بيرقدار.. سلاح تركيا الفتَّاك يوجِع الروس في أوكرانيا
مقدمة الترجمة
استطاعت مُسيَّرات بيرقدار التركية قلب الموازين في أكثر من صراع حول العالم، وفي الحرب الدائرة في أوكرانيا، مكَّنت "بيرقدار" الأوكرانيين من الصمود وحتى تنفيذ عمليات تسبَّبت في خسارة موجعة للروس. لكن هذا ليس كل شيء، إذ تحولت المسيَّرات من مجرد سلاح إلى ركيزة دبلوماسية للحكومة التركية. حول هذا الموضوع أعدَّ كلٌّ من سونَر تشاغبطاي، مدير برنامج البحوث التركية في معهد واشنطن، وريتش أوتزِن، عقيد متقاعد في الجيش الأميركي وعضو سابق في فريق تخطيط السياسات بوزارة الخارجية بين عامي 2016-2018، تحليلا نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأميركية.
نص الترجمة
في 14 إبريل/نيسان الماضي، أدهشت القوات الأوكرانية العالم عندما أغرقت "موسكفا"، السفينة الحربية الروسية المُسلَّحة تسليحا ثقيلا، التي كانت تقود أسطول "البحر الأسود" الحربي التابع لموسكو. وكما أشارت الصحافة العالمية على نطاق واسع، فقد نجح الأوكرانيون في ضرب السفينة بصواريخهم المحلية "نيبتون"، على الرغم من الدفاعات المنيعة للسفينة. بيد أن الأمر الذي لم يُشر إليه بالقدر نفسه هو المُسيَّرات الأجنبية التي جعلت مثل هذا الهجوم الاستثنائي مُمكِنا، فبحسب المسؤولين الأوكرانييين، نُسِّقت الضربة باستخدام طائرتين تركيَّتين مُسيَّرتين من طراز "بيرقدار تي بي 2″، اللتين استطاعتا تفادي رادار السفينة، ومن ثمَّ تقديم معلومات استهداف دقيقة للصواريخ.
ليست هذه المرة الأولى التي يكون فيها للمُسيَّرات التركية دور حاسم في المقاومة الأوكرانية لغزو موسكو. فمنذ الأيام الأولى للعدوان الروسي، لعبت المُسيَّرات "تي بي 2" الفتَّاكة رغم تكلفتها المنخفضة دورا حاسما مرارا وتكرارا في القضاء على الدبابات الروسية وعرقلة التقدُّم الروسي. لم يكن ذلك وليد المصادفة، ففي يناير/كانون الثاني، وبينما حشدت روسيا أعدادا كبيرة من قواتها على الحدود الأوكرانية، مضت كييف في فورة إنفاق عسكري مع تركيا، واشترت 16 طائرة مُسيَّرة من طراز "بيرقدار تي بي 2″، بالإضافة إلى أنظمة سلاح تركية، بمبلغ إجمالي بلغ نحو 60 مليون دولار، وهو رقم أكبر ثلاثين مرة من إنفاق كييف على معدات الدفاع التركية خلال الفترة نفسها من العام السابق. وقد انضمت هذه الدفعة الجديدة إلى نحو 20 طائرة مُسيَّرة أخرى من طراز "تي بي 2" كانت أوكرانيا قد اشترتها من تركيا سابقا. وتُعَدُّ مُسيَّرات "بيرقدار" -ويعني اسمها بالتركية حاملة اللواء- شديدة الأهمية بالنسبة لجهود الحرب الأوكرانية، حتى إنها ألهمت أغنية أوكرانية وطنية انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي انتشارا كبيرا.
على الرغم من الاهتمام الموجَّه نحو مُسيَّرات أوكرانيا، فإن الاهتمام بإستراتيجية البلد المُصنِّع لها أقل بكثير. تُنتج هذه المُسيَّرات شركة تركية لها صلة بالرئيس التركي "رجب طيب أردوغان"، وهي أكثر من مجرد عنصر عدَّل موازين الحرب في أوكرانيا، إذ لعبت المُسيَّرات، في السنوات القليلة الماضية، دورا حاسما في صراعات عديدة في القوقاز وأفريقيا والشرق الأوسط، وباتت أنقرة بفعل تسويقها للمُسيَّرات إلى 24 دولة تقريبا من الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط القادرة على مدِّ نفوذها الجيوسياسي، بينما تُهيِّئ نفسها في الوقت ذاته لتشكيل نتائج الصراعات الإقليمية الكُبرى.
