طالبان تعيد عقارب الساعة إلى الوراء.. لماذا لم تصبح الحركة أكثر اعتدالا؟
مقدمة الترجمة
على النقيض من تعهُّداتها بعد السيطرة على كابول العام الماضي، منعت طالبان الفتيات من التعليم بعد المرحلة الابتدائية، وفرضت زيًّا محددا للنساء، وضيَّقت المجال العام، وهو ما أثار تساؤلات حول المدى الذي ستذهب إليه طالبان في هذا الصدد، وتداعيات ذلك على الشعب الأفغاني ومدى دعمه أو ثورته على الحركة. حول هذه الأسئلة وأكثر، أعدَّت ديبالي موخُباذياي، أستاذة مشاركة في السياسة العالمية بجامعة مينِسوتا وخبيرة بارزة في معهد الولايات المتحدة للسلام، تحليلا نشرته في مجلة "فورين أفيرز" الأميركية، نستعرضه مُترجَما في السطور التالية.
نص الترجمة
عندما عادت طالبان إلى السلطة في أفغانستان في أغسطس/آب 2021، رجَّح بعض المراقبين أن نهجها في الحكم لربما يصبح أكثر اعتدالا من ذي قبل. لقد مضت عشرون عاما منذ المرة الأخيرة التي تبوَّأت فيها الحركة السلطة في البلاد، وجرت تحوُّلات كبرى فيها منذئذ، ومع انتهاء القتال ضد الولايات المتحدة، بدا أن كابول الآن بصدد مهام ليست أيديولوجية بطبيعتها، مثل جمع القمامة وتأمين استمرار الكهرباء.
بيد أن الإجراءات الأولية التي اتخذتها طالبان بعد عودتها إلى الحكم سرعان ما بدَّدت تلك الآمال. إذ تبنَّت الحركة حكما قمعيا، ومنعت أكثر من مليون أنثى من الذهاب إلى المدارس، وأعادت عمل وزارة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" -واحدة من أقوى المؤسسات التي تمارس بها الحركة سيطرتها على المجتمع- وذلك على أنقاض وزارة "شؤون المرأة". وطبيعي ألّا يُمثِّل ذلك مفاجأة، نظرا إلى سجل الحركة السابق، والطرق التي سلكتها للعودة إلى الحكم، فقد أفسح انسحاب الجيش الأميركي، وما أعقبه من تنحي الحكومة الأفغانية، الطريق أمام طالبان كي تتولَّى السلطة دون تنازلات تُذكَر.
سيدفع الشعب الأفغاني ثمنا باهظا لهذا الحكم، ولكن على الحكومات الأجنبية ألا تفترض أنها مُحصَّنة ضد الأحداث الجارية على الأرض، إذ تظل الحرب الأهلية مُحتمَلة، وقد تخلق الفوضى المترتبة على ذلك أرضا خصبة للمزيد من التطرُّف المُسلَّح. من الجدير بالذكر أن الأراضي الأفغانية تحت سيطرة طالبان كانت المكان الذي خطَّط فيه أسامة بن لادن هجمات 11 سبتمبر/أيلول. الآن، ومع هزيمتها لأقوى دولة في العالم، تبدأ طالبان فترة حكمها الثانية من موقع قوة رمزية استثنائي، وإذا عزَّزت الحركة حُكمها، ولو لوقت قصير، فقد تعود الأمور إلى ما كانت عليه خلال فترة التسعينيات.
عودة العمائم
يعود صعود طالبان إلى عام 1989، عندما طردت قوات المجاهدين المُقاوِمَة السوفييت وأطاحت في النهاية بالنظام الشيوعي في كابول. ومع ذلك، أثبتت المقاومة عجزها عن تشكيل حكومة مُتماسكة قابلة للاستمرار، وسقطت البلاد في حرب أهلية وحشية. لقد وُلِدَت طالبان من ثنايا هذه الفوضى، ويُشاع أن مؤسس الحركة، "المُلا عمر"، ذاع صيته عندما ثأر مع جماعة من الطلاب لفتاتين تعرَّضتا للخطف والاغتصاب في قندهار عام 1994. وبعد عامين، كانت طالبان قد بسطت حكمها على معظم أفغانستان. وسرعان ما ابتعدت إمارة طالبان كما سُمِّيَت عن كل أشكال الحكم الأفغانية السابقة، الشيوعية أو الجمهورية أو الملكية على السواء.
