من الصواريخ إلى المسيرات.. هكذا بنت المقاومة الفلسطينية أسلحتها
في مارس/آذار من العام 2021، أسقطت طائرات "إف-35" التابعة لسلاح الجو الإسرائيلي طائرتين مسيرتين محملتين بالذخيرة، كانت قادرة -حسبما أفادت المصادر العبرية- على الطيران لمسافة 1200 ميل أو ما يزيد عن 20 ساعة. ورغم أن إسرائيل اعتادت اتهام إيران باستخدام دول الجوار -سوريا والعراق ولبنان- منصاتٍ لشن الهجمات عليها، فإن هذه هي المرة الأولى التي تتهم فيها تل أبيب طهران بإرسال طائرات مسيرة مباشرة نحو عمق الأراضي المحتلة الخاضعة للسلطات الإسرائيلية.
بيد أن الحكومة الإسرائيلية آثرت إخفاء تفاصيل الحادثة التي لم تكشف عنها إلا بعد مرور عام كامل، إذ أعلن جيش الاحتلال في مارس/آذار الماضي، وفي خضم انشغال العالم بالحرب الروسية-الأوكرانية، عن إسقاط طائرتين مسيرتين قبل عام، وتذرع المسؤولون الإسرائيليون بمراعاة الحساسيات الإقليمية مع بعض الدول الجارة والصديقة لتبرير تأخير الإعلان، لكن هذا السبب لم يكن الوحيد الذي جعل دولة الاحتلال تؤخر إعلانها، فقد اختار الإسرائيليون هذا التوقيت لتزامنه مع إحياء الاتفاق النووي المبرم عام 2015 مع إيران، إذ تحاول تل أبيب التكثيف من رسائلها التحذيرية من تحرير المليارات من الأموال الإيرانية المجمدة حاليا بسبب العقوبات الدولية، خوفا من أن تتمكن طهران عبر هذه الأموال من تطوير ترسانتها العسكرية التي ستهدد أعداءها في المنطقة.
تتخوف إسرائيل أيضا من أن تساعد الأموال المجمدة إيران على استعادة عافيتها الاقتصادية؛ ما سيسمح لها من تكثيف دعمها لحركات المقاومة، وفي مقدمتها حركة حماس، عدو تل أبيب الأول، وتعد هذه هي الحُجّة الأهم الذي تحاول الحكومة الإسرائيلية من خلالها إقناع نظيراتها في الغرب بخطورة الوصول إلى نسخة جديدة من الاتفاق النووي، وما قد يعنيه ذلك من إكمال إيران خطتها بتسليح المقاومة الإسلامية.
رحلة تسليح طويلة
في عام 1987، تأسس جناح حركة حماس العسكري لدعم إستراتيجية الحركة الجهادية والسياسية في فلسطين المحتلة، شكّل هذا التأسيس بداية انضواء مقاومي الحركة تحت ما يشبه الجيش شبه المنظم الذي تديره قيادة عسكرية هيكلية هدفها تنفيذ عمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي.
بدأت الحركة المسلحة مواجهتها مع إسرائيل بالرصاص والقنابل يدوية الصنع، لكنها سرعان ما توجهت إلى المجال الذي لطالما حاولت إسرائيل منعه، ألا وهو "صناعة الصواريخ"، وبرغم أن دولة الاحتلال وصفت تلك الصواريخ بـ"البدائية"، فإن انسحاب جيش الاحتلال من غزة عام 2005 شكّل فرصة حقيقية لحماس لتطوير هذا السلاح المهم.
استعملت حماس في بادئ الأمر الذخائر الإسرائيلية التي جمعتها بعد انسحاب قوات الاحتلال من القطاع في إنتاج الصواريخ، ومع حلول سنة 2006 تغيّرت معادلة التسليح في الداخل الفلسطيني بعد أن فتحت إيران طريقا لتهريب الصواريخ والذخيرة إلى قطاع غزة عبر اليمن والسودان، بإشراف من القيادي العسكري "محمود المبحوح" الذي اغتالته إسرائيل في الإمارات عام 2010. وبدأت الحركة بعد ذلك في الاستفادة من خط إمداد سري من طهران ودمشق الراعيتين للمقاومة بقوة في تلك الفترة؛ ما ساعد حماس على امتلاك الصواريخ بعيدة المدى والمتفجرات القوية وغيرها، وهي أسلحة وصل معظمها إلى قطاع غزة عبر سلسلة من الأنفاق الضيقة على الحدود المصرية.
