باشاغا وصالح وحفتر.. كيف يعيد تحالف أعداء الأمس رسم مستقبل ليبيا؟
مرة جديدة، أعاد عقيلة صالح، رئيس البرلمان الليبي، البلاد إلى مربع الصفر. في عام 2014، كان "صالح" قد وصل للتو إلى رئاسة البرلمان الليبي، لكنه لم يكد يُمضي عدة أشهر في منصبه، حتى قرَّرت أعلى سُلطة دستورية بُطلان الانتخابات مقابل تمديد عمل المؤتمر الوطني الذي انبثق عن الثورة التي أطاحت بالقذافي. رفض الرجل القرار، مُتسبِّبا في انقسام ليبيا بين حكومتين مُتنازعتين، واحدة في الشرق، وأخرى في الغرب، ولم يكتفِ الرجل الطاعن في السن بما آلت إليه البلاد، فرفض بعد ذلك اتفاق "الصخيرات"، أهم توافق سياسي في تاريخ الأزمة رعته الأمم المُتحدة، ثم منح بعدها الجنرال الليبي خليفة حفتر شرعية إسقاط العاصمة الليبية طرابلس بالقوة.
ارتدَّت هزائم حفتر سلبا على عقيلة صالح بعد وصول عبد الحميد الدبيبة إلى رئاسة حكومة انتقالية كان رئيسها نفسه ضمن قائمة الإرهاب التي أصدرها البرلمان الليبي عام 2017، وبعد فشل إجراء الانتخابات الرئاسية التي عرفت معارك وسجالات بين الدبيبة وصالح، تحرَّك الأخير بسرعة لعزل رئيس الحكومة، وتعيين حكومة انتقالية جديدة يترأسها فتحي باشاغا، العدو القديم لصالح والوحيد، وأحد القلائل الذين يمتلكون نفوذا سياسيا وعسكريا في طرابلس يمكنه مضاهاة نفوذ القوى الموالية للدبيبة. وبينما تتجه ليبيا إلى شبح الانقسام القديم بعودة حكومتين منفصلتين، يبدو عجز الأمم المتحدة في الوصول إلى حل سياسي يُنهي حالة الصراع في الداخل الليبي جليا للجميع، فهل سيكون بإمكان التحالفات الجديدة تغيير خارطة الصراع في ليبيا وفرض واقع سياسي جديد في البلاد؟
تحالف بعد عداء
في نوفمبر/تشرين الثاني العام الماضي 2021، حطَّت طائرة فتحي باشاغا، وزير داخلية حكومة الوفاق السابق، بمطار القاهرة. قدِم المسؤول الليبي إلى بلاد الجنرال عبد الفتاح السيسي لزيارة مقر المخابرات العامة المصرية، الذي كان حتى وقت قريب أحد المعاقل التي قدَّمت الدعم إلى حفتر إبان حملته العسكرية على طرابلس. وقتها، كان باشاغا أحد أهم القادة الذين أداروا المعارك على الجبهة الأخرى، بوصفه أحد أهم رجال حكومة الوفاق (بقيادة فايز السراج) قبل حلِّها، وعرّاب الاتفاق التركي الليبي الذي غيَّر خريطة الصراع. وبينما تغيب أي مصادر موثوقة عن أهداف تلك الزيارة، أو ما دار فيها، سرعان ما كشفت الأيام اللاحقة عن طرف من نتائجها، بعدما التقى حفتر وباشاغا وجها لوجه لأول مرة في زيارة للأخير إلى الشرق الليبي، ليُشكِّل الثنائي بعدها تحالف "أعداء الأمس" الذي أعاد كل الوجوه القديمة إلى المشهد من جديد.
🔵#صور| لقاء مرشحي الرئاسة من بينهم "فتحي باشاغا" و"أحمد معيتيق" و"عبدالمجيد سيف النصر" بخليفة #حفتر في #بنغازي.