فرضت الحركة قانونا اجتماعيا خاصا بها، إذ خلطت أدوار الشيوخ والحُكَّام وضُباط الشرطة معا في قوة واحدة مُرعبة، كما حظرت المرأة من الحياة العامة، وضيقتها على الرجال لتتجاوز بالكاد أداء الصلاة وتطبيق العقوبات. وحتى مع توسُّع الحركة في شتى أنحاء البلاد، ظل قادتها وتابعوهم يُعبِّرون عن شريحة سكانية ضئيلة من شباب الريف غير المُتعلِّمين من عِرقية البشتون، وقد ترعرع الكثير منهم في مُخيَّمات اللاجئين والمدارس الدينية على الحدود مع باكستان.
في غضون ذلك، أثبتت طالبان أن علاقاتها الخارجية محدودة بالقدر نفسه، وأنها محصورة في شبكة صغيرة من العلاقات مع المؤسسة الأمنية الباكستانية والنخبة السعودية وتنظيم القاعدة، وفي وسط تلك العزلة عن العالم، أحكم النظام قبضته على البلاد، وهي قبضة كانت مُحكمة ولكن هشة. بطبيعة الحال، كتب دور طالبان في استقبال تنظيم القاعدة بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول شهادة وفاة نظامها، فحين رفضت الحركة تسليم المدبرين والمقاتلين المجاهدين، استحوذت الولايات المتحدة على المدن الرئيسية بالبلاد في غضون أسابيع.
في ديسمبر/كانون الأول 2001، عُيِّنت حكومة انتقالية بقيادة "حامد كرزاي"، لكن بسبب "الحرب على الإرهاب" التي شنَّتها إدارة بوش واعتبرت حركة طالبان كلها -حتى أولئك الذين سعوا للاستسلام في صفوفها- عدوا لواشنطن، لم يكن واردا أن تُثمِر أي جهود نحو السلام أو المصالحة بين الحكومة الجديدة والسابقة المهزومة. وبدلا من ذلك، استمر الوجود العسكري الأميركي بأفغانستان، وبمرور الوقت، جمع عناصر طالبان شتاتهم على الحدود مُستَعينين بالدعم الباكستاني وانتهوا إلى تشكيل حركة تمرُّد فتَّاكة حاصرت الدولة الأفغانية ورُعَاتِها الأجانب لسنوات.
بحلول عام 2006، كانت طالبان في خضم حملة متواصلة لاستعادة الأراضي من السيطرة الأميركية، وبدأت بأراضي معقلها في جنوب أفغانستان، وانتهت إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير. فقد وسَّع أولئك "المُتمرِّدون" آنذاك حُكمهم في شتى أنحاء البلاد، منتهجين نهجا مختلفا قليلا عن الحركات المُتمرِّدة الأخرى حول العالم، إذ إن بعض هذه الحركات، مثل "نمور التاميل" في سريلانكا، وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، قد أسَّست أشكالا من البيروقراطية المُحكَمة لتقديم الخدمات وإرساء سياسات جديدة في المناطق التي احتلَّتها. أما نهج طالبان فتجاهل تقريبا تلبية الاحتياجات المحلية، وأجبر مَن قدَّموا الخدمات للسكان المحليين على الانصياع لأوامره ليس إلا.
مجددا، ركَّزت طالبان على إرساء شكل مُبسَّط تبسيطا مُخِلًّا للقانون والنظام، وقد نجحت على هذا الصعيد نجاحا كبيرا. فقد فصلت المحاكم الخاصة بها في النزاعات المحلية بينما دفعت قُدُما بمشروعها الأيديولوجي من خلال فرض تصورها للشريعة. في غضون ذلك، كانت العدالة الناجزة لطالبان فعَّالة وجذَّابة في مُقابل منظومة القانون الأفغاني العقيمة، وكذلك الآثار المُدمِّرة للحملة العسكرية التي قادها الغرب. ولتأمين تمويل الحركة، وضع مقاتلو الحركة عدة أنظمة لتحصيل الضرائب، منها فرض ضرائب على تجارة الأفيون المزدهرة، وبسط سيطرتهم على العائدات الحكومية قدر استطاعتهم.
