شعار قسم ميدان

حرب بالأسلحة والقذائف في قلب بغداد.. ماذا وراء اقتحام الصدريين للمنطقة الخضراء؟

مقدمة التقرير

أحداث ساخنة شهدها العراق خلال الساعات الماضية، على وقع إعلان الزعيم الشيعي البارز مقتدى الصدر المفاجئ اعتزالَ الحياة السياسية وإغلاق المؤسسات التابعة له، ما تسبَّب في احتشاد أنصاره في المنطقة الخضراء بالعاصمة بغداد، ونشوب مواجهات مسلحة. وقد أسفرت المواجهات التي استُخدمت فيها الأسلحة النارية وقذائف الهاون عن مقتل 20 شخصا حتى فجر الثلاثاء، وإغلاق سفارة غربية واحدة على الأقل فضلا عن تعليق جلسات مجلس الوزراء العراقي، فيما يترقب الجميع ما ستسفر عنه الساعات القادمة، وإذا ما كانت الأزمة سيجري احتواؤها في النهاية أم أنها ستتخذ منحى أكثر خطورة.

نص التقرير

حتى بالنسبة إلى أشد الناس تفاؤلا، يبدو المشهد السياسي في العراق قاتما وبلا أُفق، إذ تخوض البلاد حاليا واحدة من أعمق وأطول أزماتها على الإطلاق منذ الغزو الأميركي عام 2003. فقد بلغت الخلافات ذروتها بعد تسعة أشهر من الانتخابات البرلمانية، دون أن يتوصَّل الفرقاء إلى تسمية أعضاء الحكومة أو يتفقون على رئيس. وتسبَّبت تلك الأزمة في انقسام البيت الشيعي ذاته واحتراق الجسور بين قادته ممن تصدَّروا المشهد السياسي في العراق منذ سقوط نظام الرئيس الراحل "صدام حسين"، وأبرزهم زعيم التيار الصدري "مقتدى الصدر"، وزعيم ائتلاف دولة القانون ورئيس الحكومة الأسبق "نوري المالكي".

ويُنذر الانقسام الحاد والنفق الذي دخلته السياسة العراقية بوضع البلاد على مسار اقتتال أهلي شيعي-شيعي، لا سيما أن طرفَيْ النزاع يمتلكان ترسانة عسكرية توازي في قوتها تلك التي يمتلكها الجيش العراقي نفسه، ناهيك بأنصارهما الغاضبين في الشوارع، ويقين كلٍّ منهما بمشروعية المواجهة مع الطرف الآخر الذي يرى في تحركاته محاولة للانقلاب على الدولة.

 

بدأت أزمة العراق الحالية بانتهاء صلاحية الحكومة دستوريا، ومحاصرة البرلمان من جانب التيار الصدري صاحب الأغلبية في الانتخابات الأخيرة، واندلاع المواجهات في الشوارع، مع تظاهرات أخرى شيعية مناوئة تابعة لما يُسمَّى الإطار التنسيقي، وجُلّ أعلامه خصوم لمقتدى الصدر وتياره، وأبرزهم "حيدر العبادي" و"نوري المالكي". وبينما تسعى الكتلة الشيعية المُمزَّقة إلى تجنُّب خوض صِدام بين أجنحتها، فإن عواقب الانهيار السياسي تتفاقم، بالتزامن مع مخاوف من أن يؤدي الجمود إلى اقتتال أهلي هذه المرة داخل البيت الشيعي نفسه.

جذور الأزمة السياسية في العراق

A demonstrator throws tear gas towards Iraqi security forces during the ongoing anti-government protests in Baghdad, Iraq November 30, 2019. REUTERS/Khalid al-Mousily

كان من المفترض أن يُجري العراق الانتخابات البرلمانية في ربيع العام الحالي 2022، لكن الحراك الشعبي الضخم الذي اندلع أكتوبر/تشرين الأول 2019، والعنف الذي استخدمته حكومة "عادل عبد المهدي" في مواجهته تسبَّبا في تغيير معالم المشهد. وفي النهاية، لم تجد الحكومة بُدًّا من تقديم استقالتها في أكتوبر/تشرين الأول 2021، مُفسِحة المجال لانتخابات مُبكرة.

