حرب نووية دون قنابل.. ماذا تريد روسيا من مفاعل تشرنوبل؟

epa08192913 The new protective shelter over the remains of the nuclear reactor Unit 4 at the Chernobyl nuclear power plant, is seen in Chernobyl, Ukraine, 04 February 2020. Fifty former inhabitants of Prypyat met with fifty tourists from different countries on the central square of the city during celebration of the 50th birthday of a ghost-town Pripyat at Chernobyl Exclusion Zone. The city was founded on 04 February 1970 to serve the nearby Chernobyl Nuclear Power Plant. Some 47,000 people of the city of Prypyat were evacuated after the explosion on 26 April 1986. The explosion of Unit 4 of the Chernobyl nuclear power plant in the early hours of 26 April 1986 is still regarded as the biggest accident in the history of nuclear power generation. EPA-EFE/SERGEY DOLZHENKO

مقدمة الترجمة:

يعدُّ استيلاء روسيا على منشأة تشرنوبل النووية في أوكرانيا حدثا يجب الوقوف عنده وتحليله تحليلا جيدا، وهو ما تتناوله "أدريانا بترينا" في تحليلها الذي نشرته مجلة "الأتلانتيك" الأميركية. تستعرض بترينا الأسباب التي دفعت روسيا للاستيلاء على المنشأة، وتقرأ النتائج المترتبة على ذلك.

 

نص الترجمة:

أدى استيلاء الجيش الروسي على منشأة تشرنوبل النووية في شمال أوكرانيا، في نهاية فبراير/شباط الماضي، إلى مستويات مرتفعة من النشاط الإشعاعي، وكذلك من الارتباك، إذ إن المحطة مُشِعَّة منذ انفجار تشرنوبل الشهير عام 1986، الذي أدى إلى إطلاق مواد نووية في الغلاف الجوي بارتفاع يصل إلى ثمانية كيلومترات، وأودى بحياة عدد من الناس أكبر بكثير مما قدَّرته الأمم المتحدة حين توقَّعت وفاة أربعة آلاف شخص على المدى الطويل. وفي حين أن المحطة اليوم خارج الخدمة، يبقى السؤال هو: لماذا يريدها الجيش الروسي؟

لعل القوات الروسية استولت على المنشأة لأنها في متناول الأيدي، فهي تقع على طول الطريق الواصل بين بيلاروسيا، حليفتها المُقرَّبة، والعاصمة الأوكرانية كييف، الواقعة حاليا تحت القصف. أو لعل السبب، كما ادعت وزارة الدفاع الروسية، أن الجيش أراد حماية البنية التحتية للمحطة، ليمنع وقوع أي "استفزاز نووي". أو لعل الخطوة جاءت تحذيرا للناتو بحسب ما صرَّح به مصدر أمني روسي لوكالة "رويترز".

إعلان

 

مهما كانت أسباب الجيش الروسي، فإن التداعيات على الأوكرانيين واضحة: احتمالية تكرار الكارثة المشؤومة، التي أمضوا ثلاثة عقود وبذلوا موارد هائلة من أجل منع تكرارها. كنت قد أجريت مقابلات مع عشرات من عمال النظافة في التسعينيات لإعداد كتابي "الحياة المكشوفة: المواطنون الحيويون بعد تشرنوبل"، وعرفت إلى أي مدى حُفِرَت ذكرى الانفجار في أوكرانيا. وبحسب ما قاله وزير الطاقة الأوكراني في بيان أصدره نهاية الشهر الماضي، "يُعَد التحكم الروسي في المنشأة واحدا من أكثر التهديدات رعبا لأوروبا اليوم… وأي عمل استفزازي يقوم به غزاة تشرنوبل… قد يتحوَّل إلى كارثة بيئية عالمية جديدة".

 

تعد هذه المواجهة بين "غزاة تشرنوبل" والناجين منها في حد ذاتها عملا عدائيا. لقد شكَّلت كارثة تشرنوبل نداءً تجمَّع حوله المنادون باستقلال أوكرانيا في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي، كما أصبحت معالجة آثار صدمة تشرنوبل على الشعب والبيئة معا عنصرا مهما من عناصر الهوية الوطنية الأوكرانية. وبالاستيلاء على المنشأة في إطار عملية غزو وحشية، فإن روسيا تخاطر بإثارة جزيئات مشعة، وتخاطر أيضا بتأجيج إرث تشرنوبل المؤلم، وتذكير الأوكرانيين باستهانة الاتحاد السوفيتي بحيواتهم.

