شعار قسم ميدان

غاز إسرائيل إلى أوروبا.. مصر تربح ورقة جديدة في شرق المتوسط

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة التي بدأت مع انهيار الاتحاد السوفيتي، سعى حلف شمال الأطلسي (الناتو) للتوسُّع في شرق أوروبا مستفيدا من تآكُل السلطان الروسي. بيد أن روسيا بوتين سرعان ما استشعرت الخطر، وشرعت تُخطِّط لاستعادة ما خسرته، وفي غضون ذلك، دأبت موسكو على توسيع مجالات نفوذها وتأثيرها داخل أوروبا واقتصاداتها، لا سيما في مجال الطاقة، وتحديدا الغاز الطبيعي. ولذا، وجدت أوروبا نفسها مرتبكة قليلا في ساحة الحرب الأوكرانية الأخيرة، فرغم الدعم الحازم من دول القارة الكُبرى للأوكرانيين، لا تزال الأصوات المُعارضة لمقاطعة روسيا حاضرة في أروقة بروكسل، ولا تزال حصة الغاز الروسية البالغة 40% من احتياجات أوروبا في انتظار مَن يتولَّى تعويضها بشكل مضمون ومُستدام.

قبل أن تندفع روسيا إلى أوكرانيا، فطنت واشنطن إلى خطر هيمنة الغاز الروسي، وسعت إلى إيجاد بدائل له، وكان أحدها إعادة تسعير الغاز الأميركي لجعله أكثر تنافسية مع نظيره الروسي، وتوقيع عقود مع أذربيجان الغنية بالغاز والقريبة من أوروبا، وتشكيل جسر جديد آمن لنقل الغاز دون أن يصبح وسيلة مستقبلية لابتزاز أوروبا. وفي القلب من تلك المعادلة، اتجهت الأنظار إلى شرق المتوسط الذي بات محورا لعاصفة جيوسياسية بين الدول المُطِلة عليه من ثلاث قارات، لا سيما بعد كشوفات الغاز المتتالية في قاعه على مدار العقدين الماضيين. وقد سعت جميع بلدان شرق المتوسط لأن تصبح ممرا أساسيا للطاقة، وبينما كانت القاهرة نظريا هي الأقل حظا في الظفر بمشروع ينقل الغاز في دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى أوروبا، مقابل حظوظ أكبر لتركيا واليونان الأقرب إلى إسرائيل وأوروبا معا، يبدو أن الاتحاد الأوروبي استقر أخيرا على مصر، وعلى تسييل الغاز بدلا من نقله بخطوط مُكلِفة؛ وهو اختيار مرتبط بدروس الحرب الأوكرانية، كما نستعرضها بهذا التقرير.

تركيا ومصر وإسرائيل.. حسابات القوة في شرق المتوسط

لأعوام طويلة، ظلَّت تركيا المرشَّح الأبرز للعب الدور الأكبر في عالم نقل الغاز إلى أوروبا بسبب موقعها الإستراتيجي الذي جعلها تتوسَّط الطريق بين روسيا وأذربيجان الغنيتين بالنفط والغاز، وبين أوروبا المُتعطِّشة للطاقة، ومن ثمَّ دشَّنت تركيا بالفعل خط "باكو-تبيليسي-جيهان" العقد الماضي عبر أذربيجان وجورجيا وتركيا ثم أوروبا. وقد تزايدت أهمية تركيا في سوق الطاقة بعدئذ، مما جعلها تحتضن عبر أراضيها المزيد من خطوط الأنابيب العابرة للحدود، وحين قلَّصت موسكو وارداتها من الغاز، وأعلنت أذربيجان أن لديها احتياطيا من الغاز الطبيعي يكفي جيرانها وأوروبا، ويُمكِن نقله بواسطة خط "ممر الغاز الجنوبي" المار عبر تركيا، تماشت اعتبارات الدول الكبرى مع مصالح أنقرة الإقليمية من أجل كسر هيمنة موسكو.

