كيف تغير الصين أنظمة الحكم في الدول المجاورة لها؟

لم تكن الحرب الروسية ضد أوكرانيا من منظور الكرملين مجرد عمل عسكري مقصور على ما يجري في ميادين القتال، ولا على تحقيق هدف نزع أسلحة أوكرانيا فحسب ومنعها من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بقدر ما هدفت الحرب إلى خلق واقع جيوسياسي جديد، واستعادة النفوذ الذي خسرته روسيا في أوروبا الشرقية قبل عقدين ونيف عقب انهيار الاتحاد السوفيتي. بيد أن الرأي العام الأوروبي بطول القارة وعرضها، ومن البحر الأسود في الشرق إلى المحيط الأطلسي في الغرب، بدأ يدرك أن روسيا رغم كونها في وضع يسمح لها بالضغط السياسي والعسكري، فإنها تظل عاجزة عن تقديم نموذج سياسي-اقتصادي حقيقي يجذب الدول المستهدفة إلى ركابها.

وعلى عكس نفوذ روسيا المتآكل في شرق أوروبا، الذي تحاول استدراكه بغزو أوكرانيا، ومنع الدول التي ترى فيها فناء خلفيا لها من الانضمام إلى الناتو، فإن نفوذ الصين في آسيا حاليا في ذروته، وقد تحقَّق ذلك عن طريق دفع الاقتصادات المجاورة لها إلى نمو اقتصادي ترعاه سياسة استبدادية على الطريقة الصينية، مع إضعاف فعالية العقوبات المالية الغربية الموجَّهة للدول صاحبة السجل السيئ في حقوق الإنسان من خلال المعونات الاقتصادية الصينية. منحت بكين إذن غطاء للاستبدادين بالتزامن مع دور تنموي واضح، مما جعلها قلاع استبداد مزدهرة في آنٍ واحد، وهو ما تهدف الصين إلى تحويله إلى ما يشبه النسخة الجيوسياسية من "سور الصين العظيم"، التي تُتيح لنموذجها وتحالفاتها التمدُّد في جوارها، وتعزيز موقعها في آسيا في مواجهة الضغوطات الغربية.

إعلان

دروس الهزيمة السوفيتية.. أكبر نجاحات الصين

باستقالة "ميخائيل جورباتشوف"، آخر زعيم سوفيتي، في ديسمبر/كانون الأول 1991، ودَّع العالم العلم الأحمر الذي حمل المطرقة والمنجل، ومثَّل يوما ما رمزا لواحدة من القوتين العظميَين في العالم. ورغم أن السوفييت كانوا منافسين أشداء للصين، فإن سقوط جناح شيوعي كبير مثل الاتحاد السوفيتي بدا حينها رواية مُزعجة في بكين. وبينما ألقت الصين اللوم، ليس على النظام الشيوعي، بل على الأفراد الذين خانوه في موسكو، فإن الحزب الصيني الحاكم استوعب دروسا عديدة، وسرعان ما بدأ دراسة أسباب السقوط السوفيتي بالتفصيل. وقد كان لتلك الدراسات أثرها في إحداث تعديلات فكرية وسياسية عديدة في الصين، إذ شرع الحزب الحاكم في إصلاح عيوب نظامه السياسي والاقتصادي، ونجح في رسم ملامح نموذج تنموي جديد، وتعزيز قبضته في الداخل بكفاءة عالية، ليصبح اليوم أحد أطول الأحزاب السياسية الحاكمة عُمرا في العالم.

على صعيد الوضع الداخلي للحزب الحاكم، هيمنت ثلاثة آراء، أولها استنتج أن السبب الأساسي لسقوط السوفييت لم يكن خللا في النظام الاشتراكي نفسه، وإنما فساد المسؤولين الروس بقيادة جورباتشوف في ذلك الوقت. وعلى النقيض من ذلك الرأي، فتحت مجموعة أخرى أذرعها لنظرية المؤامرة، واعتبرت أن واشنطن فجَّرت الوضع من الداخل، وأنها تفعل الشيء ذاته اليوم في الدول المتاخمة لروسيا. وأخيرا، بعيدا عن نظرية إلقاء اللوم على الأفراد أو توجيه الاتهام للغرب، وقف فريق في المنتصف داعيا للإنصاف وتوجيه الاتهام للنظام السوفيتي، وليس بالضرورة للاشتراكية نفسها، حيث رأى هذا الفريق أن أساليب الحكم التي استند إليها السوفييت عجَّلت بسقوطهم، هذا واتفق الجميع على أن السوفييت امتلكوا تصوُّرات خاطئة أو جامدة لم تتطوَّر بمرور الزمن بعد الحرب العالمية الثانية.