لم تمضِ دبلوماسية المُسيَّرات التي تنتهجا أنقرة بدون معوِّقات. ففي الشرق الأوسط، أدى انخراط تركيا العسكري المتنامي في دول مثل ليبيا إلى دفع خصومها، مثل اليونان ومصر، إلى تشكيل تحالفات رخوة جديدة بهدف تحجيم القوة التركية. وفي أوكرانيا، تُهدِّد المُسيَّرات بعرقلة توازن أنقرة الحذر مع روسيا، التي ما زالت تحتفظ بعلاقات معها. هذا وأعرب الجمهوريون والديمقراطيون في الكونغرس الأميركي في السنوات الأخيرة عن قلقهم من انتشار المُسيَّرات التركية، إذ استشهد "بوب مِنِنْدِز"، السيناتور الديمقراطي لولاية نيو جيرسي، بالدور الذي لعبته الأسلحة المحمولة على المُسيَّرات في الصراع بين أذربيجان وأرمينيا في إقليم "قرة باغ" عام 2020، قائلا إن "مبيعات المُسيَّرات التركية خطيرة، ومُزَعزِعة للاستقرار، وتهديد للسِّلم وحقوق الإنسان".
مع ذلك، وبعد سنوات من نهج السياسة الأُحادية المنفردة من جانب تركيا -الذي جرَّ عليها المزيد من الخصوم الإقليميين وأضعف تحالفها مع الولايات المتحدة وأوروبا- استطاعت الحكومة التركية استغلال "بيرقدار" وغيرها من المُسيَّرات لتغيير مكانتها الدولية. ففي الشرق الأوسط، ساعدت المُسيَّرات التركية في ترسيخ مصالحها بموارد دبلوماسية محدودة نسبيا. وفي أوكرانيا، منحت مساعدة أنقرة العسكرية نفوذا متجددا لأردوغان في حلف الناتو في وقت تعاني فيه حكومته وضعا محفوفا بالمخاطر في الداخل، وتمر فيه علاقاته مع الولايات المتحدة وأوروبا بأزمة منذ سنوات. وإن كان باستطاعة تركيا الاستمرار في الإدارة والبناء بنجاح على برنامج المُسيَّرات الخاصة بها، فلربما تكون قد منحت نفسها شكلا جديدا وجوهريا من أشكال النفوذ، وأعادت تعريف حرب المُسيَّرات في الوقت نفسه.
تحت الرادار
وُلد برنامج المُسيَّرات التركي من رحم الإحباط من المورِّدين الأجانب. وفي مطلع تسعينيات القرن الماضي، حينما كانت الولايات المتحدة هي المُصنِّع المهيمن للمُسيَّرات المُسلَّحة، حاولت تركيا الوصول إلى التكنولوجيا الأميركية لمكافحة حزب العمال الكردستاني، الذي صنَّفته كلٌّ من الولايات المتحدة وتركيا منظمة إرهابية، ولكن دون جدوى. ثم لجأت تركيا إلى إسرائيل عام 2005، بيد أن النتائج أتت مُحبِطة بالقدر نفسه. وفي السنوات التي تلت ذلك، رُفِضت جهود أنقرة لشراء مُسيَّرات أميركية أكثر تطورا، بما في ذلك طراز مُسلَّح من المُسيَّرة "إم كيو-9 ريبِر". وفي نهاية المطاف، عزمت تركيا على تطوير مُسيَّراتها الخاصة.
في عام 2012، طوَّرت شركة مملوكة للحكومة التركية نموذجا لمُسيَّرة، وبحلول عام 2016، كانت قادرة على القيام بطلعات استكشافية بكفاءة. وفي غضون تلك السنوات، حدث إنجاز استثنائي آخر حينما نجح "سلجوق بيرقدار"، المهندس الذي درس في "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" (والزوج المستقبلي لابنة أردوغان)، في تصميم مُسيَّرات "بيرقدار تي بي 2". وفي عام 2012، بدأ التصنيع الهائل لمُسيَّرات "تي بي 2″، وعلى مدار ثلاث سنوات، استطاعت المُسيَّرة تنفيذ هجمات دقيقة، ما جعلها مكوِّنا جديدا ومهما في الترسانة التركية. وعلى غرار المُسيَّرات الأميركية مثل "إم كيو-1 بريداتور" و"إم كيو-9 ريبِر"، فإن المُسيَّرات "تي بي 2" تملك القدرة على الطيران لفترات طويلة على ارتفاع متوسط. وفي حين لا تزال المُسيَّرات الأميركية أكثر تطورا مقارنة بنظيرتها التركية، إذ إن مداها يبلغ عشرة أضعافها وسرعتها تزيد عليها ضِعفا، وتستطيع حمل ما يقرب من ضِعف كمية الأسلحة، فإن سعر المسيَّرة الأميركية يتجاوز ثلاثة أو ربما أربعة أمثال نظيرتها التركية، حتى إن الذخيرة وحدها في بعض المُسيَّرات الغربية المتقدِّمة تفوق تكلفتها سعر مُسيَّرة "تي بي 2″ المُسلَّحة بالكامل، التي تُقدَّر تكلفتها المنخفضة بنحو مليون أو مليونَيْ دولار.