 

جاءت المشاركة في الانتخابات المُبكرة محدودة نسبيا، حيث بلغت نسبة التصويت 41%، وهي أقل بكثير من انتخابات عام 2018، لكن نتائجها كانت مُفاجئة ومزلزلة. وقد حملت النتائج إعلان وفاة النظام السياسي الحالي، حيث خسر تحالف "الفتح"، المُمثِّل الرئيسي لفصائل الحشد الشعبي داخل البرلمان، نحو ثلث مقاعده، ليحصد 17 مقعدا فقط بعد أن شغل 48 مقعدا في البرلمان المنتهية ولايته. أما الصدمة المدوية فهي فوز كتلة "سائرون" بزعامة مقتدى الصدر بأكبر نسبة من المقاعد البرلمانية، إذ حصدت 73 مقعدا من أصل 329 هي مجموع مقاعد البرلمان العراقي.

 

ومع خفوت القوى المؤثرة، صعدت قوى أخرى بديلة وجديدة استفادت من قانون الانتخابات الجديد، الذي قسَّم العراق إلى 18 دائرة انتخابية، ويُشار إليه بأصابع الاتهام باعتبار أنه أثَّر على حصص الأحزاب، ومَنح حظوظا أكبر للتيارات السياسية والعشائرية من المستقلين ورجال الدين ممن حلُّوا مكان الأحزاب الشيعية المتحالفة مع إيران التي لم تتقبل الهزيمة. وقد حشد هؤلاء أنصارهم في الشوارع احتجاجا وتهديدا واختبارا لما سوف يُحدِثه الشارع، لكن حتى تلك البلاغات التي قُدِّمَت من قِبَل الخاسرين للمحكمة من أجل الطعن في نتائج الانتخابات، قوبلت بخسارة جديدة عقب تصديق المحكمة الاتحادية على النتائج نهائيا، مما دفع المعسكر المُحتَج إلى الانتقال لمواجهة جديدة داخل البرلمان نفسه.

متظاهرون رافضون لنتائج الانتخابات التشريعية خلال تجمعهم اليوم أمام المحكمة (رويترز)
متظاهرون رافضون لنتائج الانتخابات خلال تجمعهم أمام المحكمة (رويترز)

فبعد أن حُسم أمر الانتخابات، دخل طرفا التنافس في صراع على تشكيل الحكومة العراقية. وبينما اتفق الجميع ضمنيا على تشكيل حكومة ائتلافية تقتطع فيها جميع الأحزاب جزءا من كعكة النفوذ، وهي العادة والعُرف والميثاق غير المكتوب منذ تصدَّر البيت الشيعي المشهد العراقي عقب سقوط صدام حسين؛ فاجأ الصدر الجميع هذه المرة، وأعلن ثورته على هذه التقاليد، مُطالِبا بتأسيس حكومة تُهيمن عليها كتلته، التي رآها أحق باختيار الحكومة المقبلة ورئيسِها.

 

في مقابل هذه المحاولة، حشدت القوى الشيعية المقرَّبة من إيران نفسها، وتوحَّدت داخل ائتلاف سُمِّي لاحقا "الإطار التنسيقي"، وباتت هي القوى الأكبر عددا بنحو 130 برلمانيا من أصل 329. وقد طالبت بتشكيل حكومة محاصصة توافقية، وعارضها مقتدى الصدر مطالبا بحكومة أغلبية سياسية، ومُلوِّحا باللجوء إلى الشارع. بيد أن الصدر ذهب إلى أبعد من ذلك، فبعد فشله في استبعاد خصومه من الأحزاب الشيعية المُتحالفة مع طهران والمنضوية تحت لواء "الإطار التنسيقي"، قرَّر قلب الطاولة بعد ثمانية أشهر من الانتخابات، ودفع نوابه إلى الاستقالة من البرلمان.

وقعت مناورة استقالة الصدريين تلك بعد اتجاه نواب الإطار التنسيقي نحو التصويت لاختيار النائب "محمد شياع السوداني" رئيسا للحكومة، وهو ما دفع الصدر إلى إحراق ورقة البرلمان تماما، موعِزا إلى أنصاره باقتحام مجلس النواب والاعتصام بداخله، لعرقلة تمرير أي اتفاق سياسي يستبعده. كما هدَّد الصدر بدفع قاعدته الشعبية ذات الملايين نحو الشوارع إن حاول خصومه تشكيل حكومة لا يوافق عليها. ولذا، انتقلت الأزمة إلى الحشود الغاضبة التي اقتحمت المنطقة الخضراء، وهدمت الحواجز الخرسانية، واعتصمت داخل البرلمان. وفي المقابل دفعت كتلة الإطار التنسيقي أنصارها إلى تظاهرات مضادة أمام المنطقة الخضراء، ومن ثمَّ بات الحد الفاصل بين الجبهتين الغاضبتين أقل من عدة أمتار قد يؤدي تلاشيهما إلى انزلاق العراق نحو مواجهة يصعب تصوُّرها والتنبُّؤ بنتائجها.

