصر، فقد توزعت مصر بين المذهب الشافعي الذي ساد القاهرة والوجه البحري، والمالكي الذي ساد الصعيد. (12)
في الوقت نفسه، وكما تشير فاطمة حافظ في كتابها، أدى توسع الدولة في إلحاق المُفتين بجهازها البيروقراطي الناشئ إلى تمدُّد الإفتاء الحكومي الجديد، وتبلوره ضمن تراتبية إدارية محددة، غير أن هذا الشكل الجديد من الإفتاء التابع للحكومة تصادم مع الإفتاء الأهلي، وهي الفتاوى التي صدرت من علماء الأزهر ومجاوريه والشيوخ بالأقاليم المختلفة، ما مثَّل إزعاجا لأجهزة الدولة القضائية التي اعتمدت على الإفتاء الحكومي بالكامل. وقد دفع ذلك بالخديوي إسماعيل إلى الدعوة لعقد اجتماع بالمجلس الخصوصي بحضور العلماء لمناقشة تلك المسألة عام 1281/1864، لكن الاجتماع لم يُعقد إلا بعد الدعوة بثلاثة أعوام، وقد اتفق فيه كلٌّ من الشيخ المهدي والشيخ العروسي والشيخ محمد الدمنهوري الشافعي على "اختصاص كلٍّ من المُفتين الحكوميين بما يتعلق بوظائفهم، ومنع غيرهم من المُفتين من التعرض لإعطاء فتاوى بالكتابة. وإذا صدرت فتوى خارج هؤلاء المُفتين الحكوميين لا يُعوَّل عليها في محلات الحكومة ولا يُنظر لها". (12)
وبذلك عاون المُفتون الحكوميون الدولة المصرية في القضاء على الإفتاء الأهلي وضبط عملية الإفتاء لتكون نابعة حصرا من الهيكل الحكومي للدولة، ورغم صدور بعض الفتاوى التي وقَّع عليها كبار المُفتين الأحناف والشافعية، وعارضت سياسات الدولة بوضوح، مثل الفتوى التي رفضت سياسات الدولة في الاستيلاء على ممتلكات الأفراد بسبب عدم وجود حجة ملكية بأيديهم، وأقرت وضع اليد حُجة دامغة للملكية، وكذلك الفتوى الأخرى التي رفضت تملُّك الأجانب للأراضي في مصر (كانت سياسة الدولة تشجع على تملُّك الأجانب لتعزيز الشراكات الاقتصادية مع الدول الغربية). وقد تجاهل الحاكم تلك الفتاوى ببساطة أو التف عليها، فعندما تصدَّى مفتي الأحكام لمشاركة الأوروبيين في شركة "القومبانية"، ووقف الشيخ المهدي أمام محاولات سعيد باشا الاستيلاء على أراضي الأوقاف، ووضع لذلك رسالته "الصفوة المهدية في أرصاد الأراضي المصرية"، لم تتراجع الحكومة عن قراراتها ولا مسارها. (13)
بحلول عام 1880، أصبح المُفتون مجرد موظفين في الجهاز البيروقراطي الحكومي الضخم، يُوزَّعون عبر مجالس الأقاليم والمديريات، واعتبارا من عام 1881، أصبح المُفتي الحنفي رسميا "مفتي الديار المصرية" الواقع على رأس منظومة هرمية من المُفتين الذين يلزمهم الرجوع إليه فيما استعصى عليهم من مسائل. ولم تعُد عملية إصدار الفتاوى إذن عملية ذاتية نابعة من فهم المُفتي للنصوص والواقع، بل باتت ممثلا شرعيا للدولة لا تستطيع الخروج عن قواعدها وسياساتها. وفي عام 1895، بدأ رسميا تسجيل الفتاوى