حماس تبث مقطع فيديو لأسير إسرائيلي.. ما الرسالة التي توجهها الحركة في هذا التوقيت؟
في الخامس من مايو/أيار المنصرم، وقبل سقوط حكومته بأسابيع معدودة، جلس رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق "نفتالي بينيت" منهمكا في متابعة مراسم رسمية لإحياء ذكرى قتلى الجنود الإسرائيليين في حروب الاحتلال مع الدول المجاورة، وبينما هو يتابع فوجئ الرجل بمهاجمته من قِبل عائلات قتلى إسرائيليين وصلوا إلى جبل هرتزل في القدس المحتلة حيث أُقيمت الفعالية، ونعته بأوصاف عديدة لعل أبرزها "خائن وحقير ومحتال، عليك أن تخجل من نفسك".
التزم بينيت الصمت، لكنه سرعان ما قاطع صرخات المُحتَجين قائلا: "العائلات المكلومة مُقدَّسة ومسموح لها بأن تصرخ، إسرائيل لن تنسى ’هدار غولدن‘ و’أورون شاؤول‘ و’أبراهام منغيستو‘ و’هشام السيد‘ وغيرهم من المفقودين"، في إشارة إلى الإسرائيليين الذين تحتجزهم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة، حيث تحتجز الحركة الجنديَّين الإسرائيليَّين شاؤول وغولدن منذ عام 2014، كما تحتجز إسرائيليَّين آخرين تزعم دولة الاحتلال أنهما مدنيان ولا يخدمان حاليا في أي جهاز أمني هما منغيستو وهشام السيد، اللذان دخلا غزة بمفردهما في ظروف غامضة عامَيْ 2014 و2015.
بالتزامه الصمت، أراد بينيت التأكيد أنه ملتزم بالتعهُّد الإسرائيلي بأن "الدولة على استعداد لتقديم التضحيات من أجل أي أفراد تتوقع منهم تقديم تضحيات من أجلها". بيد أنه في الواقع انتهج نهج القادة الإسرائيليين المتأخِّرين، الذين يمتلكون قناعة تامة بأن إنقاذ جنودهم عبر صفقات تبادل "غير متوازنة" يشجع "خصومهم" على أسر المزيد من الجنود، كما أن ذلك يتيح إطلاق سراح الفلسطينيين المُدانين بتنفيذ الهجمات المسلحة ضد الاحتلال. وقد دفع هذا الواقع حماس وقتها لنشر فيديو يظهر فيه أحد الأسرى الإسرائيليين لديها، بهدف تحريك ملف تبادل الأسرى، وذلك عبر دفع أهالي المحتجزين للضغط على الحكومة الإسرائيلية في هذا الاتجاه. واليوم، مع تغير المياه في السياسة الإسرائيلية مجددا وصعود حكومة جديدة يقودها بنيامين نتنياهو، مع تغييرات في القيادة العسكرية للجيش تضمنت رحيل رئيس الأركان أفيف كوخافي وتولي هرتسي هليفي المنصب بدلا منه، بثت الحركة مقطع فيديو جديدا للأسير أفيرا منغيستو يناشد فيه حكومة الاحتلال بالتدخل لإطلاق سراحه، في محاولة من الحركة ربما للضغط على القيادة الإسرائيلية الجديدة وتحريك ملف صفقة تبادل الأسرى إلى الأمام.
تبادل الأسرى.. معارك بلا رصاص
مع حلول يوم 23 من نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام، يحيي الفلسطينيون ذكرى أكبر عملية تبادل أسرى، التي وقعت عام 1983، وأُفرِج بموجبها عن 4600 أسير مقابل 6 جنود إسرائيليين. وفي يوم إتمام الصفقة التي قادت مفاوضاتها حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، شهد ميناء طرابلس (شمال لبنان) حركة غير عادية، حين نُقِل الجنود الإسرائيليون الأسرى إلى الميناء، ثم حُمِلوا في زوارق إلى سفينة فرنسية تبعد 8 كيلومترات عن شواطئ طرابلس، حيث تسلَّمهم الإسرائيليون من مندوبي الصليب الأحمر. وفي هذا الوقت أيضا، شهد جنوب لبنان عملية مماثلة، إذ أطلقت قيادة جيش الاحتلال الإسرائيلي سراح 3600 أسير نُقِلوا إلى الداخل اللبناني، فيما اختار نحو 1024 أسيرا أن يُنقلوا إلى الجزائر.
