شعار قسم ميدان

إخفاقات بوتين.. هل أغفل الرئيس الروسي دروس التاريخ؟

مقدمة الترجمة

في هذا المقال من مجلة ذا أتلانتيك، يقارن الباحث في التاريخ العسكري "أنطوني بيفُر" بين التكتيكات العسكرية التي تستخدمها روسيا في حربها الحالية في أوكرانيا، والتكتيكات التي استخدمتها القوات السوفيتية إبان الحرب العالمية الثانية، ليخلص إلى أن الرئيس الروسي يعيد اليوم استنساخ الأساليب العسكرية القديمة نفسها، وهو سيناريو يمكنه -وفقا لبيفُر- أن يُفرز نتائج مدمِّرة سببها الأساسي هو عجز بوتين عن تجاوز الماضي السوفيتي لروسيا.

نص الترجمة

قال مستشار ألمانيا الشهير في القرن التاسع عشر "أوتو فون بيسمارك" ذات مرة بأن الغبي وحده هو مَن يتعلم من أخطائه، "فقد تعلَّمت أنا من أخطاء الآخرين"، على حد قوله. المثير للعجب الآن هو أن الجيش الروسي يعيد أخطاء سلفه السوفيتي. لقد أرسل المارشال "جورجي جوكوف" جيوشَه المُدجَّجة إلى برلين في أبريل/نيسان عام 1945 بضغط شديد من ستالين دون دعم من سلاح المشاة. والحال أن قوات فلاديمير بوتين لا ترتكب الخطأ نفسه فحسب، بل إنها استنسخت الطريقة التي ربط بها السوفييت قطعا من الحديد بأبراج دباباتهم أملا في أن يسفر المعدن المضاف عن تفجير الأسلحة المضادة للدبابات استباقيا قبل أن تصطدم بالدبابات، بيد أن هذا لم يجعل الدبابات الروسية بمأمن ولم ينقذها، بل أدى -ببساطة- إلى تعزيز التركيز عليها في المعركة، وجذب فرق القنص الأوكرانية، تماما مثلما اجتذبت الدبابات السوفيتية فرقا من "شبيبة هتلر" و"القوات الأمنية الخاصة" في برلين قبل أكثر من 70 عاما، والذين هاجموهم بسلاح "البانزر فاوست (Panzerfaust)" المضاد للدبابات.

الهوس بالتاريخ

بوتين

إن الهوس بالتاريخ لدى الرئيس الروسي، وبخاصة ما يتعلَّق بـ"الحرب الوطنية العظمى" ضد ألمانيا، انجرف بخطابه السياسي نحو تناقضات ذاتية شنيعة؛ ما أثَّر بجلاء على نهجه العسكري. لقد كانت الدبابات رمزا عظيما للقوة والصلابة أثناء الحرب العالمية الثانية، وأن ينظر إليها بوتين اليوم النظرة نفسها هو أمر عصي على التصديق، فقد أثبتت المركبات أنها عُرضة للطائرات المُسيَّرة والأسلحة المضادة للدبابات في الصراعات الأخيرة في ليبيا وبقاع أخرى، ولننظر مثلا إلى مقدرة أذربيجان على تدمير الدبابات الأرمينية بيُسرٍ؛ وهو ما عُدَّ سببا جوهريا لانتصارها عام 2020 في إقليم "ناغورني-قره باغ".

لكن يبدو أن بوتين لم يتعلَّم كثيرا مثلما لم يَنس كثيرا من الماضي. لقد أخبر المسؤولون السياسيون السوفييت قوات حلف وارسو التي دخلت إلى تشيكوسلوفاكيا في أغسطس/آب 1968 بأنه سيُرحَّب بهم بوصفهم حاملي مشاعل الحرية، والحال أنهم وجدوا أنفسهم مكروهين، ودون وقود كاف، ونهشهم الجوع نهشا، ومن ثَمّ تحطَّمت معنوياتهم. يمكن لقبضة بوتين على وسائل الإعلام المحلية أن تواري الحقيقة عن معظم الشعب الروسي، بيد أن مجنَّديه -الذين يُجبَر بعضهم الآن على توقيع عقود جديدة يتحولون بموجبها إلى متطوِّعين- يدركون الحقيقة دون شك.