وفقا للمصادر الإسرائيلية، يبدأ طريق تهريب الأسلحة من إيران باتجاه اليمن، ومن هناك يصل إلى السودان عبر البحر الأحمر. لاحقا، تتجه الشاحنات من السودان إلى الصحراء في رحلة طولها 1000 كيلومتر (620 ميلا) إلى مصر، حيث تُنقل الأسلحة عبر الأنفاق المحفورة أسفل قطاع غزة بمساعدة البدو. ورغم أن مصر ودولة الاحتلال الإسرائيلي فرضتا حصارا مشددا على هذه العملية بعد عام 2007 الذي تمكنت فيه حماس من السيطرة على غزة وإخراج السلطة الفلسطينية من القطاع، فإن عمليات تهريب السلاح اكتسبت زخما بعد انتخاب الرئيس المصري الراحل محمد مرسي في عام 2012.
ظهرت الصواريخ "أجنبية الصنع"، كصاروخ الكاتيوشا، لأول مرة خلال العدوان الإسرائيلي على غزة نهاية عام 2008، وحضرت المفاجأة الأكبر بالنسبة إلى الإسرائيليين خلال عدوان عام 2012، حين أطلقت المقاومة صواريخ بعيدة المدى من طراز "فجر-5" الإيرانية، ليظهر بذلك دور إيران جليا في تطوير حماس لترسانتها الصاروخية. لكن مع تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي السلطة في عام 2013، عاد التشديد الكبير على حركة نقل السلاح لحماس، فقد خنق النظام المصري الجديد الأنفاق التي تستخدمها حماس لنقل الأسلحة، فأُغلقت غالبية طرق التهريب والأنفاق تحت الأرض على الحدود بين غزة ومصر المستخدمة لنقل الأسلحة المهمة كالصواريخ المضادة للدبابات.
دفعت هذه الإجراءات المقاومة الفلسطينية إلى التوجه نحو الصناعة المحلية، وحقق مهندسو حماس مفاجآت سارة مستفيدين من خبرات إيران الفنية بعد أن أخرجوا إلى النور صواريخ يصل مداها إلى 80 كيلومترا (50 ميلا) ورؤوسا حربية محملة بـ175 كيلوجراما (385 رطلا) من المتفجرات.
عملت طهران على توفير التصاميم والمعرفة التقنية التي يمكن أن يستخدمها الفلسطينيون لصنع الصواريخ، إذ أحالتهم إلى بعض المواد الشائعة للقيام بهذه الصناعة المعقدة، مثل الأنابيب وزيت الخروع والذخيرة الإسرائيلية المستهلكة. يعلق "إفرايم سنيه"، العميد الإسرائيلي المتقاعد ونائب وزير الدفاع السابق، على هذا الأمر قائلا إن تصاميم الصواريخ إيرانية، لكن إنتاجها فلسطيني محلي، فصاروخ "بدر-3" الذي أطلقته حماس -مثلا- خلال المعركة الأخيرة مع إسرائيل في مايو/ أيار الماضي، يستند إلى النموذج الإيراني المعروف باسم "القاسم"، والذي استخدمته الميليشيات المدعومة من إيران في العراق.
العدوان الأخير يؤرق إسرائيل
حملت الجولة القتالية الأخيرة -التي دامت 11 يوما بين حماس وإسرائيل في مايو/ أيار الماضي- إشارات عديدة على حضور البصمة الإيرانية في تسليح الحركة، ففي هذا العدوان سقطت الصواريخ لمسافات غير مسبوقة في قلب تل أبيب وبالقرب من مطار بن غوريون الدولي، ووصل إلى ميناء إيلات الإسرائيلي المطل على البحر الأحمر صاروخ "عياش-250" الجديد الذي يبلغ مداه 155 ميلا.
علاوة على ذلك، حافظت حماس في هذه الحرب، التي سقط فيها أكثر من 4000 صاروخ من أصل ترسانة تقدر بـ14 ألف صاروخ، على معدل من 300-450 صاروخا يوميا على الرغم من القصف الإسرائيلي المضاد، وهو ما يمثل نسبة أعلى بـ50٪ إلى 100٪ من حجم النيران في العدوان السابق عام 2014.