#ليبيا_مباشر 🇱🇾 pic.twitter.com/kIkGdppgCB— ليبيا مباشر (@libya_mubasher) December 21, 2021
بدأ تغيُّر خريطة التحالفات والعداوات في ليبيا فعليا أواخر عام 2020، عقب استقالة فايز السراج من رئاسة الحكومة، وتدخُّل الأمم المتحدة عبر "محادثات جنيف" و"مباحثات بوزنيقة" بهدف إعادة تشكيل المشهد السياسي، واختيار سلطة تنفيذية مؤقتة. ومن بين أربع قوائم ترشَّحت رسميا، ازدحمت قائمة بعينها بجميع أعداء الأمس القريب، وعلى رأسهم عرّاب حرب طرابلس عقيلة صالح، الذي منح حفتر شرعية دستورية لمعاركه، والرجل القوي في العاصمة والعقل المُدبِّر لحكومة الوفاق فتحي باشاغا، إلى جانب الفريق أسامة الجويلي، عدو حفتر، وصانع انتصارات الوفاق في معارك الغرب الليبي.
ورغم ثقل القائمة، والآمال الكبرى التي عُقدت عليها، فشلت كل الترتيبات التي خاضها فرقاء الحرب الليبيون للبقاء في المشهد بالترشح في قائمة واحدة، وقرَّر أعضاء الملتقى الوطني الذي مَثَّل التراب الليبي كافة إفراغ المشهد السياسي الجديد من كل الوجوه القديمة، واستبدالها بأخرى جديدة لا تحظى بتلك القوة السياسية والعسكرية النافذة، التي كانت دوما أحد أسباب استمرار الانقسام السياسي والصراع العسكري الذي شهدته ليبيا قبل الوصول إلى قرار الوقف النهائي لإطلاق النار بين الشرق والغرب.
مهَّد صعود عبد الحميد الدبيبة لرئاسة الحكومة، ومحمد المنفي لرئاسة المجلس السياسي، شكليا لإقصاء الوجوه القديمة، فباشاغا لم يحصل على أي دور تنفيذي، فيما تجرَّد خليفة حفتر من منصب وزير الدفاع رسميا، وإن احتفظ به فعليا عبر سيطرته العسكرية على الجزء الأكبر من ليبيا، كما أن عقيلة صالح بات مُهدَّدا بالخروج من المشهد السياسي برُمَّته، عقب محاولات النواب توحيد البرلمان المنقسم بين الشرق والغرب، والإطاحة به في جلسة مكتملة النصاب، لكنه استطاع الاحتفاظ بمنصبه ليقود منه حربا مضادة ضد الحكومة الانتقالية، بدأت بالانفراد بقانون الانتخابات الرئاسية دون التوافق مع المجلس الأعلى للدولة، الذي كان هو الآخر يخوض الحرب ذاتها بهدف منع الشخصيات النافذة في الشرق من الترشح للانتخابات.
في تلك الأثناء، زار فتحي باشاغا القاهرة مرة أخرى، في زيارة غير مُعلنة، التقى خلالها مدير المخابرات المصرية اللواء عباس كامل. وبحسب ما نقله موقع "العربي الجديد"، تعهَّد الضيف بالالتزام بمصالح مصر مقابل توفير الدعم اللازم له خلال مهمته المرتقبة التي كانت واضحة للجميع، في ظل تحركات البرلمان الليبي لعزل الدبيبة، عقب سحب الثقة منه قبل مئة يوم من موعد إجراء الانتخابات، بدعوى فشل حكومته في المهام الموكلة إليها بمحاربة الفساد، وتوحيد مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش. هذا وتنسجم التسريبات التي تناولت الترتيبات المصرية لتمهيد وصول فتحي باشاغا للحكومة مع مسارعة الخارجية المصرية لمنحه الاعتراف الرسمي حتى قبل حصوله على الثقة من المجلس الأعلى للدولة، وذلك في تعارض صريح مع تصريحات صدرت عن الأمم المتحدة جدَّدت الاعتراف بالدبيبة.