على مدار عقود احتلالها للأراضي الفلسطينية، اعتقلت دولة الاحتلال مئات الآلاف من الفلسطينيين، بعضهم اعتُقِل أكثر من مرة، حيث نال الاعتقال من غالبية البيوت الفلسطينية، ولم تبقَ هناك بقعة جغرافية فلسطينية إلا أقام عليها الاحتلال سجنا ومركز توقيف. واعتقل أيضا آلاف المواطنين العرب والمتضامنين من جنسيات أجنبية مختلفة. وبما أن عمليات المقاومة الفلسطينية والعربية أتاحت الفرصة لاحتجاز العشرات من الإسرائيليين، سجَّل الباحثون 36 عملية تبادل أسرى وقعت منذ عام 1949، جلُّها في صفوف الفلسطينيين بطبيعة الحال. وقد وقعت أولى الصفقات الفلسطينية بين منظمة التحرير والاحتلال عام 1968 بعد أن اختطفت حركة "فتح" طائرة إسرائيلية تابعة لشركة "إل عال" وهي في طريقها من روما إلى تل أبيب، حيث أُجبِر الطيَّارون على التوجه إلى الجزائر مع أكثر من 100 راكب.
على مدار السنوات التالية، تتابعت صفقات تبادل الأسرى مختلفة الحجم وصولا إلى العام 2011، الذي شهد صفقة تبادل كبيرة بين إسرائيل وحركة حماس عُرفت باسم صفقة "شاليط"، التي أُطلِق فيها سراح 1027 أسيرا فلسطينيا مقابل رقيب واحد في سلاح المُدرَّعات الإسرائيلية، وما تزال ذاكرة الملايين تحتفظ بمشاهد قوافل مصلحة السجون الإسرائيلية ممتلئة بمئات الأسرى الفلسطينيين الذين نُقلوا إلى مواقع في الضفة الغربية وعلى الحدود الإسرائيلية-المصرية، فيما نُقِل الأسير الإسرائيلي "جلعاد شاليط"، الذي اعتقلته المقاومة الفلسطينية عام 2006، إلى قاعدة عسكرية إسرائيلية على الحدود المصرية، ومنها إلى قاعدة جوية في دولة الاحتلال. وقد كان الأمر بمثابة ملحمة طويلة ومؤلمة، فعلى مدار 5 سنوات، هي مدة احتجازه في غزة، عانى سكان القطاع من حصار اقتصادي شديد وعدوان عسكري متكرر بغية تحريره، فيما بذل القادة الإسرائيليون جهودا مُضنية لأجل إعادته، ولم تجد إسرائيل مفرا من الخضوع لصفقة تبادل كبيرة بعد عجزها عن تحرير الجندي المُحتجَز على بعد كيلومترات قليلة من حدودها بعملية عسكرية.
على صعيد صفقات التبادل مع الدول العربية، أُبرِمَت 26 صفقة تبادل عربية مع الاحتلال، بدأتها مصر عام 1949، ثم سوريا ولبنان والأردن، واستطاع جميعهم الإفراج عن آلاف الأسرى. وقد أخذ حزب الله نصيبا مُعتبَرا من تلك الصفقات، ففي عام 2008 أُطلق سراح 5 مُسلَّحين مقابل جثتي جنديَّين إسرائيليَّين احتجزهما الحزب، وفي عام 2004 أطلَق الاحتلال سراح نحو 400 أسير مقابل عقيد سابق في الجيش الإسرائيلي مع جثث 3 جنود، ثم أتت "عملية الوعد الصادق" الشهيرة عام 2006 لتصبح من أهم العمليات التي أفضت إلى صفقة تبادل عام 2008، إذ هاجم عناصر الحزب دورية عسكرية إسرائيلية وأسروا جنديَّين بهدف مبادلتهما بأسرى محتجزين، أبرزهم القيادي الراحل في الحزب "سمير القنطار".
نحو صفقة التبادل الجديدة.. إسرائيل تحت الضغط
في مساء ليلة 11 أكتوبر/تشرين الأول 2011، استهل رئيس الوزراء الإسرائيلي القديم الجديد "بنيامين نتنياهو" جلسة مجلس الوزراء في حكومته آنذاك، فصرَّح أن صفقة تبادل أسرى قد أُبرِمت لأن "نافذة الفرصة" كادت أن تغلق في وجه تل أبيب. وقد أشار نتنياهو بوضوح إلى الانتخابات المصرية المقبلة التي توقَّع كثيرون أن تأتي بالإخوان المسلمين إلى سدة الحكم في مصر (كما حدث بالفعل عام 2012). علاوة على ذلك، ثمَّة عوامل أخرى دفعت نتنياهو للتفكير في إبرام صفقة شاليط، منها التوترات الثنائية الناجمة عن الوضع الأمني في سيناء، وهجوم المتظاهرين المصريين على السفارة الإسرائيلية في القاهرة عام 2012 إبَّان أحداث الثورة المصرية، وهي جميعها عوامل أوحت له بأن اللحظة المواتية لن تأتي بعد 2011 أبدا.