تجاوزت الصواريخ الفلسطينية أيضا "القبة الحديدية" التي تنفق عبرها إسرائيل عشرات الآلاف من الدولارات على كل صاروخ تعترضه، فوفقا للأرقام الصادرة عن جيش الاحتلال الإسرائيلي، فإن ما يقرب من نصف الصواريخ التي أُطلقت من غزة قد تم اعتراضها من قِبَل إسرائيل، وهذه نسبة اختراق أعلى بكثير مما تم تسجيله في جولتَي 2014 و2019.
كذلك، استخدمت حماس في هذه الحرب نوعا جديدا من الصواريخ المضادة للدبابات، هو صاروخ "كورنيت"، الذي تسبب في مقتل الجندي الإسرائيلي الوحيد خلال هذا الصراع. ونشرت قوات المقاومة العديد من الأنظمة القتالية المختلفة، كطائرة شهاب كاميكازي المسيرة، والتي يبدو أنها صُنعت في غزة. كما أطلق الفلسطينيون مركبة تعمل بالتحكم عن بعد تحت الماء (UUV) هدفها شن هجوم على السفن والمنصات النفطية الإسرائيلية. بجانب هذه الأسلحة، اعتمدت حماس في مواجهتها العدوان الإسرائيلي على سلسلة من صواريخ القسام المصنوعة من أنابيب معدنية بتكلفة تتراوح بين 300 و800 دولار، وهي صواريخ لها رؤوس حربية محدودة المدى وصغيرة، كما ظهرت أنواع أكبر من الصواريخ تكلف بضعة آلاف من الدولارات، مثل سلسلة "R-160″ و"Sejil" التي يمكن أن تضرب مدنا مثل القدس المحتلة وتل أبيب (تبعد حوالي 30-40 ميلا عن غزة)، ويقول الإسرائيليون إن الفضل في تطور الصناعة الصاروخية لحماس يرجع أساسا للمستشارين الفنيين الإيرانيين.
ورغم قوة هذه الترسانة الصاروخية وفعاليتها، فإن الطائرات المسيرة تظل الهاجس الأخطر الذي يؤرق تل أبيب، فهذه الطائرات ستكون بدون شك ورقة مهمة في جميع المواجهات المقبلة بين فصائل المقاومة وبين إسرائيل، إذ أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي "بيني غانتس" قبل أشهر قليلة عن إسقاط طائرة إيرانية مسيرة من طراز "شاهد-141" دخلت المجال الجوي الإسرائيلي في عام 2018، وذكر أن الطائرة المسيرة أطلقها "مبعوثون إيرانيون في سوريا"، وكانت تحمل مادة "TNT" المُتفجرة لمسلحين فلسطينيين في الضفة الغربية.
يعود هذا التخوف الكبير من طرف إسرائيل من الطائرات المسيرة إلى خطورتها في القيام بالمهمات العسكرية الهجومية وتحقيق نتائج واضحة عن بعد، بالإضافة إلى قدرتها على جمع المعلومات الاستخباراتية المهمة، حسبما يفيد رامي أبو زبيدة، الباحث الفلسطيني المختص بالشأن العسكري للمقاومة الفلسطينية. واعتبر أبو زبيدة في حديثه "لميدان" أن هذه الطائرات تحضر أكثر فأكثر في مجال العمل العسكري، فقد شاركت في العديد من المعارك في سوريا والعراق وأذربيجان وغيرها.
ويؤكد أبو زبيدة أن المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية قلقة من قدرة إيران الواضحة وتطورها في مجال صناعة الطائرات المسيرة، إذ تعلم تل أبيب أن طهران لن تكون وحدها المستفيدة من هذه الطائرات، وأنها ستشارك حلفاءها الطبيعيين، كحزب الله في لبنان وحماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، الخبرات والأفكار والتكنولوجيا، وهذا ما أكده استعمال حليفها اليمني -جماعة أنصار الله الحوثي- للطائرات المسيرة في الهجمات التي شنتها الجماعة على المملكة العربية السعودية.
