تحالف غربي وصداقة روسية.. أوكرانيا تختبر السياسة التركية

حين انطلقت الدبَّابات الروسية إلى عُمق أوكرانيا قبل نحو ستة أشهر، لم يكن العالم وقتها مستعدا لتلك الحرب وهو يتعافى لتوِّه من الآثار الاقتصادية لجائحة "كورونا". كما أن التقلُّبات السياسية التي جلبها تراجع الدور الأميركي في الشرق الأوسط وشرق أوروبا لصالح الاهتمام بشرق آسيا أربكت حسابات الكثير من الدول، التي وقفت حائرة بين الحفاظ على تحالفها التقليدي مع الغرب والانحياز إلى ما بدا أنه دور روسي متصاعد أخذ يملأ الفراغات التي انحسر فيها دور واشنطن مثل الشرق الأوسط وبعض الدول الأفريقية. وبالنظر إلى موقعها الجغرافي وعضويتها الراسخة في حلف الناتو، صارت تركيا أبرز العالقين في شباك الأزمة الأوكرانية بعد توتُّر علاقاتها بالولايات المتحدة وانفتاحها النسبي على روسيا في السنوات الأخيرة.
فمن ناحية، أعلنت تركيا اصطفافها مع حلفائها التقليديين في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ودعمت أوكرانيا سياسيا وعسكريا، ولكنها على الجانب الآخر حاولت أيضا الحفاظ على قنوات التنسيق المتينة التي أنشأتها مع موسكو على مدار العقد الماضي، ومن ثمَّ كانت هي الدولة الوحيدة في حلف الناتو التي لم تفرض عقوبات اقتصادية على روسيا. لكن ما أربك سياسة الموازنة التركية بين التحالف الغربي والصداقة الروسية هو أن الدول الغربية اتخذت موقفا حازما من الغزو الروسي على غير المتوقَّع، كما أن التوصُّل إلى اتفاق لفضِّ الاشتباك في أوكرانيا بات من الواضح أنه ربما يستغرق أشهرا تستمر فيها الخسائر العسكرية والسياسية والاقتصادية لشتى الأطراف، ومنها تركيا التي يعاني اقتصادها بالفعل بسبب هبوط العُملة المحلية. بيد أن تركيا سارت عكس التوقُّعات، وتمكَّنت من إعادة رسم دورها السياسي في خضم التصعيد بين طرفَيْ الصراع، حتى باتت القناة الوحيدة التي يتواصل عبرها الروس والأوكرانيون لتمهيد الطريق لتسوية مُحتملة. إذن، رغم موقفها الجيوسياسي المُعقَّد، ستخرج أنقرة على الأرجح بمكاسب من الحرب أيًّا كان المنتصر فيها.
تركيا.. الحضور في كُل الجبهات

في اليوم الأول الذي اقتحم فيه الجيش الروسي أوكرانيا، تحرَّكت تركيا فورا على المسرح الدولي، ووصفت على لسان الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" العمل العسكري بأنه غير مقبول ومخالف للقانون الدولي. وبينما أخذت روسيا تدفع بقوات جديدة إلى قلب المعارك وفي عُمق المدن، لم تكُن التحرُّكات التركية على الأرض مُطابقة لخطابها الرسمي. فرغم التزامها بالدفاع عن سيادة أوكرانيا بما في ذلك شبه جزيرة القرم التي ضمَّتها روسيا عام 2014، فإن السياسة الخارجية التركية انتهجت نهجا واقعيا حرص على عدم تعريض العلاقات مع روسيا للخطر على المدى الطويل، لا سيما العلاقات الاقتصادية المتشعِّبة التي تربطها بموسكو.
بينما قدَّم الناتو السلاح للجيش الأوكراني، وشاركت تركيا بنفسها في جهود تسليحه وزوَّدته بالطائرات المُسيَّرة، فإنها كانت الدولة الوحيدة في الناتو التي دعت في الوقت ذاته إلى إيجاد حلٍّ دبلوماسي بين الطرفين بعد أن تعطَّلت قنوات الاتصال بين روسيا والغرب، ولم تستجب لدعوات التصعيد المُبالغ فيها التي أطلقها الرئيس الأوكراني "فولوديمر زيلينسكي" الذي طلب من أنقرة استخدام الصلاحيات الممنوحة لها بموجب اتفاقية "مونترو" لعام 1936 لضبط حركة السفن عبر مضيقَيْ البوسفور والدردنيل ومنع السفن الحربية الروسية من المرور عبرهما، مما يقطع فعليا بين روسيا ووجودها العسكري خارج البحر الأسود.