ورغم أن الموقف العام بدا في صالح تركيا على ساحة القوقاز، فإن الوضع في شرق المتوسط لم يسر كما اشتهت أنقرة، حيث أشعلت اكتشافات الغاز خلافات ترسيم الحدود البحرية، وتفاقم الصراع السياسي بين مصر وتركيا بعد عام 2013. وبعد تأسيس منتدى "غاز شرق المتوسط" أواخر عام 2020، بمشاركة سبع دول على رأسها مصر ودولة الاحتلال الإسرائيلي، الذي اعتبرته أنقرة تحالفا عدائيا يستهدف حقوقها البحرية ويستبعدها مستقبلا من مشهد الطاقة في شرق المتوسط؛ اتجهت تركيا نحو الخروج من "الكمَّاشة" الفعلية التي دشَّنها تحالف الغاز المصري-الإسرائيلي، واضعة موطئ قدم لها على سواحل غرب ليبيا عندما وقَّعت اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التركية-الليبية، ولذا حافظت على حضورها لا سيما بعد دعمها لحكومة الوفاق وصد هجوم حفتر على طرابلس قبل عامين.

استشعرت إسرائيل بدورها القلق من الاتفاقية التركية-الليبية، إذ قطعت الاتفاقية الطريق على أي أنبوب إسرائيلي يريد الوصول إلى أوروبا، وجعلته رهين موافقة البلدين. وبينما تأهَّبت مصر لتقديم الحلول عبر استقبال الغاز الإسرائيلي، ومن ثم إرساله عبر ناقلات إلى الموانئ الأوروبية، فإن دولة الاحتلال لم تُرحِّب بدخول مصر إلى هذا الملف باعتبارها واحدة من الدول "غير المضمونة على المدى البعيد" رغم العلاقات الجيدة في الوقت الراهن. ومن ثم استبعدت تل أبيب مصرَ من مشروع خط أنابيب شرق المتوسط "إيست ميد"، الذي ضمَّ قبرص واليونان، خوفا من تحوُّل القاهرة إلى مركز إقليمي، أو أن تصير المنفذ الرئيسي للغاز من المتوسط إلى أوروبا ثمَّ تتبدَّل أوضاعها السياسية بشكل مناقض لمصالح إسرائيل.

ورغم أن الخطة الإسرائيلية اقتضت إبعاد مصر وتركيا معا عن مشروع "إيست ميد" الذي أتاح نقل 11 مترا مُكعَّبا من الغاز سنويا، فإن تكاليف المشروع الإسرائيلي كانت لتكون أقل بكثير حال اتجهت الأنابيب إلى مدينة "مرسين" التركية التي تبعُد 120 كيلومترا فقط عن شواطئ فلسطين المحتلة، مقابل 1900 كم سيقطعها الخط في مياه عميقة وصولا إلى السواحل اليونانية، وهي اعتبارات دفعت الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" إلى فتح صفحة جديدة مع تل أبيب، وإبداء استعداده للتعاون مع إسرائيل لنقل الغاز الخاص بها إلى أوروبا، على اعتبار أن المصلحة الاقتصادية التي تريدها أنقرة، وستفيد تل أبيب في الوقت نفسه، يُمكِن تحقيقها بعيدا عن الملفات السياسية العالقة بسبب دعم تركيا لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" في قطاع غزة.

بيد أن إسرائيل أقبلت على الحل الصعب ومضت قُدُما في مشروع "إيست ميد" بتكلفة باهظة بلغت نحو ستة مليارات يورو، مقابل أن تبقى بمأمن عن تقلُّبات العلاقات مع تركيا أو مصر. وهُنا رحَّبت الولايات المتحدة بالمشروع قبل نشوب الحرب الروسية-الأوكرانية، لكنها سرعان ما عادت ورفعت يدها عنه تماما، ثمَّ أتى قرار بروكسل في الأخير واختيارها القاهرة لتصبح مركزا إقليميا لنقل الطاقة إليه.