إعلان

كان "الاقتصاد" هو الدرس الأكبر الذي استقته الصين من التجربة السوفيتية، بعد أن مَثَّل أكبر كارثة للاتحاد السوفيتي في سنواته الأخيرة، وكذلك لروسيا الاتحادية منذ إعادة تأسيسها مطلع التسعينيات. فمع ذروة صعوده وانطلاقه، كان الاقتصاد السوفيتي قوة مكافئة للولايات المتحدة، وامتلك قدرة تصنيعية هائلة، بيد أن شيوع الفساد وانعدام الكفاءة نخر في قواعد القوة الاقتصادية الروسية، لا سيما في زمن تكاليف سباق الفضاء والتسلُّح مع الغرب، والحروب بالوكالة في أميركا اللاتينية وأفريقيا، وأخيرا حرب أفغانستان. علاوة على ذلك، عانى الاقتصاد من السيطرة المركزية السوفيتية، ورغم أن الاشتراكية السوفيتية قامت في الأساس على إلغاء التقسيم الطبقي للمجتمع بهدف تحقيق العدل والمساواة بين أفراده، فإن الواقع على الأرض لم يطابق المُثُل النظرية، وأدى في الأخير إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية، وخاصة مع انهيار أسعار النفط في أوائل الثمانينيات في خضم الحرب الأفغانية.

مستوعبة تلك الدروس، عدَّلت الصين الشيوعية خططها، ورفضت الاقتصاد الاشتراكي المُوجَّه، وتبنَّت الرأسمالية وإن بصبغة صينية، ومن ثمَّ انضمت إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، وسرعان ما تحوَّلت إلى "مصنع العالم" في وقت وجيز، كما دخلت مع الولايات المتحدة في سباق من نوع مختلف تماما عن نظيره السوفيتي، فلم يكُن السباق في ميدان التسلُّح والفضاء فحسب، وإنما في ميدان جديد بحُكم اندماج الصين في النظام الرأسمالي العالمي: ميدان الاقتصاد والتجارة والتمدُّد الاقتصادي في شتى البلدان حول العالم من بوابة التنمية وكذلك من بوابة الديون.

كانت أكبر أخطاء "غورباتشوف" من وجهة نظر الصينيين هي أنه فتح باب الحريات على مصراعيه بعد عقود مظلمة من الرقابة والقمع العنيف، فانتقلت روسيا فجأة إلى نمط الديمقراطيات الغربية دون أسس مؤسسية واجتماعية حقيقية لتلك الممارسة الديمقراطية، ومن ثمَّ حرصت الصين على ضمان سيطرة النظام الشيوعي وحماية أفكاره في الداخل، كما خنقت تدفُّق المعلومات، وقيَّدت الوصول إلى المواقع الغربية، وهو ما يُعرف باسم "جدار الحماية العظيم". إذن، مَثَّل سقوط الاتحاد السوفيتي تحذيرا لبكين دفع الحزب الشيوعي الصيني إلى تنويع أوراقه في الداخل والخارج، ومن ثمَّ سارت البلاد نحو إصلاحات جوهرية ومؤسسية وسياسية كبرى، وغيَّرت أسس اقتصادها الاشتراكي إلى الرأسمالية تحت إشراف الدولة، دون إجراء انفتاح ديمقراطي على غرار جورباتشوف. والأهم أن جيرانها كانوا أيضا جزءا من خطتها، لأن الولايات المتحدة باتت تتوجَّس من الصعود الصيني منذ نحو عقد ونصف، ومن ثم أعادت في آسيا سياسة الاحتواء والمحاصرة الجيوسياسية التي طبَّقتها مع موسكو، وهو ما بدأت الصين بالتخطيط لمواجهته إقليميا في شرق وجنوب شرق آسيا.

