شعار قسم ميدان

إسرائيل يهودية والمستوطنون جيراننا.. ماذا يتعلم أطفال القدس بعد أسرلة المناهج؟

JERUSALEM - OCTOBER 27: Palestinian students of Al-Iman Primary School and their parents holding banners stage a protest the Israel-imposed curriculum in East Jerusalem on October 27, 2022. (Photo by Mostafa Alkharouf/Anadolu Agency via Getty Images)
طلاب فلسطينيون وأهاليهم ينظمون احتجاجًا على المناهج التي فرضتها إسرائيل في القدس الشرقية (غيتي)

"إن مفتاح سد الفجوات في شرق المدينة يبدأ وينتهي بالتعليم. سيسمح الانتقال إلى المنهج الإسرائيلي للجيل القادم في القدس الشرقية بتعلم اللغة العبرية، وهي الجسر الذي يربطهم ببقية إسرائيل. وتقود الوزارة تعاونا كبيرا بين وزارة التربية والتعليم من جهة وبلدية القدس من جهة، مما يسمح لنا بإحداث ثورة حقيقية في المجتمع العربي في القدس الشرقية".

"نتانئيل إيزاك"، المدير العام لوزارة القدس والتراث التابعة للاحتلال الإسرائيلي

في مدرسة "ألفا" الواقعة على أرض بلدة بيت حنينا شمال مدينة القدس المحتلة، يلهو تلميذ مقدسي في المرحلة الابتدائية داخل ملعب كرة قدم جُهِّز بمعايير المدارس النموذجية، بعد أن ترك مقعده الدراسي القابل للتحريك، في حين يظهر في الخلفية شعار كبير وبارز باللغة العبرية: "السعادة لا تعني أن لديك ما تريد، بل أن ترضى بما هو لديك". بُني كل شيء هنا على الطراز الحديث بفضل الأموال التي ضخَّتها وزارة التعليم وبلدية القدس الإسرائيلية لبناء المدرسة، والمقدَّرة بنحو 12.4 مليون دولار.

 

تُشكِّل مدرسة "ألفا" نموذجا واقعيا لما باتت تقدمه دولة الاحتلال الإسرائيلي على طبق من ذهب لسكان القدس المحتلة: تعليم متطور في مدارس حديثة تتوفر فيها وسائل التكنولوجيا والترفيه الأحدث بفضل التمويل السخي. بيد أن المقابل هو خضوع التلاميذ المقدسيين للمنهج الإسرائيلي المعروف باسم "البجروت"، حيث تُدرَّس العبرية لغة أساسية جنبا إلى جنب مع سير رموز دولة الاحتلال، علاوة على مادة المدنية التي تُستخدَم اليوم لطمس الهوية الفلسطينية وتعزيز الروايات الإسرائيلية في نفوس الأطفال، الذين لم يقبل 90% من عائلاتهم المواطنة الإسرائيلية. فمنذ ضمَّت دولة الاحتلال رسميا القطاع الشرقي من المدينة عام 1980، ومنحت فيما بعد المقدسيين حق الحصول على الجنسية الإسرائيلية، أصرَّ معظم سكان القدس ألا يحملوا سوى وثائق الإقامة الصادرة عن الاحتلال.

 

يُعَدُّ ما يجري في ملف التعليم المقدسي منذ سنوات طفرة كبيرة في الجهود الإسرائيلية لتعزيز قبضة الاحتلال وهيمنة الصهيونية في القدس، بعد أن كانت أقصى آمال المسؤولين الإسرائيليين أن تقبل مدارس القدس كتب المنهج الفلسطيني التي أعاد الاحتلال طباعتها وحرَّف بعض معلوماتها قبل أن يفشل في الدفع نحو تبنيها بالإكراه. الآن، وبينما تمسك إسرائيل بسلطة الأمر الواقع، فإنها قرَّرت أن تخلق عبر "أسرلة" التعليم في القدس بوابات حصرية مُغرية يعيش عبرها الفلسطينيون حياة أفضل لا تتوفَّر في الضفة أو غزة، والثمن -كما تُظهِر المناهج- هو الهوية الفلسطينية لهؤلاء الطلاب الذين ينشؤون على مناهج تخدم أجندة الاحتلال قبل كل شيء.