على مدار 15 عاما من القتال، وجولات مُتعدِّدة من تعاقب القادة على الحركة، حافظت طالبان على درجة استثنائية من التماسُك الداخلي. وقد حققت ذلك من خلال الموازنة بين انضباط ذوي المراتب العليا وحرية ذوي المراتب الأدنى في فعل ما يرونه على الأرض. وقد آتى هذا التماسك أُكُله، إذ عزَّز من حملة طالبان نحو الانتصار، ليس على الحكومة الأفغانية فحسب، بل على الولايات المتحدة وحلفائها.
العودة إلى الوراء
في الأشهر السبعة التي تلت دخولها كابول، أعادت طالبان توظيف سلطاتها في خدمة الشمولية المُبرَّرة باسم الدين، وقد منحتها حقيقة أنها استولت على السلطة من خلال نصر عسكري، وليس من خلال المفاوضات الشاقة، مُبرِّرا للتصرُّف على هذا النحو. إذ ينتج عن التسويات المتفاوض عليها ضغط دولي للانفتاح الاجتماعي والسياسي بوصفه جزءا من العمليات المدعومة دوليا لبناء السلام وإعادة الإعمار فيما بعد الصراع. أما انتصار حركة مُتمرِّدة مثل طالبان فيمنح حرية أكبر للمنتصر: فعلى المدى القصير، يستطيع الرابحون تجاوز التسويات والحلول التوافقية، التي قد تُشكِّل ملامح الحياة السياسية بعد الحرب، مع تركيزهم على تعزيز نظام حُكمِهم باتجاه أهداف استبدادية.
الآن، تُعيد طالبان تشكيل الواقع الاجتماعي ذاته الذي شكَّلته للمرة الأولى منذ 30 عاما. كما أن تلك المراسيم الأخيرة التي أجبرت النساء على تغطية أجسادهن ووجوههن، وإلزامهن بمرافقة محرم لهن في أوقات السفر، وترك التعليم في المرحلة الثانوية والجامعية، تُذكِّرنا بالطريقة التي أُجبِرَت بها الإناث في أفغانستان على ترك المساحات المدنية في تسعينيات القرن الماضي. ومما يُعيد تجسيد ماضي الحركة هو استخدام النظام لأشكال مذهلة من العنف، بداية من قطع رقاب تماثيل عرض الملابس في واجهات المحلات، والتدمير الاحتفالي للآلات الموسيقية، وحتى اختفاء النشطاء وتعليق جثث المجرمين المزعومين على رؤوس الأشهاد.
أدَّت إنجازات طالبان في أرض المعركة إلى حُكمها البلاد بشروطها الخاصة، لكن النظام الجديد يواجه بعض التحديات الخطيرة. فما زالت قيادة الحركة وجميع الرُّتَب وصف الجنود فيها غير جاهزين للقيام بالأعمال البيروقراطية المطلوبة لتلبية متطلبات المواطنين في القرن الحادي والعشرين. وتفتقر هذه الحكومة إلى الخبرات التقنية والحنكة والاستعداد لإدارة مسائل الحياة اليومية العادية، بداية من المعاملات البنكية وإدارة البنية التحتية، وصولا إلى الأزمات الحادة التي تضرب البلاد مثل ندرة الغذاء وجائحة "كوفيد-19". وتبرز هذه النواقص بجلاء لأن أصحاب الخبرات ذات الصلة لم يعودوا جزءا من رأس المال البشري الذي توظِّفه الحكومة، إذ سرَّحت طالبان الموظفات العاملات في الحكومة كلهن، بينما فَضَّل الكثير من الموظفين المدنيين الرجال الهجرة من البلاد على أن يخدموا النظام الجديد.
لكن الجديد هذه المرة هو أن طالبان تولَّت مقاليد الحُكم في بلد تحوَّل فيه شكل المواطنة تحوُّلا جذريا منذ المرة الأخيرة التي تولَّت فيها الحركة حكم البلاد. ويُعَدُّ الشعب الأفغاني اليوم فتيًّا بصورة استثنائية، فلم يَعِش معظم المواطنين الأفغان تجربة الحياة تحت حكم طالبان (إذ إن أغلبهم شباب وُلدوا بعد عام 2001). وعلاوة على ذلك، وبينما لا يزال مركز ثقل الحركة ريفيا بدرجة كبيرة جدا، فإن الكثير من مواطنيها بعد الحرب من الحضر المتنوِّعين عِرقيا والمُتعلِّمين والمُتعوَلمِين ممن هُم على دراية بالعالم الخارجي. وقد استفاد هؤلاء من اقتصاد المساعدات، والالتحاق بالتعليم العالي، وظهور قطاعات جديدة خاصة وحكومية واجتماعية ولَّدت فرصا مهنية وشخصية استثنائية.