لم تستجب أنقرة لمناشدات "زيلينسكي"، وآثرت أن تستخدم صلاحياتها لمنع جميع السفن الحربية التابعة للدول المُشاطِئة للبحر الأسود وغير المُشاطِئة له كذلك (أي دول العالم كافة) من عبور المضيقَيْن. فلم يستهدف القرار روسيا صراحة، ولم يؤثر عليها كثيرا بالنظر إلى أن الحرب دائرة أصلا داخل البحر الأسود، وبالنظر أيضا إلى أن موسكو سحبت بالفعل عددا من سُفنها الحربية إلى البحر الأسود قُبَيل الحرب مباشرة. بل إن القرار أثَّر سلبا على موقف الناتو العسكري وفقا لتقرير قُدِّم للكونغرس الأميركي ذكر أن تركيا بموجب "مونترو" لا تملك إلا حق منع السفن التابعة لدولة اعتدت على دولة أخرى.
رغم اصطفاف تركيا العسكري رسميا مع حلفائها في الناتو، فإن موازناتها السياسية نأت بها عن الخوض في تصعيد دبلوماسي مع موسكو، وهي سياسة ليست بجديدة على تركيا تحت حُكم حزب العدالة والتنمية. فمثلا، حين استحوذت روسيا على محافظتَيْ "أبخازيا" و"أوسيتيا الجنوبية" من جورجيا عام 2008، رفضت تركيا عبور سفن أميركية أرادت العبور إلى البحر الأسود، وفي المقابل لم تُصنِّف روسيا تركيا ضمن تحالف الدول غير الصديقة التي شاركت في حملة العقوبات على روسيا. وقد تكرَّر الأمر نفسه هذا العام بعد بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا رغم مشاركة تركيا هذه المرة في تسليح الطرف المُعادي لروسيا، لا سيما صفقات الطائرات المُسيَّرة من طراز "بيرقدار" التي تسبَّبت في خسائر موجِعة للروس. وقد خاضت كُلٌّ من كييف وأنقرة مؤخرا مفاوضات لتأسيس مصنع لتلك الطائرة التي ذاع صيتها أكثر خلال الحرب الأوكرانية، مما دفع المتحدث الرسمي باسم الكرملين "دِميتري بِسكوف" للتهديد بأن المصنع سيكون هدفا عسكريا للجيش الروسي دون مواربة.
استفادت أنقرة من الانتكاسات العسكرية الروسية الأولية التي أبطأت مسار الحرب في أسابيعها الأولى، وواصلت سياسة التوازن بعدم التخلي عن دعمها لأوكرانيا داخل حلف الناتو، دون أن تقلب حساباتها الجيوسياسية المُعقَّدة مع روسيا على غرار بعض العواصم الأوروبية التي فتحت النار على موسكو. وقد وجدت أنقرة في تباطؤ الحرب وتعقُّد العلاقات بين روسيا والغرب فرصة لتوسيع دائرة نفوذها الإقليمي، ففي خضم المساعي التركية احتضن قصر "دولما بهتشه" بإسطنبول محادثات بين مسؤولين روس وأوكرانيين (وهو القصر الذي كان مقر السلاطين العثمانيين في عقودهم الأخيرة). وفي اختراق يُعَدُّ الأول منذ بدء الحرب، وقَّعت روسيا وأوكرانيا اتفاقا لتأمين تصدير الحبوب الأوكرانية العالقة من موانئ البحر الأسود، وخرج أردوغان من ذلك الاتفاق ليُعلِن أن تركيا استخدمت نفوذها وموقعها الإستراتيجي وعلاقتها مع موسكو وكييف لإنقاذ العالم من خطر مجاعة وشيكة.