بدءا من عام 2015، شرع الجيش التركي في استخدام مُسيَّراته في معركته طويلة الأمد ضد الميليشيات الكردية من حزب العمال الكردستاني. وخلال السنوات الثلاث التالية، تمكَّنت تركيا بفضل المُسيَّرات الجديدة من طرد الميليشيا إلى حدٍّ كبير خارج الأراضي التركية، واستطاعت قتل أعداد كبيرة من أعضاء حزب العمال الكردستاني، بمَن فيهم بعض قادته في العراق. وبعد ذلك بفترة وجيزة، شرعت أنقرة أيضا في استخدام المُسيَّرات ضد المقاتلين الأكراد في سوريا، المعروفين بـ"وحدات حماية الشعب" المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، وسمحت هذه الإستراتيجية لتركيا بتعزيز سيطرتها على حدودها الجنوبية والجنوبية الشرقية، ومد وجودها حتى شمال سوريا والعراق دون المخاطرة بقوات عسكرية كبيرة على الأرض. ولأول مرة منذ عقود، باتت أنقرة قادرة على تحقيق مكسب حاسم في صراعها طويل الأمد مع حزب العمال الكردستاني.
بيرقدار تحلِّق في كل الاتجاهات
سرعان ما ثبت أن المزايا التي جعلت "بيرقدار" ضرورية للأولويات الأمنية للحكومة التركية هي أيضا على القدر ذاته من الفائدة بالنسبة لكثير من القوى الصغيرة والمتوسطة خارج تركيا. ففي مقابل استثمار متواضع نسبيا، باتت بلاد عديدة قادرة على حيازة تكنولوجيا عسكرية فتَّاكة تُمكِّنها من تغيير ديناميات صراع ما، أو توفير ردع فعال بوجه الجماعات المسلحة أو غيرها من القوات. وفي عام 2017، بدأت تركيا تصدير "تي بي 2″، وفي غضون خمس سنوات كانت قد باعت المُسيَّرات لصالح 24 دولة تقريبا، منها حلفاء وشركاء في أوروبا (ألبانيا وبولندا وأوكرانيا)، ووسط وجنوب آسيا (قرغيزستان وباكستان وتركمانستان)، وأفريقيا (إثيوبيا وليبيا والمغرب والصومال وتونس)، والخليج (قطر)، والقوقاز (أذربيجان). ورغم أن صفقات الأسلحة هذه تمت نتيجة خليط من دوافع المصالح التجارية والجيوسياسية، فإنها دائما تقريبا ما تضمَّنت دولا تملك تركيا مصالح إستراتيجية فيها.
على إثر هذه الصفقات، قلَّبت المُسيَّرات التركية التوازنات في صراعات عديدة. ففي ليبيا عام 2020، مكَّنت هذه المُسيَّرات حكومة طرابلس، المعترف بها دوليا والمدعومة من تركيا، من الصمود أمام الهجوم الشرس الذي شنَّه أمير الحرب "خليفة حفتر" المدعوم من روسيا. وبالمثل، ساعدت المُسيَّرات القوات الأذربيجانية في استعادة أراضٍ متنازع عليها في إقليم "قرة باغ" بنجاح، الذي سيطرت عليه القوات الأرمنية طيلة عقود. وفي محافظة إدلب السورية، أتاحت المُسيَّرات التركية لقوات المعارضة السورية إيقاف عدوان حكومة النظام السوري الذي سعى إلى قهقرة المعارضة إلى داخل تركيا. وفي إثيوبيا، ساعدت المُسيَّرات التركية التي حصلت عليها حكومة أديس أبابا في قلب موازين حربها الأهلية ضد المتمردين التيغرانيين. وعلى غرار الحالات الأخرى، لم تكن مصالح تركيا في إثيوبيا مجرد مصالح تجارية، إذ ترى تركيا تقوية علاقاتها مع أديس أبابا بوصفها طريقا لترسيخ النفوذ التركي في القرن الأفريقي وموازنة نفوذ مصر، التي تنافسها حاليا على النفوذ الإقليمي.