إعلان

الصين وجيرانها.. في جوار دولة عظمى

تعج منطقة شرق آسيا المُطِلة على المحيط الهادئ بموازين قوى متغيِّرة وتحالفات متضاربة منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، وقد حفَّز تلك التحوُّلات السياسية والاقتصادية نهضة العملاق الصيني، وسعي اليابان لتبوُّء موقع مركزي جيوسياسي إقليميا ودوليا بعد سنوات من الاعتماد الكامل على واشنطن، علاوة على سياسة الارتكاز الآسيوي للولايات المتحدة. وتُخطِّط بكين للاشتباك مع ذلك المشهد بالأساس عبر تمديد نطاق نموذجها التنموي-الاستبدادي بين جيرانها، حيث ترغب النظم الحاكمة في تحقيق طفرات اقتصادية دون التخلِّي عن سيطرتها على الحُكم. وبينما تروِّج الصين لنموذجها فإنها تُحفِّز تحوُّل عدة دول في جنوب شرق آسيا إلى الاستبداد، من كمبوديا والفلبين وصولا إلى ميانمار.

يحكي الواقع الآسيوي قصص انقلابات دموية وبيضاء شهدتها عواصم تلك البلدان، وانتخابات نزيهة أعادت الاستبداديين إلى الحكم، فراحت تنتقل تلك الأفكار الصينية من بلد إلى آخر، وتُثير معها أسبابا للقلق لدى قوى آسيوية أخرى متشككة تجاه خلطة "الاستبداد والتنمية" الصينية، على رأسها كوريا الجنوبية واليابان والهند. وسُرعان ما تُرجم ذلك الانزعاج إلى خطوات صريحة رتَّبت لها واشنطن في القمة الرباعية (كواد) التي جمعت قادة واشنطن مع أستراليا والهند واليابان في سبتمبر/أيلول العام الماضي؛ بهدف التصدي لنفوذ الصين المتنامي عبر ترتيبات جديدة انتهت إلى بحث تشكيل "ناتو آسيوي" على غرار حلف شمال الأطلسي (الناتو). ومثلما استهدف الناتو منذ نشأته مواجهة التهديد السوفيتي قبل انهياره، ثم روسيا من بعده، فإن الناتو الآسيوي سيؤدي دورا مماثلا، لكنه سيقتصر على عرقلة تقدُّم الصعود الصيني، ومحاولة صدِّ المد الصيني في دول جنوب وجنوب شرق آسيا.

صورة من القمة الرباعية (كواد) والتي جمعت قادة واشنطن مع أستراليا والهند واليابان 2022. (الأناضول)

تشعر بكين بالانزعاج من الجهود الأميركية لحشد الدول الآسيوية ضدها، وتشكيل تحالف يشبه الناتو في الشرق الأقصى يجمع مَن تسميهم واشنطن بالديمقراطيات الكُبرى المطلة على المحيطين الهادي والهندي. وترى الصين في ذلك خطرا يُنذر بإشعال حرب باردة جديدة في شرق آسيا عن طريق استقطاب الدول ذات النظم السياسية المتشابهة بهدف الإضرار بالصين. بيد أن الناتو الآسيوي لا يبدو بتلك السهولة، إذ إن شرق أوروبا في القرن العشرين ليس جنوب شرق آسيا اليوم، والصين ليست روسيا، والأهم في تلك المعادلة أن الصين بنت قواتها العسكرية دون استنزاف يُذكَر في أي حروب إقليمية أو عالمية، وتمتلك قبضة أكثر متانة داخل أروقة السياسة والاقتصاد في الدول الآسيوية غير الديمقراطية المحيطة بها.

إعلان

حين شرعت الولايات المتحدة في بناء تحالف بشرق آسيا لمواجهة الصين، تردَّدت أستراليا والهند في البداية، وحذَّرتا من فكرة استعداء بكين، وهو تحذير ثبتت صحته جزئيا بعدما اختلقت الصين توترات مع كل الدول المتحالفة مع واشنطن، بما فيها تايوان التي تزداد مخاوفها من غزو صيني يشبه الغزو الروسي لأوكرانيا، واليابان التي تتصاعد وتيرة التوتُّرات معها بسبب الجزر المتنازع عليها مع بكين، حيث يُصِرُّ خصوم الصين على أن الاضطرابات بدأت من جانب بكين، التي شرعت تفتح الملفات الإقليمية العالقة طيلة العقدين الماضيين، واستفزت جيرانها بعد أن تراكمت لديها أسباب القوة. علاوة على ذلك، فرضت الصين عقوبات اقتصادية على أستراليا، فأوقفت بعضا من صادراتها، وفرضت تعريفات باهظة على منتجات أخرى، بسبب موقف الحكومة الأسترالية المنتقد لانتهاكات حقوق الإنسان في الصين، وهي إشارة بالطبع لدول الجوار حال خطت خطوة نحو مواقف حقوقية أو مؤيدة للغرب.