انتخابات مُبكرة أم فوضى مؤجلة؟

Supporters of Iraqi populist leader Moqtada al-Sadr gather outside the parliament building, amid a political crisis, in Baghdad, Iraq August 1, 2022. REUTERS/Wissam Al-Okaili TPX IMAGES OF THE DAY
أنصار مقتدى الصدر يتجمعون خارج مبنى مجلس النواب العراقي (رويترز)

بدأ ارتباك المشهد العراقي من الصدر نفسه، الذي أراد التحالف مع السنة والأكراد، واستبعاد منافسيه الشيعة المدعومين من إيران، في خطوة بدت مُتَّسِقة مع ما عُرِف عنه منذ زمن من اتجاه قومي عروبي إلى جانب إسلاميَّته الشيعية. بيد أن ما عقَّد الأمور هو أن القوى السياسية الشيعية الأخرى ذات الوزن ظلَّت ثابتة على مواقفها بين مؤيد لتشكيل حكومة أغلبية وداعٍ إلى تشكيل حكومة ائتلافية. فبعدما خاض البرلمان عدة محاولات فاشلة لتشكيل حكومة جديدة، واستخدم كل طرف سلاح الثلث المُعطِّل لتعطيل جلسات المجلس، أُصيب المشهد السياسي بشلل تام، ومن ثمَّ صار العراق أمام خيارات محدودة لحلِّ الأزمة بعد أن قيَّدت الأطرافُ العمليةَ السياسية كافة.

 

في ضوء هذه التطورات، باتت عملية إحياء السياسة العراقية من جديد بعيدة المنال بعدما فشلت كل الوساطات في إحداث أي تقدُّم يعيد الأطراف إلى طاولة الحوار. ويزيد الطين بلَّة أن أي تنازل من ائتلاف "الإطار التنسيقي" ورضوخه لمطالب الصدر سيُنظَر إليه بوصفه هزيمة سياسية، وهو ما تسبَّب في انقسام الإطار على نفسه علاوة على الانقسام السياسي الرئيسي في البلاد. وعلى الجهة المقابلة، يريد الصدر أن يستثمر فوزه في الانتخابات لإحداث نقلة في السياسة العراقية تضعه في قلب المشهد على خلفية الانسحاب الأميركي، لا سيما وقد ضربت طالبان مثلا هي الأخرى بتغيير الساحة جذريا بعد رحيل الأميركيين.

 

في وقت تجد فيه الطبقة السياسية العراقية نفسها غير قادرة على إيجاد الحلول، يبدو أن جميع القوى لن تجد حلًّا واقعيا سوى التوافق على الذهاب للانتخابات مجددا خوفا من تفاقم الصِّدام. ومن المرجَّح أن تكون الانتخابات نفسها فرصة للكتل الشيعية الخاسرة لإعادة ترتيب صفوفها، واستعادة ما فقدته من مقاعد في الانتخابات الأخيرة، لكن المشكلة أنه لا توجد ضمانات حتى الآن على الاتفاق على شكل الحكومة المرتقبة سواء ائتلافية أو أغلبية، ناهيك بالصراع القديم المتجدد عند كل استحقاق انتخابي حول شخصية رئيس الدولة. والأخطر أنه عقب حل البرلمان ستخوض كل الكُتَل خلافات مُبكرة حول قانون الاقتراع الجديد الذي شابته كثير من الاعتراضات، مما يعني غرق البلاد بمَن فيها في احتجاجات ممتدة لا نهاية واضحة لها كما يبدو من المشهد القائم.

 

بعيدا عن الانتخابات، ثمَّة حل وحيد حتى الآن قد تقبله القوى السياسية العراقية على مضض، وهو التجديد لـ"مصطفى الكاظمي"، وهو حل ربما تُفضِّله الولايات المتحدة وبعض الدول الخليجية، لكن من غير المرجَّح أن تُرحِّب به إيران التي خسرت الكثير من نفوذها في بغداد تحت ولاية الكاظمي. تهُب الرياح حاليا إذن بما لا تشتهيه السفن في طهران، التي باتت تشعر بقلق شديد من زيادة نفوذ التيار الصدري ورؤيته لتقليص دور الجماعات الشيعية الأخرى الموالية لإيران، ومن المرجَّح أنها تُعِدُّ العُدة لجولة حاسمة تستعيد بها زمام الأمور حال قرَّر الفرقاء الاحتكام مجددا إلى الصناديق باعتبارها حلًّا أخيرا لتجنُّب ويلات استمرار الصِدام.

المصدر : الجزيرة