لماذا القاهرة؟

قبل توقيع مصر والاتحاد الأوروبي وإسرائيل مذكرة التفاهم لتصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر مصر، اعتقدت تركيا بأن الغاز الإسرائيلي لن يسعه الوصول إلى شواطئ أوروبا إلا عبر أراضيها، وخاصة بعد عرقلة مشروع "إيست ميد" وإحياء الآمال مجددا بأن تحوز تركيا اتفاقا لمد أنابيب الغاز إلى أوروبا، لكن استبعاد تركيا جاء بالأساس لأن الاتحاد الأوروبي لم يكن مستعدا لتوريط نفسه من جديد في شبكة شبه احتكارية تعتمد على دولة واحدة من شأنها أن تتقلَّب في علاقاتها معه كما جرى مع موسكو. ولذا، فإن بروكسل ارتأت أن تركيا تتمتع بسطوة لا بأس بها على خطوط الغاز القادمة إليها من أذربيجان، والخطوط المُحتملة من إيران إذا ما أُبرِم معها اتفاق نووي جديد، وأن غاز المتوسط يجب أن يكون من نصيب طرف آخر لتنويع مصادر الإمداد.

بحسب تلك الحسابات، لم يكن بين الحلفاء خلاف كبير على الهدف، لكن الخلاف كان على الطريقة، بما في ذلك التوقيت، وبينما مضى الاتحاد الأوروبي في تنفيذ مشروع "إيست ميد" برؤية إسرائيلية تستبعد مصر وتركيا، فإن الرغبات الأميركية في الأخير عرقلت المشروع. فقد رأت واشنطن أن "إيست ميد" سيصير مصدرا رئيسيا للتوتر في شرق المتوسط، وفي أسوأ الظروف قد يدفع المشروع كلًّا من القاهرة وتركيا مستقبلا إلى إعادة رسم دورهما الإقليمي عبر اتفاقية ترسيم حدود بحرية، وربما التنسيق والتقارب إذا ما حُلَّت الخلافات السياسية بينهما، وهو سيناريو لا تُحبِّذ رؤيته في تلك المنطقة، لا سيما بالنظر إلى الوزن الثقيل لكلا البلدين.

في الوقت الذي تابعت فيه تركيا ومصر المشهد المتقلب، انقضَّت موسكو على أوكرانيا، مما دفع بالغرب إلى البحث عن تسوية سريعة في شرق المتوسط لتقليل مخاطر التهديدات التي يتعرَّض لها الاتحاد الأوروبي حال نفَّذت روسيا تهديدها بقطع إمدادات الغاز. إذن، لم يكن أمام واشنطن وبروكسل سوى التخلي عن "إيست ميد" الصعب وبعيد المنال، الذي خُطِّط له أن يدخل الخدمة عام 2025، وهو توقيت بعيد نسبيا لا يسع أوروبا أن تنتظر الوصول إليه في ظل مستقبل غامض حيال الشتاء القادم. علاوة على ذلك، فإن مسارات الأنابيب المُقترَحة تمر في مياه تعتبرها تركيا جزءا من المياه الاقتصادية الخاصة بها، وهو ما يضع حلفاء واشنطن في مواجهة واحتمالية تصعيد مع أنقرة، ناهيك بأن الجدوى الاقتصادية لـ"إيست ميد" تظل ضئيلة لأنه مُكلِّف وغير مُجْدٍ، كما صرَّحت وكيلة وزارة الخارجية الأميركية.

أمام فشل إسرائيل في تصدير الغاز بمفردها بسبب عقبات البنية التحتية، انتهت معركة شرق المتوسط بوضع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي رهاناتهما على القاهرة. وقد ساهم موقع مصر الجغرافي التفضيلي في الوصول إلى الاتفاق، مع امتلاكها بنية أساسية جاهزة غير مُكلفة لتسييل الغاز ونقله مُسالا دون الحاجة إلى أنابيب، وكذلك وجود خط الغاز القديم الواصل بينها وبين إسرائيل منذ عام 2008 لنقل الغاز الإسرائيلي إليها. أضف إلى ذلك أن محطتَيْ تسييل الغاز المصريَّتين في مدينتَيْ "إدكو" و"دمياط" تطلان على البحر مباشرة، وهو ما يُسهِّل نقل الغاز إلى أوروبا عبر المتوسط.