 

الذاكرة المُشعِّة

epa08348334 A man holds a dosimeter close to an abandoned house burning in the middle of a forest fire near the village of Volodymyrivka, in the exclusion zone around the Chernobyl nuclear power plant, Ukraine, 05 April 2020 (issued 07 April 2020). Ukraine's State Emergency Service said firefighters and rescue teams continued to put out fires at two sites near Rahivka, adding that radiation levels in the capital, Kyiv (Kiev), and Kyiv region is within a normal range. The total area affected by the fire near Rahivka was reported to be five hectares. The Kyiv police said they have identified on 06 April 2020 a man who allegedly started a mass fire in the uninhabited exclusion zone around the decommissioned Chornobyl nuclear plant last week. The 27-year-old resident of the Rahivka village told investigators that he had set some garbage and grass on fire for fun. The territory is a long-vacated area near where an explosion at the Chernobyl Soviet nuclear plant in April 1986 sent a plume of radioactive fallout high into the air and across swaths of Europe. EPA-EFE/YAROSLAV YEMELIANENKO

لقد وصلت تداعيات انفجار تشرنوبل الأولي في 26 أبريل/نيسان عام 1986، وما تبعه من حرائق، إلى بيلاروسيا وأوكرانيا وروسيا، وحتى أوروبا. أما العملية الخفية والأكثر كُلفة على أوكرانيا فكانت احتواء الإشعاع، فقد تواصلت الجهود على مدار أكثر من 30 عاما، حتى تم الانتهاء عام 2019 من بناء صُمِّم خصيصا للاحتفاظ الآمن ببقايا المنشأة العالية الإشعاع لمدة قرن من الزمان، وكان العمل قاسيا من الناحية الجسدية: إذ أزال بعض الأشخاص قِطَعا من القلب النووي المشع للمفاعل بالقرب من وحدة المفاعل رقم 4 باستخدام أدوات بسيطة مثل المعاول والدلاء.

إعلان

 

أُرسِل أكثر من 600 ألف جندي مع إطفائيين وعمال آخرين من شتى أنحاء الاتحاد السوفيتي إلى موقع الكارثة لأغراض التنظيف واحتواء الإشعاع، وقد جرَّف بعضهم سطح التربة الملوثة، في حين قام آخرون بأخطر عمل على الإطلاق، وهو جرف الحطام العالي الإشعاع إلى فوهة المفاعل المُدمَّر في عمليات متتالية استمرت كل واحدة منها دقيقة واحدة، وهي مدة كافية لتمتص أجسادهم إشعاعات تساوي تعرضهم للإشعاع طوال حياتهم. وقد أطلق هؤلاء على أنفسهم اسم "الروبوتات الحيوية (بيو-روبوت)"، علاوة على أن البعض لم يتقيَّد أحيانا بقاعدة الدقيقة.

 

خلال إحدى المقابلات مع رجل كان في إجازة لمدة أسبوعين من العمل في موقع المفاعل، كشف الرجل عن ساقه وأراني جزءا من الجلد وقد تجعَّد للوراء ليشكل حلقة فوق كاحله، ثمَّ أخبرني قائلا: "هذا بسبب الإشعاع". وقد عدَّ الرجل نفسه ضمن "الأحياء الأموات"، مضيفا: "لقد مُحِيَت ذاكرتنا. أنت تنسى كل شيء، نحن نمشي كالجثث". هذا وتمتد منطقة تشرنوبل المحظورة، حيث لا يمكن أن يعيش البشر، ولا يتسنّ للعلماء البقاء سوى مدة وجيزة، حتى 2500 كيلومتر مُربَّع حول موقع المفاعل.

epa08192911 General view of the abandoned city of Prypyat, not far from Chernobyl, Ukraine, 04 February 2020. Fifty former inhabitants of Prypyat met with fifty tourists from different countries on the central square of the city during celebration of the 50th birthday of a ghost-town Pripyat at Chernobyl Exclusion Zone. The city was founded on 04 February 1970 to serve the nearby Chernobyl Nuclear Power Plant. Some 47,000 people of the city of Prypyat were evacuated after the explosion on 26 April 1986. The explosion of Unit 4 of the Chernobyl nuclear power plant in the early hours of 26 April 1986 is still regarded as the biggest accident in the history of nuclear power generation. EPA-EFE/SERGEY DOLZHENKO