 

"أسرلة" التعليم في القدس

في الحقيقة، فإن الجهود الإسرائيلية في هذا الصدد ليست وليدة اليوم، فمنذ عام 1967، عجَّلت دولة الاحتلال بجهودها من أجل فرض كتبها المدرسية على مدارس مدينة القدس التي كانت قد احتلتها للتو، لكن أمام تمسُّك المقدسيين بتدريس المنهج الأردني آنذاك وخوضهم إضرابا استمر نحو عامين، اضطر الاحتلال في نهاية المطاف للتخلي عن محاولاته تلك. ومع حلول التسعينيات، أُفسِح المجال بسرعة لمناهج السلطة الفلسطينية بدلا من المنهج الأردني، حيث ألزمت الاتفاقيات الدولية (ومنها اتفاق أوسلو) الاحتلال بالسماح للسلطة بفرض منهجها على المدينة المحتلة.

صورة لحذف البسملة وشعار السلطة الفلسطينية من غلاف كتاب الصف العاشر، أوردتها دراسة لـ"سميرة عليان"، الباحثة والمحاضرة بالجامعة العبرية
صورة لحذف البسملة وشعار السلطة الفلسطينية من غلاف كتاب الصف العاشر، أوردتها دراسة لـ"سميرة عليان"، الباحثة والمحاضرة بالجامعة العبرية (مواقع التواصل)

ومع ذلك، ودون اعتبار للقوانين الدولية مثل المادة 50 من اتفاقية جنيف الرابعة والمادة 26 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تكفل حق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال في الحصول على تعليم يتفق مع معتقداتها وحماية ثقافتها وتراثها من التغيير أو التشويه، بدأت الخطوات العملية لدولة الاحتلال نحو أسرلة المنهج الفلسطيني في التسارع منذ عام 2011. فقد أقدمت وزارة التربية والتعليم التابعة للاحتلال على طباعة المنهج الفلسطيني حينها بعد تعريضه للحذف والتشويه، فأزالت شعار السلطة الفلسطينية والعلم الفلسطيني، وحرَّفت الدروس التي تناولت القضية الفلسطينية وحثَّت على حق العودة. بمعنى آخر، جرَّدت تلك المناهج نحو 98 ألف طالب مقدسي من إمكانية دراسة تاريخ القضية الفلسطينية وتحصيل ما يكفي من معرفة لبناء الهوية الفلسطينية، وذلك في المدارس التابعة للأوقاف، ومدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، والمدارس الخاصة على حدٍّ سواء.

 

أما أخطر التحركات الإسرائيلية ضد التعليم في القدس فوقعت عام 2014 حين استجابت دولة الاحتلال لرؤية أفراد سابقين في جهاز الأمن العام (الشاباك)، ومسؤولين في وزارة المالية، وعدد قليل من الناشطين السابقين في منظمة "إلعاد" اليمينية المتطرفة، حول وجوب خفض "العنف" في القدس عن طريق خطة متكاملة لتقليل الفجوات في البنية التحتية والتوظيف والتعليم والرعاية الاجتماعية. وبالفعل صادق مجلس الوزراء التابع للاحتلال حينئذ على خطة قُدِّرَت ميزانيتها بنحو 86.5 مليون دولار، وبدأت بموجبها وزارة التربية والتعليم تقديم حوافز اقتصادية لمدارس القدس الشرقية على أن تنتقل إلى تدريس المنهج الإسرائيلي. وبحلول عام 2017، نقلت بالفعل 23 مدرسة من أصل 180 مدرسة إلى برنامج المنهج الإسرائيلي، بعد أن حصلت تلك المدارس على تمويل وفير، فزادت رواتب المعلمين والعاملين فيها.

 

سرعان ما شمَّر الاحتلال بقوة عن ساعديه من أجل غرس الرواية الصهيونية بين الفلسطينيين وفرض منهجه الكامل على الطلاب المقدسيين بعدئذ، فقد مُدَّ برنامج الحوافز إلى خمس سنوات بقيمة نصف مليار دولار عام 2018، ومن بين أموال تلك الخطة خُصِّص نحو 200 مليون دولار كحوافز مالية للضغط على مدارس القدس الشرقية كي تُدرِّس المناهج الإسرائيلية. وقد قال الإسرائيليون بوضوح إن أي مدرسة عربية بالقدس تنتقل إلى المنهج الإسرائيلي أو حتى تفتح صفا ثانويا واحدا منه ستحظى على الفور بميزانية سخية. ومن أجل توسيع استخدام المنهج الإسرائيلي في القدس الشرقية، وفَّرت تل أبيب تمويلا إضافيا للمدارس التي اختارت إجراء التغيير ومنحت نحو 120 مليون دولار للتعليم في القدس، ثم اشترطت أن تُخصَّص 47% منها للمدارس المحلية التي تقبل دمج المواد الإسرائيلية، بل ووصلت جهودها إلى استخدام سطوتها في القدس لمنع الحافلات الحكومية من نقل التلاميذ إلى المدارس التي لا تعتمد المنهج الإسرائيلي.