جيران الصين.. اقتصادات مزدهرة وأنظمة مستبدة

على مدار العقدين الماضيين، نُظِر إلى دول جنوب شرق آسيا باعتبارها تسير وفق نموذج تنموي وديمقراطي، حيث نجحت كلٌّ من ميانمار وبنغلاديش وإندونيسيا والفلبين وسريلانكا وتايلاند وتيمور الشرقية في إجراء انفتاحات نسبية سياسية واقتصادية في أوقات مختلفة. بيد أن الرياح سرعان ما حرفت تلك الدول عن مسارها، فانتكست الديمقراطية في آسيا، في حين يبدو الوضع الاقتصادي لدول المنطقة أفضل نسبيا بسبب الدعم الصيني المستمر. ولم تكن ميانمار سوى أحدث حلقة في الانقلابات العسكرية والسياسية بالمنطقة، ويبدو شاهدا على ذلك استخدام المتظاهرين في ميانمار إشارة "الأصابع الثلاثة" التي انتشرت سابقا في شوارع تايلاند بعد انقلاب 2014 قبل أن يحظرها المجلس العسكري هناك، ثم في شوارع هونغ كونغ أثناء مظاهرات 2019 و2020. تنتشر إذن حركات احتجاج تجمع ملايين الأشخاص بشتى دول المنطقة في مواجهة اشتداد القبضة الاستبدادية، لا سيما بعد تفشي فيروس كورونا، الذي سمح لتلك الأنظمة الحاكمة بفرض مزيد من القيود على التجمُّعات، وتفعيل قوانين الطوارئ، والتحكُّم في نشر الأخبار.

خلال السنوات الماضية، شهد جنوب شرق آسيا تحولات عنيفة، وتصدَّر للحكم رجال أقل ديمقراطية من سابقيهم، وحتى اللحظة لم تنجح الاحتجاجات في إحداث تغيير سياسي جذري، مما يعني أن مسار الحكم الشمولي مستمر في ترجيح الكفة لصالح بكين. على سبيل المثال، قدَّم الرئيس الفلبيني (المتهم بتصفية خصومه خارج نطاق القانون) الصين على أنها صديق أكثر ثباتا من الولايات المتحدة، فيما فشلت المعارضة التايلاندية حتى اللحظة في الإطاحة بزعيم الانقلاب التايلاندي "برايوت تشان أوتشا". وفي كمبوديا، يجلس الزعيم صاحب أطول فترة حُكم في آسيا في مقعده بعد أن حلَّ مؤخرا أحزاب المعارضة واستهدف المرشحين في الانتخابات. ورغم علاقات تلك الدول الوثيقة بالصين، فإن فيتنام الحليفة لواشنطن تزيد هي الأخرى من قبضتها الاستبدادية، مما يشي بأن حوافز الحُكم الاستبدادي جنبا إلى جنب مع التنمية الاقتصادية مُغرية حتى في صفوف حلفاء الولايات المتحدة الأحدث عهدا بالديمقراطية.

إعلان

يعني ذلك أن التحدي مزدوج بالنسبة إلى واشنطن والرباعية الآسيوية من خلفها، فالنظم الاستبدادية الموالية للصين ليست وحدها التي تبحث عن مزايا جوارها للاقتصاد الصيني والدعم الصيني غير المشروط بالديمقراطية، بل إن الدول الموالية للغرب أيضا بها أنظمة لم تَعُد تعاني ضغطا من أجل الديمقراطية التي لم تتجذَّر فيها بعد، لا سيما في ظل حاجة الولايات المتحدة إلى الإبقاء على تحالفاتها في مواجهة مغريات الصين، ومن ثم باتت واشنطن مضطرة لقبول مسحة من "النموذج الصيني" في فيتنام وغيرها من بلدان حليفة للغرب في آسيا ما انفكت تحيد عن الديمقراطية، بما في ذلك الهند نفسها. في نهاية المطاف، يبدو أن خليط التنمية والاستبداد باقٍ في آسيا لبعض الوقت في ظل تعقُّد التنافس الصيني-الأميركي، ويبدو أنها خلطة ستتسرَّب مع الوقت إلى الدول الصغيرة بالتحالف الأميركي نفسه حتى تفقد بريقها أو ينتهي التنافس بتسوية كُبرى بين القطبين الكبيرين.

المصدر : الجزيرة

إعلان