"اذهبوا إلى الجحيم فهو آمن".. لماذا يريد الأسد عودة اللاجئين؟

"إن احتضان عدد من الدول للاجئين انطلاقا من مبادئ إنسانية أخلاقية، يقابله استغلالهم من بعض الدول عبر تحويل قضيتهم الإنسانية إلى ورقة سياسية للمساومة. وبدلا من العمل من أجل تهيئة الظروف المناسبة لعودتهم، فرضوا عليهم البقاء في تلك الدول عبر الإغراء حينا والتخويف أحيانا أخرى".

(بشَّار الأسد، من خطابه بمؤتمر عودة اللاجئين نوفمبر/تشرين الثاني 2020)

لم تكن القنابل التي قصفت السوريين عقب ثورتهم على نظام الأسد سوى بداية عهدهم بالعذاب والمعاناة، بعدما فرَّ الملايين نحو الشتات والمجهول بلا رجعة بعد أن استفحلت الحرب الأهلية، وفي حين نجح بعض هؤلاء في الوصول إلى برِّ الأمان في دولة عربية أو غربية، عجز الباقون عن إيجاد موطئ قدم آمن فبقوا مُشرَّدين، ولذا ما كان من بعض هؤلاء إلا اختيار العودة طوعا إلى أحضان نظام الأسد، فيما جُرَّ آخرون إلى مقاصل الوطن مُكرَهين.

"كريم"، أحد الذين عادوا إلى سوريا ونشرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" قصصهم، شاب سوري يبلغ من العمر 26 عاما ينحدر من منطقة "درعا". عمل "كريم" بالأردن قبل أن يُقرِّر العودة إلى سوريا بسبب ضيق المعيشة وقلة فرص العمل، ورغم أنه حصل على تصريح أمني يؤكِّد أنه ليس على قائمة المطلوبين، فإنه دخل دوَّامة معتقلات الأسد لأشهر بعد عودته. وقد أُلقي القبض على كريم لأنه أرسل المال من الأردن لإعالة أسرته، دون أن يعرف أن مدير مكتب الصرافة الذي استقبل المال تحوَّل إلى عضو في الفرقة الرابعة التابعة لجيش النظام، ومن ثمَّ قدَّم بدوره أسماء جميع الأشخاص الذين أرسلوا أموالا إلى درعا من الأردن باعتبارهم مطلوبين، فاتُّهِم "كريم" بإرسال المال لدعم الإرهاب. حاولت أسرة كريم الوصول إلى ابنها المختفي قسريا، وبعد مفاوضات مُرهِقة وتدبير 8000 دولار رشوة لمسؤول سوري رفيع في مارس/آذار الماضي، جاء الرد صاعقا: "لقد توفي كريم أثناء احتجازه لدى فرع المخابرات العسكرية رقم 235 بدمشق، الذي يُدعَى للمفارقة ’فرع فلسطين‘".

إعلان

اذهبوا إلى الجحيم فهو آمن

تُعَدُّ الدنمارك أول بلد أوروبي يطالب السوريين بالعودة إلى بلدهم، صحيح أن عمليات طرد اللاجئين لم تبدأ فعلا لأسباب متعددة أهمها عدم وجود علاقات دبلوماسية بين الدنمارك ونظام الأسد، لكن السلطات المحلية تبذل كل وسعها لإيجاد حلول بديلة تساعدها على طرد اللاجئين السوريين وإعادتهم إلى بلدهم. وقد بدأت الحكومة الدنماركية عام 2019 وقف تجديد طلبات اللجوء لعدد من الأُسَر السورية بذريعة توقُّف العنف في بعض مناطق سوريا، إثر استتباب الأمر لنظام الأسد الذي تمكَّن من استعادة السيطرة على جزء كبير من البلاد بدعم روسي-إيراني. واستندت الخطوة إلى التقرير الذي عملت عليه دائرة الهجرة المحلية بالشراكة مع منظمة مجلس اللاجئين الدنماركية الناشطة في حقوق الإنسان والمُموَّلة حكوميا.