مسيرة التسلح متواصلة
رغم المضايقات والتحولات الإستراتيجية في المنطقة إثر موجة التطبيع الأخيرة لعدة دول عربية مع دولة الاحتلال، تواصل حماس محاولاتها للتسليح رغم الحصار، فقد أعلنت سلطات الاحتلال الإسرائيلي في الثالث من مارس/ أذار الماضي عن إحباط تهريب 7 آلاف رصاصة لقطاع غزة. وقالت هيئة الجمارك الإسرائيلية في ميناء أسدود بأنه تم ضبط 7 آلاف رصاصة 9 ملم كانت مخبأة داخل لفافات مواد عازلة مخصصة للتهريب. هذا الخبر لم يكن الأول من نوعه الذي يتحدث عن ضبط معدات تتعلق بالتسلح في قطاع غزة.
في هذا السياق، يقول "سعيد بشارات"، رئيس تحرير شبكة الهدهد للشؤون الإسرائيلية، إن قضية تهريب الأسلحة إلى داخل قطاع غزة معقدة جدا، وهذا مما يدل على المجهود الضخم الذي تقوم به إسرائيل لمنع تهريب السلاح إلى القطاع. ويضيف بشارات في حديثه لـ"ميدان" أن التشديد على تهريب الأسلحة والأموال إلى القطاع زاد بعد 2014، لكن يظل السلاح خطا أحمر عند إسرائيل أكثر من المال، لذلك تجند كل قواتها لمنع وصوله إلى قوى المقاومة.
وقال المتحدث نفسه إن إسرائيل تبتكر كل يوم أساليب جديدة وآليات معينة لوقف وصول الأسلحة إلى حماس والجهاد الإسلامي، ومن أجل ذلك بنت الجدران فوق الأرض وتحت الأرض، وركّزت في علاقاتها مع النظام المصري على اتخاذ الوسائل التي تمنع أي تهريب، كما أنها توجهت لتطبيع علاقاتها مع السودان بهدف تحييد هذه المنطقة من أن تكون نقطة تجميع للأسلحة قبل نقلها إلى غزة، كما لا تدخر السلطات الإسرائيلية جهدا في التضييق على تهريب الأسلحة من ليبيا.
ويشدد "بشارات" على أن إيران ما زالت مصرة على دعم حماس رغم الظروف التي تُحيط بها وانشغالها بملفات أخرى، إذ يقول: "ايران لديها أولوية لدعم أي طرف يقاتل إسرائيل، وهي لا تخفي نواياها بدعم حماس، سواء عسكريا أو ماليا، فهي تهدف إلى خلق نقاط قريبة من الاحتلال بغية ردعه".
وفي السياق ذاته، يقول رامي أبو زبيدة، الباحث المختص بالشأن العسكري للمقاومة الفلسطينية، إن الفصائل الفلسطينية تتقن فتح الأبواب المغلقة لإيصال السلاح إليها، فقد استطاعت -بواسطة الخبراء الداخليين الذين تدرب بعضهم في الخارج- صناعة صواريخ قادرة على الوصول إلى كل نقطة في الداخل المحتل، كما تمكنت المقاومة من الوصول إلى أعماق البحر للبحث عن بعض مخلفات الحروب لاستعمالها في تصنيع الأسلحة.
وأشار "أبو زبيدة" في حديثه لـ"ميدان" إلى أن للمقاومة طرقها الخفية التي تستطيع من خلالها إدخال السلاح ونقله بسلاسة إلى قطاع غزة، ففي كل مواجهة تخوضها حماس مع الاحتلال يظهر التطور الكبير في قدرات المقاومة، وهو دليل على نجاحها في خطتها المهمة في تطوير نظمها العسكرية رغم الحصار الشديد.
لكن، ورغم هذه الطفرة المهمة في نوعية الأسلحة التي أصبحت المقاومة الفلسطينية تستحوذ عليها، إلا أن التحدي الصعب حاليا هو تطوير هذه الأسلحة والوصول إلى تكنولوجيا متطورة تجعل من هذه الصواريخ أكثر دقة في الوصول إلى الأهداف الإستراتيجية في الداخل الإسرائيلي المحتل، ولحدوث ذلك، ستكون إيران -أكثر من أي وقت مضى- حاضرة في الصراع الفلسطيني، مستغلة مدها فصائل المقاومة بالسلاح والخبرة والمستشارين العسكريين، ونزوع بعض الدول العربية نحو اللحاق بقطار التطبيع.