الحكومية في سجلات الفتاوى، وتزامن ذلك مع تعيين الشيخ حسونة النواوي مُفتيا للديار المصرية، وبذلك تأسَّست دار الإفتاء المصرية، وأُلحقت إداريا بوزارة العدل. أما في مرسوم المحاكم الشرعية الصادر عام 1931، فقد نُسِخ العمل بجميع القوانين السابقة، التي عُيِّن المُفتون بمقتضاها بالهيئات القضائية الجديدة وشاركوا في اختيار القضاة والمُفتين المحليين، ولم يعد للمفتين منذ ذلك الحين سلطة في نظام المحاكم الشرعية، ولم تُطلَب منهم بعدئذ فتاوى لتطبيقها في المحاكم، ولم تعُد المحاكم مُلزَمة بفتاواهم. (14)
رغم ذلك لم يصدر تعريف رسمي لمهام صاحب منصب مفتي الديار المصرية في ذلك الوقت، وتقرَّرت مهام دار الإفتاء بعد ذلك عبر ممارسات المُفتين المتعاقبين، حيث تولَّدت التقاليد تدريجيا على نحو عفوي بمرور الزمن، ما سمح بخروج بعض المُفتين عن دور "المفتي الموظف" الذي يُصدر الفتاوى الاستشارية للمحاكم، وعودتهم إلى دور المفتي المجتهد صاحب الشخصية السياسية والإصلاحية، وقد بلغ هذا الدور ذروته مع الشيخ محمد عبده في النصف الأول من القرن العشرين، قبل أن يعود الإفتاء مرة أخرى إلى طور الأفول بعد سقوط الملكية والانتقال إلى النظام الجمهوري العسكري في الخمسينيات.
الإفتاء في زمن الجمهورية
أدت حركة الضباط عام 1952 وصعود عبد الناصر إلى السلطة لتحولات مهمة في وضع العلماء والمؤسسات الدينية بالدولة المصرية، فقد بات واضحا لهؤلاء الشيوخ أن التوازن المعقد بين الملك والبرلمان والبريطانيين قد ولى مُفسِحا السبيل لظهور بنية أكثر بساطة يمسك فيها الضباط بزمام السلطة. وبعد الصدام الحاد الذي وقع بين الحكومة الجديدة والإخوان المسلمين، الذي أدى إلى إعدام المُفكر سيد قطب عام 1966، بات كبار مشايخ المؤسسات الدينية بمنزلة الشريك المناسب لنظام الحكم الجديد المتطلع إلى المؤازرة والشرعية.
بيد أن نظام الحكم الجديد كان يسير في اتجاه أكثر علمانية، مع الاحتفاظ بالدور الوظيفي الذي لعبه الدين في دعم آليات الضبط داخل الدولة. ففي 21 سبتمبر/أيلول 1955، صدر قانون بإلغاء المحاكم الشرعية، فأغلِقَت وأُنهي القانون الخاص بالمسيحيين واليهود (المحاكم المِلِّية)، ونقل القضاة إلى المحاكم المدنية ليتولوا النظر في قضايا الأحوال الشخصية. ومع تأميم الأوقاف وإصدار قانون إعادة تنظيم الأزهر أصبحت دار الإفتاء وعلى رأسها "مفتي الجمهورية" المؤسسة الدينية الرسمية بلا منافس. ولم يعُد أمام العلماء كثير من الخيارات، ففي حين استطاع أسلافهم المناورة بين الملك والأحزاب، صاروا الآن مُجبَرين على عدم إغضاب النظام السياسي الجديد، وموافقته في معظم ما ذهب إليه. ولم يسمح النظام بدوره بخروج العلماء المخالفين له في وسائل الإعلام، واقتصر دورهم على توجيه الشعب نحو القرارات التي اتخذتها الدولة مثل مشروع تحديد النسل، كما تدنَّت مكانة مفتي الديار ليكون بمنزلة موظف حكومي ليس له دور سياسي خارج الإطار الذي حدَّدته له الدولة. (15)