الآن تعود الظروف السياسية لتلقي بظلالها على ملف الأسرى الأربعة الذين تحتجزهم حماس في غزة، لكن يبدو أن المقاومة الفلسطينية اليوم هي من تأخذ بزمام المبادرة لتحريك الملف وتأمين اتفاق لتبادل الأسرى، وذلك باستغلال الظروف القائمة في إسرائيل، حيث تشهد السياسة الإسرائيلية تغيُّرات وتحوُّلات في الوقت الحالي بصعود حكومة جديدة، ومن ثمَّ ترى غزة الآن على وقع الوضع السياسي المضطرب في تل أبيب أن الوقت مواتٍ لها لوضع هذا الملف على طاولة الحكومة اليمينية الجديدة، وتصدير الضغوط إليها في وقت مبكر.
على مدار العام الماضي، تحدثت وسائل إعلام عدة عن أن النقاشات السرية جارية في هذا الملف، الذي تملك فيه كتائب القسام التابعة لحماس القولَ الفصل، حتى قيل إن الوسطاء المصريين تلقوا ضمانات رسمية وواضحة من حماس وإسرائيل بأن الطرفين ملتزمان بالخطوط العريضة للصفقة ولم يتبقَّ سوى التفاهم على تفاصيل الزمان والمكان والأمور اللوجستية الأخرى. وقد حدثت أيضا تطورات في سبتمبر/أيلول 2021، حين اقترحت حماس ما وصفته بـ"خارطة طريق" للتوصل إلى صفقة تبادل، وجاء في البنود المقترحة أن يُطلَق سراح عدد غير محدد من السجناء، وبخاصة كبار السن والنساء والمراهقون والمرضى، مقابل حصول تل أبيب على معلومات عن حالة الإسرائيليين المحتجزين لدى الحركة.
في هذا السياق، يقول الباحث الفلسطيني "أسامة معين مرتجى" في حديث مع "ميدان" إن إثارة الرأي العام الإسرائيلي مهمة في تحريك صفقة تبادل جديدة، إذ إن والدَي الأسيرين "شاؤول آرون" و"جولدن" يلعبان دورا في الضغط على الحكومة وصناع القرار الإسرائيليين. ودعا "مرتجى" إلى تشكيل لجنة وطنية إعلامية موجَّهة إلى الشارع الإسرائيلي تُروّج صورة مفادها أن تل أبيب تتجاهل الأسرى الإسرائيليين.
بالإضافة إلى ما سبق، اقترح "مرتجى" أيضا تشكيل لجنة وطنية من كل الفصائل الفلسطينية تعمل على إدارة ملف الأسرى لتجنُّب الأخطاء التي رافقت صفقة شاليط، مشيرا إلى أهمية وجود وسيط دولي (أو أكثر) يضغط على دولة الاحتلال، كما حدث في صفقة "أحمد جبريل"، حيث ضمن الوسيط الأوروبي في تلك الصفقة عدم إعادة اعتقال أي من الأسرى الفلسطينيين الذين تحرروا.
الأسرى في قلب الصراع العربي-الإسرائيلي
في العشرين من مايو/أيار 1985، تمَّت أدق عملية تبادل أسرى شهدها الصراع العربي الإسرائيلي، حيث جرى تبادل أسرى فلسطينيين ولبنانيين وإسرائيليين في 3 مواقع مرة واحدة ووفقا للشروط الفلسطينية، ليبلغ مجموع عدد الأسرى الذين أُطلق سراحهم 1150 معتقلا مقابل إطلاق المقاومة الفلسطينية سراح 3 جنود إسرائيليين، وذلك بإشراف هيئة الصليب الأحمر الدولي وبوساطة نمساوية.