حقَّق صعود تركيا السريع باعتبارها مورد المُسيَّرات الأساسي للبلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط مكاسب للقوة التركية، بيد أنه خلق أيضا تحديات جديدة. فقد حصل عدد من البلدان، منها إثيوبيا والصومال وتونس، على المُسيَّرات التركية دون استكمال الأنظمة الفنية المطلوبة لتشغيلها. وربما لا تُحقِّق هذه البلدان نتائج حاسمة ضد عدو جيد التدريب أو يفوقها عددا، ولعلها وقعت في هفوات أحيانا. ففي أثناء الصراع في تيغراي، تعرَّضت الحكومة الإثيوبية لانتقاد قاسٍ على تسبُّبها في وقوع ضحايا مدنيين، حتى إنها ضربت مدرسة باستخدام المُسيَّرات تركية الصُّنع. وقد أسهمت مثل هذه الحوادث في تكوين انطباع، يتشاركه بعض المسؤولين الأميركيين، بأن تركيا أصبحت تنشر المُسيَّرات بصورة متهوِّرة.
أما المشكلة الأكبر فلعلها أثر ذلك على الدول المنافسة لتركيا. فقد تسبَّب التدخُّل التركي في صراعات مثل الصراع الليبي في إثارة قلق خصومها، بما في ذلك مصر وفرنسا والإمارات. وفي مايو/أيار 2020، وبينما غيَّرت المُسيَّرات التركية مسار الحرب الأهلية في ليبيا، شكَّلت مصر تحالفا غير رسمي مع كلٍّ من قبرص وفرنسا واليونان والإمارات لمواجهة النشاط التركي في شرق البحر المتوسط من خلال تنسيق الوجود السياسي والدبلوماسي والبحري. هذا ورفعت الولايات المتحدة مؤخرا مساعداتها العسكرية إلى اليونان كإجراء استباقي ضد روسيا، لكنه كان بدرجة أقل موجَّها ضد تركيا أيضا وحضورها العسكري المتزايد في المنطقة.
مُعضلة تركيا في أوكرانيا
لربما برهنت دبلوماسية المُسيَّرات التركية على أنها الأهم، وربما الأخطر، في أوكرانيا، إذ بدأت كييف في شراء "تي بي 2" عام 2019، واستخدمتها للمرة الأولى ضد الانفصاليين المدعومين من روسيا في إقليم "دونباس" عام 2021. لكن مع حرب الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" على أوكرانيا، اكتسبت هذه الأسلحة وضعا أخطر، فللمرة الأولى تُوجَّه هذه الأسلحة مباشرة ضد القوات الروسية نفسها. وبالفعل، نُفِّذَت أكثر من 60 هجمة ناجحة باستخدام مُسيَّرات "تي بي 2" على الدبابات وقطع المدفعية والمركبات الروسية، بل وحتى قطارات الإمدادات، وعلى الأرجح فإن الحوادث غير المُعلن عنها أكثر بكثير. وبالنسبة لعلاقات تركيا مع الغرب، فإن الدور غير المتوقَّع الذي لعبته مُسيَّرات "بيرقدار" في تقوية شوكة كييف ضد موسكو له تداعيات مهمة، فقد رفع مكانة أنقرة في الناتو إلى مستوى لم تشهدها منذ سنوات، وثمَّة برود في العلاقات ينقشع الآن بين تركيا وبعض الحكومات الأوروبية الكبرى، بما فيها فرنسا.
بيد أن حرب المُسيَّرات في أوكرانيا أثارت أسئلة جديدة مُعقَّدة عن جهود تركيا للحفاظ على علاقاتها العملية مع موسكو، إذ يتعيَّن على تركيا التعامل مع روسيا في مجالات عديدة، من البحر الأسود حتى سوريا وأذربيجان. وعلى الصعيد الإستراتيجي، ستفعل أنقرة كل ما بوسعها لضمان ألا تقع كييف في قبضة موسكو. ويعود سبب ذلك إلى أن عدوان بوتين على أوكرانيا خلق شعورا بالواقعية في أنقرة فيما يتعلَّق بروسيا، العدو التاريخي اللدود لتركيا. والآن، تُقدِّر أنقرة أوكرانيا ودول البحر الأسود الأخرى أكثر من أي وقت مضى بوصفهم حلفاء لا غنى عنهم لبناء كتلة تُوازِن العملاق الروسي شمال البحر الأسود.