بدأت تحديات الدنمارك في مجال استقبال اللاجئين السوريين سنة 2015، واعتمدت حينها البلاد قانون حماية الأشخاص الذين يفرّون من العنف، وفُصِّل القانون بطريقة حدَّت من عدد المقبولين؛ فمن أصل 35 ألف شخص تمكَّن 4700 فقط من الحصول على الحماية المؤقتة التي تنتهي بمجرد تغيُّر الأوضاع الداخلية في سوريا. وهذا ما حدث بالفعل بعد سنوات ثلاث، إذ تبدَّلت الأوضاع بعد أن تمكَّن النظام السوري من السيطرة على مناطق شاسعة في البلاد. ولم تُكذِّب الحكومة الدنماركية خبرا حينئذ، فدعت عبر دائرة الهجرة المحلية مجلس اللاجئين الدنماركي إلى سفر عاجل إلى دمشق في مارس/آذار 2018 كي يدرس الوضع الجديد، لكن الرحلة لم تأتِ بما اشتهت سفن الحكومة الدنماركية، إذ كانت المعارك لا تزال دائرة في ريف دمشق، ولم يكن الأسد قد سيطر على المنطقة تماما.

بعد شهرين، أعلن النظام السوري السيطرة على كامل دمشق وريفها ومحيطها لأول مرة منذ عام 2011، هو ما تلاه مباشرة طلبٌ من الحكومة الدنماركية بإعادة تقييم الوضع في أسرع وقت، ومن ثمَّ جاء تنظيم سفر ثانٍ في نوفمبر/تشرين الثاني من أجل إعداد تقرير جديد عن الوضع الأمني في العاصمة السورية وضواحيها. ولم يستغرق الأمر طويلا، إذ خرجت "إنغر ستويبِرغ"، وزيرة الهجرة الدنماركية، لإعلان الخبر السار لبلادها حين قالت: "أنا سعيدة بأن أوضاع بعض المناطق في سوريا شهدت تحسُّنا واضحا، وحينما تنتفي ضرورة توفير الحماية، تجِب العودة إلى المنزل والمشاركة في بناء الوطن".

إعلان

بعد أسبوع على نشر التقرير الجديد، أعلنت دائرة الهجرة الدنماركية أنها ستبدأ في رفض تمديد رُخَص الإقامة للاجئين المُنحدرين من دمشق، وبتوالي هذا النوع من القرارات التي استهدفت اللاجئين السوريين، خرجت منظمة مجلس اللاجئين الدنماركية عن صمتها بعد اتهامها بتنفيذ أجندات سياسية لصالح الحكومة، فقالت المنظمة إنها وإن كانت تعرف الطريقة التي تستغل من خلالها الحكومة تقاريرها، فإنها لم تكن لتمتنع عن المشاركة في عمل يتقاطع مع مجال نشاطها. وقد علَّقت "إيفا سينغر"، رئيسة قسم اللجوء بالمنظمة، على هذه الاتهامات قائلة إن المشاركة في التقرير جاءت "سعيا لتقليل كمِّ المعلومات غير الدقيقة التي كان سيتضمَّنها التقرير".

على كل حال، فتحت هذه الخطوة الدنماركية الباب أمام التكهُّنات حول إقدام دول أخرى على الخطوة نفسها بإعلان بعض المناطق السورية مناطقَ آمنة ثم طرد اللاجئين القادمين منها. وقد اتجهت الأنظار بطبيعة الحال إلى الدول المجاورة للدنمارك، مثل النرويج التي تحتضن 31 ألف لاجئ سوري، لكنها تحافظ حتى الآن على توجُّهها بعدم إعادة المستجيرين بها، كما سبق وصرَّح بذلك "يان إغِلاند"، الأمين العام للمجلس النرويجي للاجئين. وفي حين أتى موقف النرويج على النقيض من موقف الدنمارك، فإن السويد تشارك الأخيرة موقفها ولو جزئيا، حيث أعلنت ستوكهولم عام 2019 عن خلوِّ بعض المناطق السورية من العنف، ما استتبع توقُّف القبول التلقائي لطلبات اللجوء للمنحدرين من هذه المناطق. ورغم أن السويد لم تبدأ خطوات فعلية للتخلُّص من السوريين على أراضيها، فإن حزب "ديمقراطيُّو السويد" اليميني المتطرف قال إن إعادة اللاجئين إلى بلدانهم إحدى أولويات برنامجه الانتخابي، وذلك على بُعد أشهر قليلة من الانتخابات التشريعية، مما يبُث جوًّا من الخوف والترقُّب وسط اللاجئين الفارِّين من نيران الحرب.