إن تعامل بوتين مع شعبه قاسٍ تماما كما هو تعامله مع أعدائه، وقد وصل الأمر إلى حد أن الجيش أحضر محرقة متنقلة إلى أوكرانيا للتخلُّص من الضحايا الروس لتقليل كمية أكياس الجثث العائدة إلى أرض الوطن. وكان لأسلاف بوتين السوفيتيين استخفافٌ مماثل بمشاعر جنودهم، فقد واجه الجيش الأحمر عام 1945 مجموعة من الانتفاضات في صفوف جُنده، فعلى إثر ازدراء الجنود في مناسبات عديدة من قبل المسؤولين والإدارات السياسية، أُمِرَ الجنود بالخروج ليلا إلى أرض قاحلة بعيدة، لا لاسترجاع رفاقهم الذين سقطوا ضحايا، بل لتجريدهم من زيهم الرسمي لإعادة استعماله من طرف الجنود القادمين بدلا منهم.

بوتين

ثمّة نمط آخر يعيد تكرار نفسه في أوكرانيا اليوم، ألا وهو اعتماد الجيش الروسي على البنادق الثقيلة، فقد تباهى الجيش الأحمر في الحرب العالمية الثانية بقوة سلاح المدفعية الخاص به، الذي وصفه حينها بأنه "ربُّ الحرب". وقد أطلق سلاح مدفعية "جوكوف" في عملية برلين ما يربو عن 3 ملايين قذيفة، حيث دُمِّرت المدينة بطريقة تفوق ما أحدثه بها السلاح الجوي الإستراتيجي للحلفاء. واستخدم السوفييت قاذفات صواريخ "الكاتيوشا" -التي سمَّاها الجنود الألمان "آلة ستالين" بسبب صوتها الأشبه بالعويل- للقضاء على أي مقاتلين باقين حاولوا الدفاع عن المدينة. وفي حين أن مدفعية بوتين التقليدية تدكُّ البنايات الأوكرانية المفتوحة بالطريقة القديمة ذاتها لتحطيم مواقع القناصة المحتملة، فإن الذخيرة الحرارية -أي "قنابل الفراغ" المُدمِّرة التي تخلق كرات نارية تسحب الأكسجين بعيدا عن أهدافها- تحل اليوم محل صواريخ الكاتيوشا القديمة.

لقد أجلى لنا بالفعل تدمير الروس مدينتَي "جروزني" و"حَلَب" إلى أي مدى تطوَّرت بالكاد عقيدتهم الخاصة بالصراع داخل المدن منذ الحرب العالمية الثانية، خلافا لعقيدة الجيوش الغربية، إذ كشف التحالف الدولي الذي استعاد مدينتي "الرقة" و"الموصل" من قبضة داعش عن نهج أكثر دقة فيما يستهدفه، فأحكم قبضته بتطويق وحصار كل مدينة ثم تطهيرها القطاع تلو الآخر.

جيش بوتين.. والجيش الأحمر

بالطبع، جيش بوتين ليس الجيش الأحمر، تماما كما أن روسيا بوتين ليست هي روسيا الاتحاد السوفييتي. فقد طالت يدُ الفساد المؤسساتي المستشري في أرجاء الحكومة كل شيء، وبات الضباط ينتفعون من بيع قطع الغيار ويتجاهلون الدعم اللوجستي الضروري لصالح المشاريع الفخمة. وبينما يُدمِّر المقاتلون الأوكرانيون الدبابات الروسية "تي 72" التي تعود لعهد الحرب الباردة تماما مثلما يقتنص الصياد طيور البط صفا صفا، تمثَّلت الأولوية الروسية في الاحتفاظ بما يكفي من المال لدفع أثمان الجيل الجديد من دبابات "أرماتا" العالية التقنية. ومع أن دبابات "أرماتا" لا يزال بإمكانها أن تقوم بما هو أكثر من المرور عبر الميدان الأحمر يوم النصر في التاسع من مايو/أيار من كل عام لإبهار الجماهير ووسائل الإعلام الأجنبية، إلّا أنها في ساحة المعركة فعليا ستواجه المصير نفسه الذي واجهته دبابات "تي 72".