A woman distributes unedited textbooks as part of a protest by Palestinian parents of what they say is Israeli censorship of school textbooks in Shuafat refugee camp in East Jerusalem October 1, 2022. REUTERS/Ammar Awad
امرأة توزع كتبًا مدرسية غير معدلة كجزء من احتجاج أولياء الأمور الفلسطينيين على أسرلة المناهج (رويترز)

التعليم الأساسي: معركة مفتوحة مع الاحتلال

"تأسست إمارة شرق الأردن عام 1921م، وحصلت على استقلالها باسم المملكة الأردنية الهاشمية عام 1946م، وضمَّ الملك عبد الله بن الحسين (الأول) الأراضي الواقعة على الضفة الغربية لنهر الأردن إلى مملكته عام 1951م، بعد هزيمة الجيوش العربية في حرب فلسطين عام 1948م، وبقيت إلى أن سقطت في يد الاحتلال الصهيوني عام 1967م".

فقرة من كتاب التاريخ المدرسي الخاص بالصف التاسع في فلسطين

رغم أن ما سبق سرده مُثبَت بحذافيره في التاريخ، ويعرفه الملايين في شتى أنحاء العالم العربي، فإن دولة الاحتلال الإسرائيلي ضمن جهودها لتحريف المنهج الفلسطيني في القدس حذفت تلك الفقرة من كتاب التاريخ وتركت مكانها فارغا. علاوة على ذلك، حُذِفت صور المسجد الأقصى وكلمة فلسطين والعلم الفلسطيني وآيات من القرآن الكريم، وفي مادة المدنية التي تُستخدم عادة لغرس الهوية الوطنية الفلسطينية وتتصادم بطبيعة الحال مع سرديات دولة الاحتلال، حيث المعلومات عن التمسُّك بالأرض وحق العودة والأسرى الفلسطينيين والمستوطنات والحواجز العسكرية والانتفاضة وتشريد الفلسطينيين من قُراهم، جرى استبدال المواد بمحتوى آخر مناسب من وجهة النظر الإسرائيلية.

حذف فقرة عن تاريخ الأردن أوردتها دراسة لـ"سميرة عليان"، الباحثة والمحاضرة بالجامعة العبرية
حذف فقرة عن تاريخ الأردن أوردتها دراسة لـ"سميرة عليان"، الباحثة والمحاضرة بالجامعة العبرية (مواقع التواصل)

واليوم، ومع قُرب انتهاء الفصل الدراسي الأول لهذا العام، لا يزال المقدسيون والمقدسيات مثل "جينا عصفور"، وهي أم لديها أبناء في مدارس القدس، يعيشون صدمة اللحظة الأولى التي أمسكوا فيها بالكتاب الوزاري بعد أن شوَّهته دولة الاحتلال. وجدت جينا أن الدروس السابقة عن جدار الفصل العنصري قد أُزيلت تماما، في حين قُدِّم المستوطنون بوصفهم جيرانا طيبين يساعدون الفلسطينيين في الزراعة، وقد عقَّبت قائلة: "كيف لي أن أُقنع ابني بأنه ما من جدار فصل عنصري بينما يراه يخنقنا في كل تحركاتنا، وكيف لي أن أقنعه بأن المستوطنين الذين حوَّلوا حياتنا إلى جحيم جيران طيبون، وهو يرى اعتداءاتهم علينا بأمِّ عينه".

 

يتخطى قهر تلك الأم المقدسية كل الحدود، فهي واحدة ممن يُصِرّون حتى الرمق الأخير على تحدي سلطات الاحتلال التي تريد طمس هوية أبنائها الفلسطينية، وترفض إلحاق أبنائها بمدارس المنهج الإسرائيلي. ويشارك هؤلاء في احتجاجات للتصدي للإجراءات الإسرائيلية، أبرزها الالتزام بالإضرابات الشاملة التي تُنظم رفضا للمنهج الإسرائيلي. ففي خطوة هي الأولى من نوعها، اندلعت في سبتمبر/أيلول الماضي معركة احتجاج بين أولياء الأمور والطلاب الفلسطينيين من جهة وسلطات الاحتلال من جهة أخرى، ولم يتردَّد الأهالي بإغلاق معظم المدارس في القدس الشرقية احتجاجا على إجبارهم على قبول نسخة مُعدَّلة من المنهج الفلسطيني.