تشارك تركيا حاليا في الصراع الدائر على عدد من الجبهات، فهي من جهة تدعم أوكرانيا عسكريا بواسطة السلاح، وتعمل وسيطا دبلوماسيا ناجحا بين موسكو وكييف، وتحاول الحفاظ على مكانتها بوصفها قوة إقليمية ذات وزن ودور خاص متمايز من داخل المعسكر الغربي، دون الإخلال بعلاقتها المتوازنة مع روسيا. فثمَّة ملفات مُعقَّدة في العلاقات الروسية التركية، إذ إن البلدين اللذين كانا ولا يزالان خصمَين جيوسياسيَّين في الفضاء السوفيتي السابق، وتجمعهما مصالح اقتصادية عميقة، وتتقاطع دوائر نفوذهما في آسيا الوسطى والقوقاز والبحر الأسود والبلقان والشرق الأوسط؛ يصعب عليهما أن يقلبا الطاولة في يوم وليلة، أو أن يتكبُّدا كُلفة العداء الصريح. ولذا تنتهج تركيا نهج التنسيق المُكثَّف مع الروس رغم تضارب المصالح بينهما في جميع الجبهات، كما تُدلِّل على ذلك محادثات "دولما بهتشه"، ومن قبلها سنوات العمل في محادثات "أستانة" الخاصة بسوريا، وكذلك التنسيق بعد الحرب الأخيرة في إقليم "ناغورني قره باغ" في القوقاز.
عداء تاريخي.. وضرورات آنية

لطالما استشعرت تركيا تهديدات روسيا السوفيتية لها في الخمسينيات والستينيات، ومن ثمَّ انضمت إلى حلف الناتو واحتمت بمظلة الغرب. وقد تحسَّنت العلاقات بين البلدين نسبيا حين غزت تركيا قبرص عام 1974، وتوتَّرت علاقتها بالولايات المتحدة التي حظرت تصدير السلاح لأنقرة آنذاك، ومن ثمَّ شهدت المنطقة تقاربا تركيًّا-سوفيتيًّا، حتى عادت المياه إلى مجاريها مع انقلاب 1980 في تركيا وغزو السوفييت لأفغانستان الذي أقلق صُنَّاع القرار في أنقرة.
في ضوء ذلك، عُدَّت تركيا أبرز المستفيدين الإقليميين من سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991، إذ فتح لها ذلك مساحات جيوسياسية شاسعة لنسج دور إقليمي جديد. وبوصول حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى السلطة عام 2002، ورفضه السماح للجيش الأميركي باستخدام الأراضي والأجواء التركية في غزو العراق بالتزامن مع الحديث عن دور أكثر استقلالية لتركيا في محيطها؛ استقبلت موسكو الإشارات الجديدة في أنقرة واستغلَّت نقاط الخلاف التي ظهرت إلى السطح بين تركيا وحلفائها في واشنطن. ولذا، بدأ الكرملين في العام التالي الاستثمار في تلك المُستجدَّات، حيث زار بوتين تركيا لمقابلة أردوغان، الرجل الطموح الذي يقف على الجهة المقابلة جيوسياسيا لكنه للمفارقة يشاركه إرث إمبراطورية مهزومة وأحلاما بأن يصنع مكانة تليق بدولته.
بعد سنوات من التقارب السياسي على أساس المصالح الاقتصادية المشتركة والتنسيق السياسي المُكثَّف، فإن روسيا حاليا شريك تجاري وأساسي للاقتصاد التركي، وتحصل أنقرة من موسكو على 45% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي ونحو 70% من احتياجاتها من القمح، كما أن الروس أصحاب النصيب الأكبر من أعداد السياح القادمين إلى تركيا سنويا، حيث تُشير البيانات الرسمية إلى أن 19% ممن زاروا تركيا العام الماضي (2021) من الروس بإجمالي 4.7 ملايين زائر. وقد ضاعف البلدان أيضا حجم التبادل التجاري بينهما إلى 33 مليار دولار، ورغم تضرُّر تركيا من فرض عقوبات على روسيا، فإنها تسعى لتجاوز الحظر قدر الإمكان مثلها مثل الدول المرتبطة بالاقتصاد الروسي وعلى رأسها الصين. هذا وبدأت تدفع أنقرة ثمن نسبة من واردات الغاز الروسي بـ "الروبل".