ولكن إذا نجح بوتين في احتلال جزء من أوكرانيا -أو فشل وألقى باللوم في ذلك على تركيا- فقد يمتلك بذلك نفوذا جديدا وكبيرا مضادا لتركيا. فلربما يستطيع بوتين، مثلا، تقويض مصالح أنقرة في سوريا عبر إطلاق موجة لاجئين ضخمة من إدلب إلى تركيا، إذ صارت المشاعر المُعادية للاجئين في تركيا أقوى في الآونة الأخيرة، ومع الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، من المرجَّح أن يجد أردوغان نفسه تحت ضغط شديد إذا ما تدفَّقت أعداد كبيرة من اللاجئين نحو البلاد. كما يستطيع بوتين أن يفرض عبئا اقتصاديا على تركيا عن طريق الحدِّ من الصادرات الزراعية التركية إلى روسيا، أو منع الروس من السياحة في تركيا، أو إيقاف إمدادات الغاز الروسي إلى أنقرة. ومن شأن هذه الخطوات تقويض انتعاش الاقتصاد التركي، ومن ثمَّ تقويض حظوظ إعادة انتخاب أردوغان عام 2023.
لقد قلَّلت تركيا علنا من أهمية الدور الذي تلعبه في تسليح الأوكرانيين، مؤكِّدة أن الحكومة التركية ليست هي مَن يُمِدُّ الأوكرانيين بمُسيَّرات "بيرقدار"، وإنما شركة خاصة هي مَن تقوم بذلك. وحتى مع إمدادها كييف بالمُسيَّرات، تسعى تركيا للعب دور الوسيط، حيث استضافت اجتماعا في مدينة "أنطاليا" الساحلية ضمَّ وزيرَيْ الخارجية الأوكراني والروسي في 10 مارس/آذار الماضي. وتخشى تركيا الهزيمة الروسية في الوقت نفسه وإن بدرجة أقل من خوفها من انتصار روسي، ويعود السبب في ذلك من جهة إلى أن روسيا تُعَدُّ شريكا تجاريا مفيدا، ويعود من جهة أخرى إلى أن الأتراك والروس لديهم تفاهمات عملية -وإن كانت في إطار التنافس بينهما- في القوقاز وليبيا وسوريا، وهي تفاهمات قد تتعرَّض للخطر في حالة الهزيمة الروسية. وإذا كان لدى بوتين قائمة بالدول التي سيعاقبها على دعمها لأوكرانيا بعد الحرب، فإن تركيا قريبة من أن تكون على رأس هذه القائمة بعد دول البلطيق وبولندا وبريطانيا والولايات المتحدة، ويكمُن هدف أردوغان الأسمى في تجنُّب المواجهة مع بوتين، الذي قد يستخدم التأثير الاقتصادي أو حتى الهجمات السيبرانية لعرقلة حظوظ إعادة انتخاب الرئيس التركي.
علاوة على ذلك، يريد أردوغان جذب الأوليغارشيين الروس الواقعين تحت العقوبات إلى تركيا، آملا أن تساعد ممتلكاتهم وأموالهم في إنعاش الاقتصاد التركي في خضم معاناته. وقد تصبح تركيا أيضا سوقا عقارية للطبقة الوسطى-العليا الروسية المُتلهِّفة لحماية ثروتها. ولذا فإن إستراتيجية أردوغان في أوكرانيا هي توفير دعم عسكري هادئ لكييف، في الوقت الذي يسعى فيه إلى الحفاظ على القنوات الدبلوماسية مع بوتين، والمكاسب الاقتصادية من روسيا. ولتحقيق ذلك، رفض أردوغان دعم العقوبات الغربية ضد روسيا، حيث تستمر تركيا في شراء النفط الروسي، وعلى عكس نظرائها الغربيين، حافظت أنقرة على فتح مجالها الجوي للطيران المدني الروسي. وقد تكون مثل هذه الإستراتيجية المتناقضة مقبولة لدى بوتين حاليا، فمن غير المُرجَّح أن يفتعل الزعيم الروسي مواجهة مع تركيا حاليا، لا سيما إذا قدَّم أردوغان طوق نجاة اقتصاديا له وللأوليغارشيين الروس. بيد أنه إذا طال أمد الحرب في أوكرانيا، واستمرت مُسيَّرات "تي بي 2" في إسقاط المزيد من القطع العسكرية الروسية الثمينة مثل السفينة "موسكفا"، فإن حظر تركيا لعبور سفن البحرية الروسية من المضائق التركية قد يُقرِّب أنقرة وموسكو أكثر من المواجهة المباشرة.