صارت كارثة تشرنوبل بمثابة نقطة تحوُّل في استقلال أوكرانيا. بحلول تسعينيات القرن الماضي، كان الإطار الصناعي للاتحاد السوفيتي قيد الانهيار، وعصف التضخم المفرط بمُدَّخرات الأسر، وفي تلك الأثناء، تكشَّفت الكارثة الصحية الناتجة عن تشرنوبل، حيث تدفَّق إلى العيادات أولئك الذين أصيبوا بالسرطانات والأمراض القلبية والمناعية الذاتية وغيرها من الاعتلالات. وقد بحث هؤلاء عن الخلاص من أمراضهم التي قالوا إنها مرتبطة بتشِرنوبل، بيد أن مثل هذا الربط رفضه خبراء علميون دوليون ونظراؤهم السوفييت، لأن المرضى لم يملكوا سوى إثباتات ضعيفة -إن وُجدت- على تعرُّضهم للإشعاع. لقد واجه هؤلاء عبئا مستحيلا ليبرهنوا على ادعاءاتهم في خضم الاستهانة بالتداعيات المُدمِّرة للكارثة على الصحة العامة.

إعلان

 

روسيا في تشِرنوبل

باستيلاء روسيا على تشرنوبل، فإنها تهدد صراحة بإعادة كل هذا الألم من جديد. لم تُشيَّد المفاعلات النووية النشطة الهَرِمة الخمسة عشر المنتشرة في شتى أرجاء أوكرانيا من أجل الصمود أمام غزو عسكري شامل. وإن نجا البعض من حوادث سقوط الطائرات، فإنه لن ينجو على الأرجح من هجمات صاروخية أو مدفعية غير مقصودة، ولن يستطيع أيضا صد هجمات سيبرانية مزعزعة للاستقرار، أو حماية موظفين في مناصب حساسة من الوقوع رهائن، وهو ما فعله الجيش الروسي في تشرنوبل بحسب وزير الطاقة الأوكراني. وقد يقرر بعض هؤلاء الموظفين الفرار على خلفية التهديدات بالعنف، أما بالنسبة إلى الجيش الغازي الذي يسيطر على هذه المفاعلات، فقد يُحوِّل التهديد بالرعب النووي إلى الانخراط في ابتزاز نووي على نطاق أوسع.

An armoured personnel carrier is seen during tactical exercises, which are conducted by the Ukrainian National Guard, Armed Forces, special operations units and simulate a crisis situation in an urban settlement, in the abandoned city of Pripyat near the Chernobyl Nuclear Power Plant, Ukraine February 4, 2022. REUTERS/Gleb Garanich

بحسب أحد المحللين، ستكون السيطرة الروسية على منشآت الطاقة النووية الأوكرانية، النشطة منها والعاطلة على حد سواء، بمثابة "حرب نووية دون قنابل" في حال العبث بهذه المنشآت. فحين استولى الجيش الروسي على تشرنوبل، حاز فلاديمير بوتين بدوره على كل الوسائل التي قد تسبِّب دمارا نوويا عبر شكل جديد من القوة "القذرة". إن روسيا الآن في موضع يمكِّنها من التسبُّب في كارثة فورية بإعادة فتحها لإرث أسود كان من المفترض أن يظل مدفونا. وقد ينتج عن ذلك أيضا وجود مناطق غير صالحة للسكن في جميع أنحاء أوكرانيا، وإجبار سكان البلد على العودة إلى أعمال التنظيف الخطيرة غير الإنسانية.

 

كل من قابلتهم في أوكرانيا في التسعينيات إما كانوا يعرفون واحدا من أولئك "البيو-روبوت" أو كان أحد أفراد عائلته واحدا منهم. لقد قاموا بحماية أوروبا على مسؤوليتهم الخاصة، لكنهم علموا أن هذا العمل واجب عليهم إنجازه. ويعلم اليوم أبناء هؤلاء "البيو-روبوت" وأحفادهم في أوكرانيا تمام العلم مدى صعوبة الطريقة التي نجحوا بها في تحقيق الاحتواء النووي في تشرنوبل، وأيضا مدى هشاشته في الوقت نفسه. إن الاستقرار النووي، مثله مثل الاستقرار الديمقراطي، توازن حساس، وبينما يرفع الأوكرانيون السلاح في جميع أنحاء بلادهم، فإنهم يقاتلون للدفاع عن كليهما.

إعلان

——————————————————————————–

هذا المقال مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: هدير عبد العظيم.

المصدر : مواقع إلكترونية

إعلان