ولا تزال قوات النخبة وجنود المظلات وقوات "سبِتسناز" الخاصة موجودة داخل الجيش الروسي، لكن لا يسعها سوى تحقيق الشيء القليل بمفردها في ظل فوضى الإدارة العسكرية السيئة. إن فقدان الحكمة والبصيرة الذي يشتمل عليه إدخال نظام الاتصالات المُشفَّرة الجديد للجيش الروسي أمر كان سيصعب تصديقه في الأزمنة السوفيتية الخوالي الأكثر انضباطا، حينما جوبهت أخطاء كهذه بالعقاب الشديد. ونظام الاتصالات هذا، الذي يُفترَض أنه آمن، يعتمد على أبراج الجيل الثالث التي نسفتها روسيا حينما اجتاحت أوكرانيا. ولأن النظام خارج الخدمة الآن بكل بساطة، تحتَّم على الضباط الروس أن يتواصلوا بالمكالمات الصوتية عبر الهواتف المحمولة، بينما أنصت إليهم المتطوعون الأوكرانيون المبتهجون بكل سهولة.

ثمَّة مؤشرات تدل على أن قوات بوتين تعدِّل الآن من تكتيكاتها وتُعِد العُدة من أجل تحولَيْن إستراتيجيَّيْن مُهمَّيْن في شرق أوكرانيا وكييف.
ثمَّة مؤشرات تدل على أن قوات بوتين تعدِّل الآن من تكتيكاتها وتُعِد العُدة من أجل تحولَيْن إستراتيجيَّيْن مُهمَّيْن في شرق أوكرانيا وكييف.

إن اجتياح جورجيا عام 2008، الذي مثَّل نكسة للجمهورية السوفيتية السابقة الصغيرة، أجلى رغم ذلك ضعفَ روسيا وعدم كفاءتها، وأسفر عن خطط لإصلاح القوات المسلحة الروسية. وقد باءت هذه الجهود بالفشل الذريع كما هو واضح. ويقول لنا هذا الأمر الكثير عن فقدان المُثل والنزاهة والشعور بالواجب داخل نظام بوتين، وإنه لمن العسير أن نرى كيف يمكن لهذا أن يتغيَّر في هذه المرحلة المتأخرة والحاسمة من اجتياح أوكرانيا.

لقد فاجأ الجيش الأحمر نفسه والعالم أجمع في "ستالينغراد" عام 1942 بتحوُّل مفاجئ، وثمَّة مؤشرات تدل على أن قوات بوتين تعدِّل الآن من تكتيكاتها وتُعِد العُدة من أجل تحولَيْن إستراتيجيَّيْن مُهمَّيْن في شرق أوكرانيا وكييف. فالإصرار الستاليني لتعديل مسار الجيش الروسي -مشفوعا بإعدام الفارين والضباط الفشلة- من شأنه أن يوسِّع من الصراع إلى حمام دم من التدمير الطاحن. ومع ذلك، وخلافا لكل التوقعات قبل الحرب، فإن انهيار الجيش الروسي يبدو احتمالا قائما ولو ضئيلا، فقد يُفضِي الانهيار التام للمعنويات إلى انسحاب مخزٍ، وهو سيناريو يستتبع نتائج مدمرة محتملة لعجز بوتين عن تجاوز الماضي السوفيتي لروسيا.

___________________________________

ترجمة: كريم محمد

هذا التقرير مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : مواقع إلكترونية