لقد تغذَّت المقاومة ضد حكم طالبان على حقيقة تهديد الحركة لتلك المكاسب، إذ إنه فور سقوط الجمهورية، أعادت المليشيا المعارضة للنظام حشد نفسها في ولاية "بنجشير"، التي طالما كانت معقلا للمجاهدين المعارضين لطالبان. وقد واجهت طالبان بعض المقاومة العنيفة من "أحمد مسعود"، قائد جبهة المقاومة الوطنية، وهي حركة شعبية مناهضة لطالبان، وكذلك واجهت الحركة مقاومة من أفراد قوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية الذين سعوا إلى مواصلة القتال.
وقد احتشد البارزون من المثقفين والمجتمع المدني استجابة لاستيلاء طالبان على الحكم. ففي نوفمبر/تشرين الثاني، أجرى "فائز الله جلال"، أستاذ القانون والعلوم السياسية بجامعة كابول، مناظرة مع عضو في الحكومة الجديدة أُذيعت عبر التلفزيون الوطني، وعبَّر فيها عن رفضه مصداقية أولئك الذين يحكمون البلاد. ومن ثمَّ سجن النظام جلال في يناير/كانون الثاني، بيد أنه رضخ للضغط وأطلق سراحه بعد ذلك بأيام. وما زالت المنافذ الإعلامية مثل جريدة "اطلاعات روز" وقناة "تولو" التلفزيونية توثق أحداث اليوم، بما في ذلك المشكلات التي تواجه الحكومة الجديدة.
تُقدِّم وسائل التواصل الاجتماعي أيضا مساحة للتعبير عن الرأي السياسي الذي يُهدِّد سردية طالبان. ففي أغسطس/آب 2021، وبينما اقتربت الحركة من النصر، انتشرت حملة عبر تويتر على وسم بعنوان #SanctionPakistan (معاقبة باكستان) انتشارا واسعا، مما قوَّض ادعاءات الحركة بأنها تتكوَّن من السكان الأصليين فقط، بل صوَّرتها على أنها احتلال أجنبي. وحينما تكشفت سياسات النظام الجديد بشأن ملابس الإناث وتعليمهن، أعاد الأفغان -داخل البلاد وفي الشتات- ضم أصواتهم إلى وسوم أخرى مثل #DoNotTouchMyClothes (لا تلمس ملابسي)، و#LetAfghanGirlsLearn (اتركوا الفتيات الأفغانيات يتعلمن).
Afghan women have started online campaign to protest Taliban's dress code. They post their photos with their traditional clothes and use #DoNotTouchMyClothes , #AfghanistanCulture and #AfghanWomen tags. pic.twitter.com/75EY5EYOMK
— sibghat Khan (@sibghat51539988) September 12, 2021
Taliban's ban on girls' secondary education: day 217
If Afghanistan wants to be taken seriously on a global level, & competitive on the world stage then it must educate its women and girls.
🇦🇫 is the only country in the world to ban girls from education. #LetAfghanGirlsLearn pic.twitter.com/nIfv1SOfi6— Ziauddin Yousafzai (@ZiauddinY) April 21, 2022
ربما الأجدر بالإشارة هي مجموعات الناشطات التي حافظت على حضور مستدام في شوارع كابول والمدن الكبرى الأخرى طيلة أشهر. ومؤخرا، حينما فشلت طالبان في إعادة فتح مدارس الفتيات بعد إجازة عيد النيروز، نزلت النساء والفتيات إلى الشوارع ونشطن على وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن حنقهن من حرمانهن من التعليم، ويُعَدُّ مثل هذا الاحتجاج المُنسَّق جديدا إلى حدٍّ كبير. وقد ردَّ جنود طالبان على هذه التحركات بالقمع والاعتقالات، بيد أن المحتجين تكيَّفوا مع الأمر، وجذبوا أنظار المجتمع الدولي. هذا وتُعَدُّ حقيقة وجود النساء في طليعة العصيان المدني الأفغاني، بحد ذاتها، دحضا قويا لادعاءات طالبان الأيديولوجية.