تغير خارطة الصراع
تشهد الساحة الليبية حاليا وضعا مُعقَّدا للغاية؛ حيث تعرَّض الدبيبة لمحاولة اغتيال فاشلة قبل ساعات من قرار إقالته، في حين لا يزال المجلس الأعلى للدولة مُتخبِّطا بشأن الخطوة القادمة، ففي حين أكَّد رئيس المجلس، خالد المشري، في تصريحات تلفزيونية موافقته على آلية اختيار باشاغا للحكومة، بدعوى أنه حصل على التزكيات المطلوبة وفق خارطة الطريق، وأن النص القانوني الذي جاء بالدبيبة على رأس حكومة انتقالية مؤقتة قضى بانتهاء فترتها في 24 من ديسمبر/كانون الأول 2021، أي مع وصول موعد الانتخابات الرئاسية التي أُجِّلت 14 شهرا لتكون في خريف عام 2023، عاد المجلس وأكَّد في بيان لاحق أنه لا يزال يدرس الأمر، في إشارة إلى خلاف محتمل في صفوفه.
لكن بصرف النظر عن الموقف النهائي لمجلس الدولة، من المرجَّح أن ليبيا اليوم في طريقها للعودة إلى وضعها القديم بوجود حكومتين تتنازعان الشرعية، ما يعني العودة إلى الاحتكام مُجددا إلى قوة السلاح. وفي ظل فهم كل الأطراف لمعادلة الحكم التي طالما احتكم لها الفرقاء، احتشدت العاصمة الليبية طرابلس بنحو 200 مركبة عسكرية مُدجَّجة بالسلاح والمقاتلين القادمين من مدينة مصراتة لدعم الدبيبة في مواجهة باشاغا، وكلاهما من تلك المدينة التي تقف سدا منيعا ضد وقوعها في قبضة الشرق الليبي. وتشترط تلك القوات حاليا، منعا لتجدُّد الدماء على تخوم العاصمة، طرح مشروع الدستور للاستفتاء عليه، مع إجراء انتخابات برلمانية عاجلة في أجل أقصاه شهر يونيو/حزيران المقبل، وإلا فالدماء وحدها كفيلة بإجبار الخصم على اللجوء للتفاوض.
لكنَّ الأمور لن تكون بهذه السهولة، فطرابلس والمعسكر الغربي نفسه صارا منقسمين بين الدبيبة وباشاغا، وهو هدف طالما سعى حفتر وعقيلة صالح إلى تحقيقه. ليس هذا فحسب، فباشاغا بحسب التعهُّد المكتوب الذي اشترطه رئيس البرلمان الليبي لن يترشح للانتخابات الرئاسية القادمة، ما يعني أن الحرس القديم سيتخلَّص بسهولة من أبرز خصومه ومنافسيه المحتملين على كرسي الرئاسة، كونه وافق على المنصب الحالي وألزم نفسه قانونيا بعدم الترشح للانتخابات. من جهته، يتمسك عبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا، بمنصبه معتبرا إياه مُحصَّنا كونه نتج عن اتفاق دولي، متناسيا أن الأمم المتحدة التي كانت عاجزة عن إدانة حفتر، وإيقاف زحفه العسكري على طرابلس، هي نفسها التي التزمت الصمت واكتفت بتأييد مُتردِّد لشرعيته.
على كل حال، ليس هناك دلالات واضحة حتى الآن تشي بأن هناك مخارج من المأزق الحالي في ظل تغير خريطة الصراع، فحفتر، أقوى رجل في الشرق، رحَّب بالحكومة الجديدة، وعقيلة صالح وفَّر لها المظلة القانونية، بينما الغرب يخوض انقسامه الخاص، حيث لا يزال باشاغا يحظى بنفوذ واضح مَكَّنه من دخول العاصمة مؤخرا دون اعتراض، وعلى الجانب الآخر، لا يزال الدبيبة مدعوما من قبائل وأعيان مدينة مصراتة الذين انحازوا له، واعتبروا في بيان لهم أن تشكيل حكومة موازية يُعَدُّ تمكينا للانقلابيين، وشقًّا للصف الداخلي لإحدى أقوى الكتائب في ليبيا وأكثرها تسليحا.
الحرب أم الانتخابات.. أيهما أقرب؟
حتى الآن، يبقى الفائز الوحيد من تلك الفوضى التي ضربت ليبيا هو البرلمان نفسه الذي مَهَّد لذلك الانقسام، الذي سيظل محتفظا بصفته حتى عام 2023، أي إلى حين إجراء انتخابات رئاسية وفق المسار المُعلَن الحالي، ومن ثم بات عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب الليبي، رسميا أحد أقوى المشاركين في اللعبة الليبية، فلا هو يمكن عزله بقوة السلاح، ولا عبر المسارات السياسية التقليدية، ذلك لأن حكومة طرابلس لا تستطيع حل البرلمان حاليا، وإن نادت بذلك رسميا من قبل، أما صالح، فيملك من جهته أوراقا أهم للتأثير في الأحداث التي تعرفها الساحة الليبية سواء سياسيا أو عسكريا.