لم يخلُ دور "الموازنة" التركي من عواقب جيوسياسية واقتصادية على النظام السياسي والاقتصادي التركي الذي يستعد لانتخابات مصيرية الصيف المُقبل لاختيار رئيس وبرلمان جديدَيْن سيحكمان تركيا حتى 2028. وفي وقت هبطت فيه احتياطيات تركيا من النقد الأجنبي إلى 61 مليار دولار، وبلغ فيه إجمالي الدَّيْن الخارجي للبلاد 450 مليار دولار العام الماضي، وقفزت معدَّلات التضخُّم إلى 70% مؤخرا، لتُسجِّل أعلى مستوى لها في عشرين عاما، لم يكن بوسع أردوغان المخاطرة بعلاقاته مع موسكو، لا سيما أن الحرب أدَّت إلى ارتفاع حاد في أسعار النفط والغاز الطبيعي وفاقمت فاتورة الواردات التركية وأثقلت كاهل الليرة. هذا وتتكبَّد تركيا كذلك عبء صادراتها من الآلات ومُعدَّات النقل إلى الدول الأوروبية، حيث تعتمد فيها اعتمادا كبيرا على المواد الوسيطة المستوردة من أوكرانيا وروسيا، ومن ثمَّ أدَّت الحرب إلى توقُّف الإنتاج وألحقت ضررا بعائدات الصادرات التركية.
غير أن ارتدادات الحرب الروسية-الأوكرانية على الاقتصاد التركي ليست أقل وطأة من الأخطار الجيوسياسية التي ستنجم عن تزايد الحضور الروسي في البحر الأسود، الذي تشترك فيه تركيا مع أوكرانيا وروسيا رفقة بلغاريا وجورجيا ورومانيا، وهو ما يعني أن تركيا ستكون بحاجة إلى تعزيز العلاقات مع رومانيا وجورجيا (حليفَيْها الأقرب في المنطقة)، وحلِّ خلافاتها مع بلغاريا التي تتوتَّر علاقاتها مع أنقرة بين الحين والآخر؛ لخلق توازن مع القوة الروسية الزاحفة بطول الشاطئ الشمالي للبحر. ورغم أن تركيا تُفضِّل أن تظل لأوكرانيا سواحل على البحر الأسود وألا تستحوذ موسكو على سواحلها بالكامل، فإنها ستظل تنأى بنفسها عن التصعيد أو التدخُّل بصورة أكبر لصالح أوكرانيا، خشية توسُّع دائرة الصراع وتزايد عدم الاستقرار وإطالة أمد الأزمة الاقتصادية.
يُعَدُّ البحر الأسود حيويا لروسيا في شتى المجالات، من الطاقة والتجارة والاقتصاد إلى الأمن القومي والحضور العسكري في البحار الدافئة، ومن ثمَّ فإنها دائما ما نظرت إلى هيمنتها على البحر الأسود بوصفها مسألة بقاء قومي وقاعدة لا مفرَّ منها لتثبيت أركان القوة الروسية في أوروبا والنظام الدولي. وقد تعارضت تلك الأهداف باستمرار مع أهداف الجارة التركية، الإمبراطورية السابقة هي الأخرى، التي ما انفكَّت تسعى لاستعادة أمجادها فيما تعتبره مجالاتها الحيوية المتداخلة معها ثقافيا وتاريخيا وجغرافيا. ولكن للمفارقة، فإن تركيا التي اكتفت بدورها عضوا في التحالف الغربي أثناء الحرب الباردة، تُفاجئ حلفاءها قبل أعدائها اليوم بسياسة متعدِّدة الأوجه أكَّدت عبرها أهميتها في حلف الناتو، وحافظت بها على صداقتها وعلاقتها المُعقَّدة بروسيا، والأيام القادمة وحدها ستُثبت ما إن كانت تلك السياسة ستُحقِّق أهدافها لتركيا، أم ستُظهِر تناقضاتها إلى السطح في الغد القريب.