وكما يؤكد الباحث السويدي "جاكوب سكوفجارد" في أطروحته للدكتوراة الصادرة بعنوان "إسلام الدولة المصرية"، وصل الأمر بالمفتي بعد ذلك إلى حد إيجاد المبررات الشرعية لقرارات الدولة، وهو ما حدث مثلا حين وقَّعت مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979، إذ أصدر مفتي الجمهورية وقتها الشيخ جاد الحق فتوى يؤيد فيها اتفاقية السلام ويُشبِّهها بصلح الحديبية بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقريش. وقد خلفه في منصب الإفتاء الشيخ عبد اللطيف حمزة، الذي ابتعد عن السياسة وركَّز على القضايا الاجتماعية ومجريات الحياة اليومية للمصريين. ولذا، عندما نجح الحزب الوطني عام 1985 في الحصول على قرار من البرلمان يؤجِّل عمليا تطبيق الشريعة إلى أجل غير مسمى، وحتى حين أعلنت المحكمة الدستورية العليا عدم دستورية القانون الخاص بالأحوال الشخصية، لم يُحرِّك الشيخ حمزة ساكنا. (16)
بعد يومين فقط أجرت معه صحيفة "روز اليوسف" مقابلة أعلن خلالها أنه "يجب ألا يتدخل هو ولا شيخ الأزهر في السياسة، فهما مثل القضاة يجب أن يكونا على الحياد". ورغم ذلك عندما سأله الصحفي عن قانون الأحوال الشخصية الجديد، الذي عُرف بقانون "جيهان" (نسبة إلى زوجة الرئيس السادات) وسبَّب زوبعة من الاعتراضات وقتها، رد قائلا: "له أساس لا شك في الفقه، ومعظم أحكامه من رأي جمهور المذهب الحنفي". وبعد وفاته، عُين محمد سيد طنطاوي مفتيا، وبدأ معه الإفتاء مرحلة جديدة حيكت على مقاس نظام مبارك، ولم تكن مشكلة طنطاوي أنه أول مُفتٍ لم يسبق له العمل بالمحاكم الشرعية أو العادية، بل إنه لم يدرس أصلا بكلية الشريعة، وتركَّزت دراساته على القرآن وأصول الدين والدعوة الإسلامية. (17)
يذهب "سكوفجارد" إلى أن تعيين طنطاوي تمَّ بغرض سياسي بحت، وهو وضع شيخ موالٍ تماما لنظام مبارك، وقادر على إقناع المصريين بأن الحكومة القائمة حكومة إسلامية، لتمنحه شيئا من الشرعية أمام ادعاءات الجماعات الإسلامية التي كانت في صدام وقتها مع الدولة المصرية، وتُروِّج لكُفر الحكومة أو علمانيتها على الأقل. غير أن الدور الأهم الذي لعبه طنطاوي كان إعادة ضبط وهيكلة دار الإفتاء المصرية، وجعلها موالية للنظام السياسي والدولة بعد أن أصابتها "انحرافات" بسبب الصحوة الإسلامية منذ سبعينيات القرن الماضي، وعلى سبيل المثال، أقال طنطاوي الشيخ علي أبو الحسن، رئيس لجنة الفتوى بالأزهر، بسبب فتواه بوجوب قتال القوات الأميركية في العراق.