ووفق أغلب الترجيحات، من المُقرَّر أن تُحسَم أزمة التنازع الحكومي التي تشهدها ليبيا حاليا لصالح باشاغا، خاصة إذا حصل على تزكية مجلس الدولة كما هو منتظر. هذا وسبق أن اتفق الجسمان التشريعيان، مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، على خارطة طريق تؤدي إلى تغيير الحكومة مع الاتفاق على المسار الدستوري، عبر تشكيل لجنة دستورية للنظر في مشروع الدستور وتقديمه للاستفتاء. في المقابل، تجاهل الدبيبة تحركات خصومه وأعلن عزمه طرح مشروع قانون جديد بشأن الانتخابات، لعرضه على مجلس النواب قبل إحالته إلى مجلس الرئاسة للمصادقة عليه، رغم يقينه بعدم جدوى ذلك كونه لا يملك حاليا السلطة التي تُمكِّنه من فعل ذلك.
على جانب آخر، لا يبدو أن اتفاق مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة على خارطة طريق واحدة سيُفضي في النهاية إلى الانتخابات، فسبق أن انفرد عقيلة صالح بوضع قانون انتخاب رئيس الدولة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ثم أرسله إلى المفوضية العليا للانتخابات وبعثة الأمم المتحدة في ليبيا دون أخذ رأي المجلس الأعلى، في تجاوز للاتفاق السياسي الذي منح الأخير سُلطة إبداء الرأي، إذ تبدو الهوة واضحة بين الشريكين في تصوُّر كلٍّ منهما للمستقبل السياسي للبلاد، فبينما يسعى البرلمان سعيا مُعلَنا لتمكين حفتر أو عقيلة صالح من رئاسة ليبيا، يُحذِّر المجلس الأعلى من تمكين الجنرال الليبي، وهو خلاف أيديولوجي بعيد المدى قد ينفجر في المراحل القادمة.
أما ما يُعقِّد المشهد أكثر ويُهدِّد بعدم إتمام الانتخابات في موعدها الجديد بعد تأجيلها فهو التخوُّف المتأصل لدى كل طرف من فوز الطرف الآخر، لما قد يترتب على ذلك من تصفيات سياسية ستتوجَّه سهامها نحو الفصيل الخاسر عبر نصب المحاكمات الانتقامية، فالدبيبة ومَن حوله يسعون لإقصاء صالح، وتقديم حفتر المتورِّط في جرائم حرب للمحاكمة، بينما تواصل قوى الشرق دفع دفة الأحداث لصالحها سياسيا، في وقت تحتفظ فيه بالورقة العسكرية حال أفضت الانتخابات إلى شخصية غير مرغوب فيها. يترتب على هذه المعوقات إذن استحالة توحيد المؤسسة العسكرية وإخراج المرتزقة من البلاد لاستقرار الأوضاع.
من جهتها، تخشى الدول الفاعلة في الملف الليبي أن تضرَّ التغيرات السياسية الداخلية بمصالحها الاقتصادية في ليبيا الغنية بالنفط، وهذا ما دفع دولا مثل مصر، التي تُعلِّق آمالها على كعكة الإعمار، وضمان عدم تحوُّل ليبيا إلى المعسكر التركي، للانخراط في الترتيبات الأخيرة التي مَهَّدت للإطاحة بالدبيبة، أما أوروبا التي تنسجم رؤية بعض دولها كإيطاليا وفرنسا مع رؤية القاهرة، فتبدو منشغلة أكثر باستثماراتها الكبرى في مجالَيْ الطاقة والنفط في الداخل الليبي، فالأولوية عندها -حاليا- هي لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية دون تأخير، ما دام ما ستحمله الانتخابات إلى السلطة سيضمن لها نصيبا في الكعكة الليبية التي تُسيل لعاب الكثيرين.