إعلان

لا نريد فلسطينيين جُددا

بعد اندلاع الثورة السورية ثم الحرب، خرج السوريون إلى عشرات البلدان حول العالم، بيد أن الدول المجاورة لسوريا، مثل تركيا ولبنان والأردن والعراق ومصر، استضافت بطبيعة الحال العدد الأكبر منهم. ورغم أن تركيا تستضيف أكبر عدد من اللاجئين السوريين، فإن لبنان والأردن يضُمَّان نسبة اللاجئين الأكبر عالميا بالمقارنة مع تعداد السكان المحلي للبلدين، إذ تُشير أرقام مفوضية اللاجئين إلى أن لبنان يستضيف نحو 900 ألف لاجئ سوري، فيما تُقدِّر الحكومة أن هناك نصف مليون لاجئ يعيشون في البلاد بصورة غير رسمية، ومن جهته يستضيف الأردن 650 ألف لاجئ سوري مُسجَّل.

في البداية، فتح البلدان أبوابهما أمام السوريين الفارِّين من الحرب، واعتمدوا سياسة الحدود المفتوحة للجميع (واستُثِني من هذه السياسة الفلسطينيون الذين كانوا يعيشون في سوريا وفرُّوا منها عقب الحرب). لكن مع مطلع عام 2014، اتجهت سياسات عدد من الدول العربية نحو تقييد سياسة الباب المفتوح أمام اللجوء السوري، فلم يتحمَّل لبنان طويلا حضور السوريين لأسباب عديدة، منها المشكلات الاقتصادية وارتفاع نِسَب البطالة إلى جانب التركيبة الطائفية الحسَّاسة في لبنان، لا سيما وهي تركيبة مرتبطة سياسيا بمسار الحرب السورية. وترفض السلطات اللبنانية (غير الموقِّعة على اتفاقية اللاجئين لسنة 1951) وصف السوريين باللاجئين، بل تُفضِّل نعتهم بـ"النازحين"، كما أنها لا تمتلك سياسة موحَّدة للتعامل مع جيرانها السوريين، ومن ثمَّ لا تملك السلطات المحلية حرية اعتماد أيِّ سياسات لإدارة هذا الملف. وفي المقابل، ظهرت الكثير من اللوائح القسرية التي عرقلت اندماج السوريين، وجعلتهم يفكرون في أن العودة إلى سوريا قد تكون أقل سوءا.

في مايو/أيار 2019، بدأت عمليات التضييق على السوريين تتخذ أشكالا أكثر رسمية، إذ أعلن المجلس الأعلى للدفاع، أعلى هيئة تنسيق أمني في لبنان، إجراءات تهدف إلى الضغط على السوريين كي يعودوا طواعية إلى بلادهم، وزادت جائحة كورونا الوضعَ تأزُّما بعد أن فرضت 21 بلدية لبنانية قيودا تمييزية على اللاجئين السوريين، حسب ما أورده تقرير "هيومن رايتس ووتش". وقد حاولت الحكومة اللبنانية الالتزام علنا بمبدأ عدم إعادة اللاجئين قسريا، لكن المجلس الأعلى للدفاع أعلن في مايو/أيار 2019 أن جميع السوريين الذين دخلوا لبنان بطريقة غير نظامية بعد إبريل/نيسان 2019 سيُرَحَّلون بتسليمهم مباشرة إلى السلطات السورية. وأعادت السلطات اللبنانية بالفعل 6345 سوريًّا منذ ذلك الإعلان وحتى سبتمبر/أيلول 2021. ثمَّ أصدرت الحكومة اللبنانية في يوليو/تموز 2020 "خطة عودة" أعلنت فيها أن أجزاء من سوريا باتت آمنة، وأن عودة اللاجئين قد آن أوانها. هذا وحضرت الحكومة اللبنانية مؤتمر "عودة اللاجئين" الذي نظَّمه نظام الأسد بدعم روسي في دمشق نهاية عام 2020.