استثمرت بعض الحركات المُتمرِّدة، التي حكمت فيما بعد، نجاحها على أرض المعركة في النجاح انتخابيا، إذ حازت قدرتهم على توفير الأمن في خضم الحرب دعم المصوتين في الانتخابات اللاحقة. وثبت صحة هذا الأمر حتى في حالات ارتكبت فيها تلك الجماعات أعمالا وحشية بحق السكان، كما في حالتَيْ "قوات بوروندي للدفاع عن الديمقراطية"، والتيار الصدري في العراق، حيث فاز كلٌّ منهما بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية عامَيْ 2005 و2018 على الترتيب. بيد أن طالبان لم تُظهِر أيَّ ميل نحو إخضاع سُلطتها السياسية إلى اقتراع انتخابي، مما يُعَدُّ مفارقة نظرا إلى احتمالية أن تحصد الحركة نصرا انتخابيا بسبب نجاحها بوصفها قوة قتالية.
على العكس، مثَّلت تعيينات الحكومة الجديدة لمجلس الوزراء، ولمناصب أخرى مرموقة، شريحة سكانية ضئيلة في البلاد في وقت أظهرت فيه قيادة الحركة من البشتون شروخا داخلية. ونتيجة لذلك، خاضت طالبان بعض التحديات المماثلة التي واجهتها الحكومة السابقة. فمثلا، في يناير/كانون الثاني بولاية "فارياب" شمالي البلاد، احتجزت الحركة واحدا من قادتها ينتمي إلى أقلية الأوزبك، ومن ثمَّ نشب نوع من التمرد في صفوف مقاتلي طالبان من غير البشتون في المنطقة، وهو نمط قد ينتشر إلى أماكن أخرى في البلاد. وفي حالة مُشابهة للمفارقة، واجه الرئيس أشرف غني -الذي فرَّ من البلاد بعد الانسحاب الأميركي- استجابة مُتمرِّدة مُماثلة حينما أطاح بحاكم من البشتون الشرقيين في تلك الولاية ذاتها عام 2021. في الحالتين، أظهر الفشل في الاعتراف بالتنوُّع العِرقي والطائفي للشعب الأفغاني مدى صعوبة ممارسة أي نظام في كابول للسلطة خارج حدود المدينة.
كذلك، تُنتَج عدة مخاطر بسبب نهج الحكومة الجديدة في صناعة السياسات، لا سيما في المجال الاجتماعي. إذ إن إيقاف طالبان تعليم الفتيات بعد المرحلة الابتدائية قرار يُهدِّد بتضييع مكاسب عقدين كاملين في تعليم الفتيات والتقدُّم المهني. وبحلول الخريف الماضي، أوقف النظام العمل بهذا القرار في بعض الولايات التي اشتدت فيها مطالب تعليم الفتيات. بيد أن قرار الحكومة في أواخر مارس/آذار للتملُّص من وعدها بإعادة فتح مدارس الفتيات يعكس جمودا أيديولوجيا صارخا في وجه المطالب المحلية والدولية بالاعتدال.
في ظل غياب درجة أكبر من المرونة في مسائل مثل التعليم والتوظيف والرعاية الصحية وقوانين الأسرة، قد تشهد طالبان ارتخاء قبضتها التي أحكمتها على البلاد. ففي الأخير، دفع النظام الشيوعي في السبعينيات بمجموعة سياسات اعتبرها الشعب متطرِّفة آنذاك -بما في ذلك الاشتراط بتعليم الفتيات كُلِّهن- ووجدت الحكومة نفسها في مواجهة تمرُّد شعبي كتب انهيارها في نهاية المطاف.