تركيا وإعادة ترتيب السياسة الخارجية
بينما تُشكِّل الحرب في أوكرانيا ضغوطا متزايدة على حكومة أردوغان لتكون جزءا قويا من التحالف الغربي، فإن التعامل مع الولايات المتحدة لا يزال يُشكِّل تحديا خاصا. فمن جهة، ظفرت تركيا باحترام جديد في حلف الناتو من خلال الدور المذهل الذي لعبته التكنولوجيا العسكرية التركية في المقاومة الأوكرانية. ومنذ بداية الغزو الروسي، جدَّد كثير من القادة الأوربيين علاقاتهم مع أنقرة، بما في ذلك رئيس الوزراء الهولندي "مارك روته"، رغم المشادات المتبادلة بين حكومته وأردوغان، غير أن الرئيس الأميركي "جو بايدن" لم يفتح ذراعيه لأردوغان حتى الآن، إذ لطالما كانت العلاقة بين الرجلَيْن فاترة.
حينما شغل "بايدن" منصب نائب الرئيس، لعب دور المتحاوِر الأساسي مع تركيا بين عامَيْ 2013-2016، لكن العلاقات تدهورت حين لام أردوغان الرئيس "باراك أوباما" آنذاك على وقوع انقلاب عام 2013 في مصر. وقد غضب أردوغان آنذاك أيضا بسبب الدعم الأميركي لوحدات حماية الشعب -المرتبطة بحزب العمال الكردستاني- التي اعتبرتها الولايات المتحدة أداة رئيسية لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وقد وعد بايدن أن الدعم سيكون، بحسب وصف السياسة الأميركية، "تكتيكيا ومؤقتا وبمُقابل"، لكن تلك السياسة سرعان ما تحوَّلت إلى ما يُشبه الدعم مفتوح.
من جهته، شعر بايدن بالإحباط بسبب ارتداد أردوغان عن القيم الديمقراطية وتحديه للأولويات الإستراتيجية والسياسية الأميركية في الشرق الأوسط، وبسبب انتقاده المباشر المتزايد لإدارة أوباما. ومن ثمَّ لم يتأثر بايدن بالدور البطولي لأردوغان مؤخرا في أوكرانيا. وفي أثناء قمة للناتو بمدينة بروكسل في نهاية مارس/آذار الماضي -بعد شهر كامل من الغزو الروسي- تجاهل بايدن طلبا تركيا لعقد لقاء.
حتى إذا أعاد الانخراط التركي في أوكرانيا توجيه السياسة الخارجية التركية لتكون أقرب إلى الغرب، فهناك خطر بالنسبة لأردوغان يتمثَّل في احتمالية أن يكون بايدن، وبعض القادة الغربيين، حريصين على التخلُّص منه إلى درجة أنهم يُرجئون أي تقارب مع أنقرة إلى ما بعد انتخابات 2023. وحتى الآن، يبدو أن حظوظ أردوغان قد ارتفعت نتيجة دبلوماسية المُسيَّرات التي ينتهجها، ونتيجة الدعم الجوهري الذي يُزوِّد به أوكرانيا. لكن من غير المُرجَّح أن يفوز أردوغان بإعادة الانتخاب بسهولة إلا إذا انتعش الاقتصاد التركي وشهد نموا يفوق 10% على مدار العام المقبل. وفي الوقت ذاته، وبينما منحت المُسيَّرات تركيا القدرة على الاضطلاع بدور يفوق ثقلها المُعتاد في السياسة الدولية، فإن اقتصادها قد يتعرَّض لمزيد من التأزُّم بفعل هذه السياسية، التي باتت تلعب دورا حاسما في نفوذ أنقرة الجديد ومستقبل أردوغان السياسي في آنٍ واحد.
_______________________________________
ترجمة: هدير عبد العظيم
هذا التقرير مترجم عن Foreign Affairs ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.