إعلان

العودة إلى الموت

بسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والصحية الصعبة، والأجواء الطاردة في العديد من البلدان المستضيفة، صارت العودة إلى سوريا حلًّا وحيدا للعديد من اللاجئين، فقد عاد طيلة الأعوام الخمسة الماضية أكثر من رُبع مليون سوري من مصر والعراق والأردن ولبنان وتركيا بمبادرتهم الشخصية، ما يُسمَّى بالعودة التلقائية. ويُمكِن للسوريين العودة إلى بلادهم عبر ثلاث طرق رسمية، أولها العودة الفردية خلال المعابر الحدودية البرية أو المطارات، وثانيها العودة الجماعية عبر عمليات الإعادة التي يُنظِّمها الأمن العام السوري، أما سوريِّو لبنان فأمامهم خيار ثالث هو العودة عبر العمليات التي يُشرِف عليها حزب الله بالتنسيق مع الأمن السوري.

تحاول الدول التي ضاقت ذرعا بالسوريين -كما هو الحال في لبنان- إقناع اللاجئين بعدم وجود أي خطورة في العودة إلى سوريا، فقد بدأ الأمن اللبناني عام 2018 العمل من أجل توفير التصاريح الأمنية من السلطات السورية لأي لاجئ أبدى رغبته في العودة، وصدَّق الكثير من اللاجئين هذا الأمر، وأعربوا عن استعدادهم للعودة بالفعل، بيد أن العديد من التقارير الحقوقية أثبتت أن عددا من الذين حصلوا على تصاريح أمنية سرعان ما تعرَّضوا للاعتقال لأشهر ذاقوا فيها التعذيب الوحشي، بل وأكَّدت مصادر حقوقية أن أجهزة الأمن السورية تتعمَّد إصدار تصريحات أمنية للمطلوبين من أجل اعتقالهم.

تبدأ رحلة العائدين في الغالب بالاعتقال والاحتجاز بمجرد الوصول إلى نقاط التفتيش الواقعة تحت سيطرة الفصائل العسكرية والأجهزة الأمنية الموالية للأسد، من قبيل الفرقة الرابعة، وفرقة النُّخبة في القوات السورية التي يقودها "ماهر الأسد" شقيق رئيس النظام، والمخابرات الجوية. ويُسعِف الحظ أحيانا بعض العائدين، فلا يدخلون إلى الأقبية المُظلمة التي تعجُّ بها سوريا، غير أن بعضهم يؤخذ في الأخير إلى أحد المقرَّات الأمنية كإجراء روتيني قد ينتهي بالاختفاء لأشهر طويلة، وهي أشهر قد تنتهي بالموت والتخلُّص من الجثث في المقابر الجماعية التي يُدفَن فيها المعتقلون.

إعلان

أفاد تقرير لمنظمة العفو الدولية "أمنستي" أن عناصر المخابرات السورية أخضعوا الرجال والنساء والأطفال للاحتجاز غير القانوني، وجاء ذلك نتيجة مباشرة للظن بأنهم ينتمون إلى المعارضة كونهم تركوا البلاد في وقت سابق وفضَّلوا الإقامة ببلدان أخرى مناوئة في مُعظمِها لنظام الأسد. وقد وثَّقت "أمنستي" 66 حالة انتهاك جسيمة ضمَّت 13 حالة لأطفال تتراوح أعمارهم بين 3 أسابيع و17 سنة. كما وثَّقت المنظمة الحقوقية حالات اعتداء جنسي تعرَّض لها أطفال ونساء ورجال، من بينها اغتصاب أطفال تتراوح أعمارهم بين 5-13 سنة، إذ نُقِل عن فتاة سورية تُدعَى "آلاء" قصة الاعتداء عليها جنسيا ووصفها بألفاظ بذيئة واتهامها بالتجسُّس لصالح تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".