سُميَت العملية "بعملية الجليل"، وما تزال حتى يومنا هذا من أكثر العمليات زخما في تفاصيلها وتبعاتها، إذ أصر الفلسطينيون فيها على إطلاق سراح الأسير الياباني "كوز كوموتو"، الذي نفَّذ عملية مطار اللُّد البطولية عام 1972، بعد أن عرضت إسرائيل على قيادة الجبهة الشعبية إخراج 200 أسير فلسطيني مقابل الإبقاء عليه. كما أدت كل من سوريا وليبيا دورا أساسيا في الصفقة، حيث احتُجِز الأسرى في سوريا تحت إشراف الجبهة الشعبية، فيما قدمت ليبيا الخدمات اللوجستية ووفَّرت الطائرات التي نقلت الأسرى المُحرَّرين من مطار بسويسرا إلى ليبيا، كما استضافت طرابلس اللبنانية الأسرى المُحرَّرين. ويمكن القول إن العملية كانت باكورة عملية إشراك حقيقي لقيادة الأسرى داخل السجون الإسرائيلية في إدارة المفاوضات عبر مسؤول معتقلي الجبهة "حافظ الدلقموني".
على أرض الواقع، شجع الزخم المرتبط بالصفقة الشباب على الانخراط في العمل النضالي والتحوُّل من الدفاع إلى الهجوم؛ ما هيَّأ الظروف الذاتية لإشعال الانتفاضة. بل، وكما قال الإسرائيليون أنفسهم، إن صفقة الجليل كانت السبب الأساسي في تحريك انتفاضة الحجارة الأولى عام 1987. وقد استعانت جميع التنظيمات في تلك الانتفاضة بالأسرى الذين أُفرج عنهم في صفقة 1985، الذين كان لهم دور كبير في قيادة مجريات الانتفاضة الأولى.
يؤكد "سعيد بشارات"، رئيس تحرير شبكة الهدهد للشؤون الإسرائيلية، أن صفقات تبادل الأسرى من أهم أدوات النضال الفلسطيني ضد الاحتلال، وهي بمثابة صفقات تظهر ضعف الاحتلال الإسرائيلي والقدرة على ابتزازه عبر نقطة ضعفه (ومنها العنصر البشري)، والخروج بإنجاز فلسطيني يؤثر على المعنويات الفلسطينية إيجابيا. ويضيف "بشارات" في حديثه مع "ميدان" إن "أهمية هذه الصفقات تكمُن في تجديد روح للنضال الوطني الفلسطيني، وإعطاء دفعة لتطوير المقاومة الفلسطينية، فضلا عن أهميتها في إنقاذ حياة المقاومين، كما أنها تُشكِّل انتصارا معنويا وسياسيا وأمنيا على الاحتلال الإسرائيلي"، ضاربا مثلا بصفقة شاليط المُسمَّاة "وفاء الأحرار"، التي يعتبرها أضخم الصفقات بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، بالنظر إلى أنها جاءت في توقيت غير مناسب للاحتلال: "لقد مثَّلت صفقة شاليط بداية مرحلة جديدة في النضال الفلسطيني، فقد كانت الصفقة مؤلمة للاحتلال وبُنِيت عليها الآن مُماطلة الاحتلال في تنفيذ صفقة جديدة، حيث يجري تأخير هذه الصفقة الآن لتفادي ما تعتبره إسرائيل إذلالا وإهانة لها في الصفقة السابقة".
في المحصلة، يبدو أن الاحتلال بات متشددا بشأن الصفقة المتوقعة، المُسمَّاة "وفاء الأحرار 2″، بسبب النتائج السياسية المرتبطة بالصفقة الأولى. ولكن في ظل الموقف الضعيف لتل أبيب المُطالَبة بالعمل للإفراج عن أسراها بأي ثمن أمام الرأي العام الإسرائيلي، تجد المقاومة نفسها اليوم أمام سلاح قوي في مواجهة الاحتلال وسياساته إلى جانب صواريخها ومقاتليها، وهو سلاح تستطيع استخدامه باستمرار للضغط، كما أن الرد على عمليات الأسر بالعمليات العسكرية الإسرائيلية، الذي ثبت فشله في تحرير شاليط، يشجع المقاومة على استخدام هذا السلاح وتكثيف الضغط على الاحتلال؛ ما يزيد من فُرَص إطلاق الأسرى المهمين، الذين يكون بعضهم أحيانا محوريا لقيادة المقاومة والعمل السياسي، مثل "يحيى السنوار" الذي أُطلق سراحه في صفقة شاليط عام 2011، ويقود اليوم دفة حركة حماس في قطاع غزة على مرأى الاحتلال ومسمعه.