على مدار سنوات عمله في الإفتاء، ولاحقا في مشيخة الأزهر، انخرط طنطاوي بنشاط في الماكينة السياسية للدولة المصرية بشكل تعارض مع دوره المفترض بوصفه شخصية دينية رفيعة. ففي 30 ديسمبر/كانون الأول 2003، استقبلَ طنطاوي وزير الداخلية الفرنسي آنذاك "نيكولا ساركوزي" في الأزهر، وصرَّحَ طنطاوي بأن من حق المسؤولين الفرنسيين إصدار قانون يحظر ارتداء الحجاب في مدارسهم ومؤسساتهم الحكومية لأنه شأن فرنسي داخلي. وفي عام 2007، وفي مؤتمر حوار الأديان الذي نظمته الأمم المتحدة بنيويورك، صافح طنطاوي الرئيس الصهيوني شمعون بيريز بحرارة بالغة، بعد أن توطدت العلاقات بين إسرائيل ونظام حسني مبارك. أما أكثر المواقف إثارة للجدل، فوقع عندما أجبر الرجل إحدى الطالبات في الصف الثالث الإعدادي الأزهري عام 2009 على خلع نقابها، وهو تصرُّف تحفَّظ عليه معظم مدرسي المعهد الأزهري.
خلال عهد طنطاوي تسارع تحوُّل الإفتاء في مصر إلى مجرد مصنع للفتاوى التي تريدها الدولة، وهي سياسة ترسخت في العهد الحالي، إذ صار الإفتاء في معظم الأحيان انعكاسا لما تريده الدولة ومطبعة للفتاوى التي تشرعن سياساتها. ففي يوليو/تموز 2020، ناقش البرلمان المصري مشروع قانون لفصل دار الإفتاء عن الأزهر تماما، ونقل تبعيتها لمجلس الوزراء بدلا من وزارة العدل، واعتبارها كيانا دينيا مستقلا، وهو ما رفضه بعض النواب وممثل الأزهر لأنهم رأوا فيها مساسا باستقلالية الأزهر، كما نصَّ القانون على إلغاء الطريقة التي اعتُمِدَت عام 2012 لانتخاب المفتي بواسطة اقتراع سري مباشر يُصوِّت فيه أعضاء هيئة كبار العلماء التي يترأسها شيخ الأزهر. وبدلا من ذلك، أسَّس القانون المُقترح لآلية مغايرة توكِل لهيئة كبار العلماء اختيار ثلاثة مرشحين للمنصب من داخل الهيئة أو من خارجها، ثم رفع ترشيحاتها لرئيس الجمهورية الذي منحه القانون سلطة الاختيار من بين المرشحين الثلاثة، والحق في التمديد للمفتي بعد أن يبلغ السن القانونية.
لم يمُر القانون في الأخير بسبب اعتراض الأزهر وتعثُّر تمريره في البرلمان، لكنَّ تحالف الدولة والإفتاء ماضٍ فعليا على قدم وساق. لقد أصبحت دار الإفتاء مؤسسة مستقلة فعليا عن الأزهر، وتعمل على إعادة إنتاج الدين والشريعة بما يتلاءم مع الدولة المصرية، حتى إن تطلب منها ذلك الانقلاب على فتاواها القديمة نفسها، والقطيعة مع إرثها الفقهي القديم بلا رجعة.
مجلس النواب يوافق من حيث المبدأ على تعديلات قانون دار الإفتاء والتي تقضي بتبعيتها لوزارة العدل بدلًا من الأزهر الشريف وهو ما تعتبره هيئة كبار العلماء عدوانًا على الأزهر pic.twitter.com/qeYyn1pSGq
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) July 19, 2020
——————————————————————-
المصادر
- 5 مليون فتوى خلال العام الماضي.. لماذا زاد إقبال المصريين على الفتاوى الدينية؟
- فتوى "جلد الصحفيين" تتفاعل في مصر ومطالبات بعزل شيخ الأزهر
- حوار المفتي – الأرهاب و التطرف – الحلقة الكاملة
- دار الإفتاء المصرية بين الدين والسياسة.
- دار الإفتاء.. تاريخ من فتاوى جدلية تسيس الدين وتترصَد تركيا.
- فاطمة حافظ، الفتوى والحداثة، دار نماء للبحوث.
- المصدر نفسه
- المصدر نفسه
- المصدر نفسه
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.
- جاكوب سكوفجارد–بيترسون، إسلام الدولة المصرية.
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.