النظام السوري المستفيد الأوحد

قد وضع النظام السوري بروتوكولا للعودة سمَّاه "نظام المصالحة"، ونصَّ على أن الراغبين في العودة إلى سوريا، وخصوصا المعارضين أو القادمين من مناطق مناوِئة للأسد، يجب أن يوقِّعوا "وثيقة مصالحة".

لا يتردَّد "بشار الأسد" في دعوة السوريين إلى العودة إلى "أحضان الوطن" بالترهيب تارة والترغيب تارة أخرى، ويعلم النظام في دمشق تمام العِلم أن الطريق الطويل لحيازة الشرعية الدولية واستعادة الاعتراف الدولي بنظام الأسد مُمثِّلا وحيدا للدولة السورية قد تختصره إعادة إعمار البلاد وجمع ما تبقى من الشعب المُهجَّر من أجل تكوين قاعدة اجتماعية وشعبية مُعتبَرة من حيث العدد، على أن تكون فعليا قاعدة مِطواعة أنهكها التشريد واللجوء، فيسهُل حكمها في نهاية المطاف بعد أكثر من عقد على اندلاع الثورة السورية والحرب الأهلية التي تلتها.

وقد وضع النظام السوري بروتوكولا للعودة سمَّاه "نظام المصالحة"، ونصَّ على أن الراغبين في العودة إلى سوريا، وخصوصا المعارضين أو القادمين من مناطق مناوِئة للأسد، يجب أن يوقِّعوا "وثيقة مصالحة". وتبدأ العملية عبر فحص ملف الشخص الراغب بالمصالحة وتتبُّع الأنشطة التي انخرط فيها، سواء أنشطة إنسانية أو عسكرية. واقتصرت المصالحة في البداية على أولئك الذين تركوا البلاد بطريقة "غير قانونية"، لكن بمرور الوقت، شرع النظام يطلب "المصالحة" من الجميع، حتى يتسنَّى له جمع أكبر كمٍّ مُمكِن من المعلومات عن جميع الفارِّين من سوريا طيلة العقد الماضي. وتختلف المصالحة عن التصريح الأمني، الذي يدفع فيه اللاجئ مبلغا ماليا لوسيط ما بينه وبين النظام، ويتعهَّد فيه هذا الوسيط بحمايته وإخراجه إذا ما زُجَّ به إلى مسالخ التعذيب السورية. لكن التصريح الأمني يبقى غيرَ آمن، لأن الكشف الأولي أحيانا ما يتمُّ لدى جهاز أمني مُعيَّن، في حين يُعتَقل صاحب التصريح من طرف جهاز أمني آخر.

إعلان

 

في حال تمكَّن اللاجئ من تجاوز تلك العقبات كافة، فإن التجنيد يظل كابوسا قائما يتصيَّد الشباب السوري، وبالأخص بعد أن استنزفت الحرب رجال جيش النظام. فمن بين الملايين الذين يعيشون في سوريا، هناك آلاف من الشباب لم يؤدُّوا الخدمة العسكرية، وقد رفض بعضهم التجنيد لتجنُّب التورُّط في جرائم النظام، مثل الاعتقال التعسُّفي والتعذيب والقصف العشوائي. ويحاول بعض الشباب السوري استخدام ورقة التهرُّب من التجنيد الإجباري من أجل الحصول على حق اللجوء في الخارج، رغم أن الهروب من التجنيد لا يُعَدُّ سببا كافيا للحصول على حماية دولة أخرى إلا إن كان جزءا من موقف سياسي أو أخلاقي. هذا ويؤكِّد النظام السوري حاليا العفو عن المتهرِّبين من التجنيد، لكن تقارير عديدة وثَّقت أن نسبة من العائدين وجدوا أنفسهم على قوائم التجنيد بعد أيام معدودات من الرجوع إلى سوريا.