طالبان في نفق مُظلِم
قليلة هي الحكومات الأفغانية التي نجحت في البقاء بالسلطة لفترات مُمتدة، ومن استطاع منها تحقيق ذلك إنما فعل عن طريق إفساح المجال للأفكار والفاعلين المنافسين، كما أنهم ظلوا مرتبطين بالدول الخارجية والمنظمات الدولية التي استطاعت دعم قوتهم في وجه عدم الاستقرار المحلي. منذ القرن التاسع عشر، تطلَّب بقاء حكام البلاد في السلطة علاقات خارجية محسوبة بعناية، وتدفقات مستمرة للمساعدات الخارجية. وتميل الحركات المتمردة إلى الاستثمار في التسويق لنفسها دوليا، إذ يُعَدُّ الاعتراف الدبلوماسي مَكسَبا مرغوبا بشدة، وبينما بذل بعض أعضاء طالبان جهودا لإعادة التسويق للحركة بوصفها لاعبا يقبل التسويات، فإن الحركة لم تُقدِّم الكثير لتجميل صورتها حالما اتضح التزام الولايات المتحدة بالانسحاب العسكري السريع وغير المشروط.
اليوم، يواجه النظام الجديد عُزلة شبه كاملة على الساحة الدولية. وقد بدأت تظهر آثار هذه العُزلة، بداية من العقوبات المستمرة وحتى تجميد الأصول. ورغم تدفُّق المساعدات الإنسانية، يعتبر معظم الخبراء أن هذه المساعدات غير كافية في وجه الأزمة الوخيمة حاليا. بيد أن الموقف المتدهور ميدانيا لم يُحفِّز، حتى الآن، تحوُّلا في نهج الحكومة. ففي خطاب أُذيع عبر الراديو في نوفمبر/تشرين الثاني، نفى "محمد حسن أخوند" (آخُند)، رئيس الوزراء الأفغاني الجديد، أي مسؤولية تجاه عشرات الملايين الذين يعانون انعدام الأمن الغذائي الحاد، بل ووصف المجاعة بأنها عقاب إلهي. وفي الوقت نفسه، أثار الاستمرار في إغلاق مدارس الفتيات تنديدا مستمرا من الحكومات الغربية والمنظمات المانحة والأمم المتحدة، لكن دون جدوى.
لعل تعنُّت الإمارة يستمر على نحو كبير، لا سيما إذا قدَّم المجتمع الجهادي العالمي الدعم المعنوي والمادي للنظام. لكن المؤكد أن رغبة طالبان في تلبية احتياجات جمهور سياسي ضيق، وفرض سياسات لا تلقى شعبية، ستؤدي إلى المزيد من الاحتجاج والثورة، كما قد يؤدي الاندفاع نحو العزلة الدولية إلى انهيار البلاد اقتصاديا. أما إذا اختارت الحكومة الجديدة تخفيف جمودها، فربما تكسب تفاعلا مع النظام الدولي، مما يُوفِّر لها مساحة أكبر للمناورة. بيد أن كل ذلك قد يكون ثمنه خسارة مصداقية الحكومة وسط أنصارها المُتشدِّدين، وبالنظر إلى تاريخها في الحكم، فإن طالبان قد تراهن رهانا جيدا على أنها تستطيع -وأنها عليها- أن تمنح الأولوية لنقاء مشروعها السياسي الراديكالي على حساب ما عداه، حتى لو قوَّض ذلك حكمها على المدى الطويل.
بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وجيران أفغانستان، والأفغان أنفسهم، فإنه لا انهيار طالبان ولا ترسيخ أركانها يُبشِّر بالخير، إذ إن فشل الدولة الأفغانية قد خلق بالفعل كارثة إنسانية، وقد يعني تجدُّد الحرب الأهلية المزيدَ من الجوع والمرض والنزوح. وتجد الأطراف الخارجية نفسها أمام مساحة محدودة للتأثير في المشهد: فالمساعدات الإنسانية وحدها لا يمكنها معالجة الكثير، في حين أن الأشكال الأعمق من الارتباط الدبلوماسي والاقتصادي والأمني تُهدِّد بترسيخ أكبر للنظام وإحباط أكبر للمعارضة. كما أن وجود طالبان القوية، المُحاطة بمجد لا مثيل له، لربما يُفسِح مجالا للمُتطرِّفين الآخرين فينتعشوا، تماما مثلما حدث في التسعينيات. وفي النهاية، سواء فشلت طالبان أو نجحت، فإن التداعيات على الشعب الأفغاني والمجتمع الدولي ستكون هائلة، وهذا هو الوضع الملازم عادة لحالة النصر الثوري من ذلك النوع الذي وقع مؤخرا في أفغانستان.
————————————————————————————-
هذا المقال مترجم عن Foreign Affairs ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
ترجمة: هدير عبد العظيم.