هل تستفيد مصر من حروب الغاز؟

وزير البترول والثروة المعدنية المصري طارق الملا (يجلس بالمنتصف) ووزيرة الطاقة الإسرائيلية كارين الحرار (تجلس يمينا) ومفوض الاتحاد الأوروبي للطاقة كادري سيمسون (تجلس يسارا) يوقعون مذكرة "التفاهم لتصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر مصر"، 15 يونيو 2022. (رويترز)

كانت أجواء توقيع الاتفاق الثلاثي الذي حضره الرئيس المصري "عبد الفتاح السيسي" مصحوبة بضجة دعائية كبيرة، زاد من صخبها إعلان رئيسة المفوضية الأوروبية توفير 100 مليون يورو معونة فورية للقاهرة كي تواجه أزمة الغذاء والأسعار، مع تمويل قيمته ثلاثة مليارات يورو لدعم مشروعات محلية؛ فيما بدا أنه مكافأة مقابل تأمين الغاز لأوروبا، بالتزامن مع قرار روسيا تقليص إمدادات الغاز لألمانيا بنسبة 40%، لتضخ 100 مليون متر مكعب يوميا بدلا من 160 مليون متر مكعب عبر خط أنابيب "نورد ستريم".

تُصدِّر مصر حاليا 500 مليون قدم مُكعَّب من الغاز الطبيعي يوميا إلى أوروبا، كما ذكر وزير النفط المصري "طارق المُلَّا"، وهي حصة أقل بكثير من نظيرتها الروسية، التي تجاوزت 5 تريليونات قدم مُكعَّب. وفي ظل الحديث عن تضاعف أسعار الغاز، فإن مكاسب القاهرة المالية لا تزال مُحاطة بالغموض، حيث إن الاستهلاك المحلي يبلغ 5.8 مليارات قدم مُكعَّب يوميا، ويُمثِّل 80% من الإنتاج، كما أن بنود الاتفاقية الثلاثية غير مُعلنة حتى الآن، ومن ثمَّ فإن وضع مصر شريكا يقتسم العوائد بنقل الغاز القادم من الأراضي المحتلة ليس واضحا، ولم يُعرَف بعد ما إن كانت الحكومة ستتولى شراءه وبيعه، أم ستقتصر الأرباح على عمولة التسييل والنقل.

المفاجأة هُنا هي أن محطات التسييل التي عُدَّت أساس الاتفاق ليست مصرية بالكامل، إذ تستحوذ شركة "يونيون فينوسا" الإسبانية على 80% من محطة "دمياط"، وتنقسم النسبة المتبقية بالتساوي بين الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية "إيجاس" المملوكة للدولة والهيئة المصرية العامة للبترول. وبالمثل فإن محطة "إدكو" مملوكة للحكومة بنسبة 12% فقط، وللشركة المصرية "إيجاس" بالنسبة نفسها، في حين تملكها شركة "شِل" بنسبة 35.5%، وشركة "بِتروناس" الماليزية بالنسبة نفسها، وأخيرا "إنجي" الفرنسية بنسبة 5%. ورغم ذلك، يبدو أن مصر ستخرج رابحة في كل الأحوال، بالنظر إلى أن البلاد حصدت خلال الأشهر الأولى من العام الجاري أربعة مليارات دولار من عوائد تصدير الغاز، وهو ما يعادل أرباح العام الماضي بأكمله، بزيادة قدرها 768%، مما يعني أن الأرباح زادت ثماني مرات بسبب الحرب.

تُخطِّط الحكومة لاستخدام هذه الأرباح لإنعاش الاقتصاد المصري، وجذب المزيد من الاستثمارات في قطاعات الموانئ والطاقة، لكن الأبعاد الجيوسياسية للاتفاق لا تقل أهمية عن فوائده الاقتصادية، إذ يُحوِّل مصر إلى مركز إقليمي للطاقة كما رغبت، ويكسبها موقعا سعت إليه تركيا وإسرائيل طيلة السنوات الفائتة، قبل أن تعصف الحرب الأوكرانية بهذه الطموحات، وتقود الأشرعة إلى شواطئ القاهرة، في الوقت الراهن على الأقل.

المصدر : الجزيرة