ذكرت "هيومن رايتس ووتش" الكثير من القصص لأُسَر خاضت معاناة التجنيد، منها قصة الشابة "منى"، التي اضطرت للعودة رفقة زوجها إلى سوريا بسبب إصابة ابنتهما بالسرطان وعجزهما عن توفير تكلفة العملية في لبنان. وكان الزوج قد تهرَّب من التجنيد في وقت سابق، وبعد عودة الأسرة إلى سوريا، جاءت المخابرات العسكرية لاعتقال الزوج، فسُجِن 9 أشهر كاملة. وقد تعرَّض زوج منى للتعذيب والتجويع ومنعه من الاستحمام واستخدام الحمام أكثر من مرة واحدة في اليوم، قبل أن يُبرِم المصالحة ويلتحق بالجيش، رافضا الحديث عن الأمر خوفا من ردة فعل السلطات العسكرية.

على طريق النجاة الطويل الذي لا يصل إليه كثيرون، تكمُن إحدى الصعاب الأساسية التي يعيشها اللاجئ السوري العائد في فقدان منزله، الذي وإن أخطأته القنابل، فلم تخطئه أيادي النظام التي استحوذت على كل شيء في البلاد باعتباره ملكا لعائلة الأسد ومؤيديها. فقد سنَّت الحكومة السورية العديد من القوانين والسياسات لمصادرة المُمتلكات الخاصة دون تقديم أي تسويغات قانونية أو تعويضات لأصحابها، ومن أشهر هذه القوانين قانون 10 لعام 2018، الذي منح الحكومة الحق في مصادرة المُمتلكات وتطويرها، علاوة على قانون مكافحة الإرهاب لعام 2012 الذي خوَّل النظام سلطة الاستيلاء على أصول العائلات المغضوب عليها بدعوى دعمها للإرهاب. هذا وعرفت سوريا صدور أكثر من 40 قانونا ذا علاقة بالسكن والأرض والمُمتلكات منذ عام 2011، ولذا بات اللاجئون اليوم أمام خيار تضرُّر منازلهم كليا أو جزئيا، أو ذهابهم إلى النظام الذي سيُطالِب بالكثير من أجل إعادة العقارات إلى أصحابها الذين فرُّوا منها.

إعلان

إلى جانب السكن، هنالك الأزمة الاقتصادية التي يواجِهُها العائدون إن أسعفهم الحظ ولم يُلقَ بهم في المعتقلات. وقد ذكر تقرير للمجلس النرويجي للاجئين في مارس/آذار 2021 أن 20% من النازحين السوريين يرون في تدهور الاقتصاد عاملا رئيسيا من عوامل هروبهم من سوريا، حيث وصل الحال ببعض العائدين إلى العجز الكامل عن توفير رغيف الخبز بسبب مشكلة القمح. هذا وقدَّرت "منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة" (الفاو) وبرنامج الأغذية العالمي أن 46% من الأُسَر السورية لا تجد طريقا تضمن به حصول أطفالها على حصص متوازنة من الطعام إلا بتقليل حصة غذائها اليومية.

تعيش الأُسَر السورية إذن كابوسا مُظلِما رغم هروبها من الحرب المُدمِّرة، إذ إنها تواجه اليوم مخاوف جديدة من ترحيلها قسريا إلى سوريا تحت ذريعة سيطرة النظام على عدد من المناطق واستتباب الأمن جزئيا فيها، وهو العذر الذي تتحجَّج به بعض الدول الغربية والعربية لطرد السوريين، الذين يعتبر الكثيرون منهم أيَّ عودة إلى أحضان "الأسد" تذكرة نحو الموت في الأقبية السورية سيئة السمعة، أو على الأقل تذكرة نحو الموت البطيء بسبب الجوع والفقر في عالم القهر والعُنف والضنك والمرض الذي بات يُسمَّى اليوم في بعض العواصم الغربية "سوريا الآمنة".

المصدر : الجزيرة

إعلان