 

وفي مواجهة قرار الاحتلال في يوليو/تموز الماضي بإلغاء تصاريح ست مدارس في القدس الشرقية أصرَّت على تعليم المنهج الفلسطيني، وإمهالها سنة واحدة لتعديل مناهجها الدراسية أو إلغاء ترخيصها بالكامل تحت ذريعة أن المنهج يحتوي على "تحريض خطير" ضد حكومة وجيش الاحتلال، وزَّع أولياء الأمور الكتب الفلسطينية الأصلية التي لم تُغيَّر من قِبَل الرقابة الإسرائيلية. هذا وأغلقت سلطات الاحتلال مكتب مديرية التربية والتعليم الفلسطينية بالقدس عام 2019، في حين تعاني المدارس الفلسطينية من نقص في عدد الفصول وصل إلى 3517 فصلا.

JERUSALEM - SEPTEMBER 19: A general view of the school building as Palestinian schools went on strike to protest Israeli attempts to impose textbooks that Palestinians say aim to wipe out their national identity in Jerusalem on September 19, 2022. (Photo by Eyad Tawil/Anadolu Agency via Getty Images)
بدأت المدارس الفلسطينية إضرابًا احتجاجًا على أسرلة المناهج (غيتي)

في الواقع، أحدثت إجراءات الاحتلال التعسفية ضد التعليم الفلسطيني فجوة هائلة بين المدارس العربية في المدن المحتلة عام 1948 وبين مدارس القدس والمدارس الإسرائيلية. ففي الأولى تحوي الفصول الدراسية أكثر عدد من التلاميذ مع تعيين معلمين برواتب أقل، ومرافق تعليم تفتقر إلى أساسيات مثل المكتبات وأجهزة الحاسوب ومختبرات العلوم، بينما يتوافر ذلك وأكثر في المدارس الإسرائيلية، حيث وصلت مساحة الترفيه إلى حد وجود إستوديو لتحرير الأفلام وغُرف للعروض المسرحية. وفي الوقت نفسه، تُهدَم منازل المقدسيين لصالح بناء المدارس التي تُدرِّس المنهج الإسرائيلي فقط، مثلما حدث في يناير/كانون الثاني 2022، حين أخلت شرطة الاحتلال أسرتين فلسطينيتين من منزليهما في حي الشيخ جراح لإفساح المجال لبناء مدرسة من أجل "الطلاب اليهود والعرب الذين يعانون من صعوبات في التعلُّم"، كما ادَّعت سلطات الاحتلال.

 

علاوة على ذلك، تتسبَّب تلك السياسة في استمرار تسرُّب الطلاب من المدارس، إذ إن أكثر من ربع الأطفال المقدسيين في سن التعليم لم يُسجَّلوا أبدا في أي إطار تعليمي معروف لسلطات الاحتلال، بل ووفقا لتقرير منظمة "عير عميم" الحقوقية الإسرائيلية، يوجد حاليا 41 ألف طفل فلسطيني غير مُسجَّل في أيٍّ من مدارس القدس الشرقية، وقد ارتفعت نسبتهم من 13% عام 2017 إلى 29% عام 2022. في غضون ذلك تتفاقم ظاهرة التسرب من المدارس في القدس، إذ يصل معدله إلى 3% للبنات و4% للبنين، مقابل مُعدَّل تسرُّب يبلغ نحو 0.5% فقط في دولة الاحتلال.

A boy sits on a bicycle outside a Palestinian school which is closed in protest of what parents say is Israeli censorship of school textbooks in East Jerusalem September 19, 2022. REUTERS/Ammar Awad
مدرسة مُغلقة في شرق القدس أثناء أحد الإضرابات احتجاجا على أسرلة المناهج (رويترز)

دولة الاحتلال و"أسرلة المناهج"

رغم صعوبة تقبُّل مثل هذه الحقائق، فإن الواقع اليوم يكشف عن نجاح نسبي لجهود دولة الاحتلال على مدار السنوات الماضية لتجهيز مدارس القدس وفقا للرؤية الإسرائيلية وإبعادها عن المنهج الفلسطيني، على الأقل على مستوى الأرقام، حيث تكشف البيانات الصادرة عن "وزارة القدس والتراث" (الإسرائيلية) توسُّع استخدام المنهج الإسرائيلي في القدس الشرقية، إذ إن 51% من المدارس الرسمية في القدس الشرقية تلتزم حاليا بالمنهج التعليمي الإسرائيلي، بزيادة نسبتها 34% في السنوات الأربع الماضية، وفي الفترة ذاتها افتتحت دولة الاحتلال ست مدارس جديدة و65 مدرسة تمهيدية في القدس المحتلة.

 

وقد بلغت نسبة الطلبة الفلسطينيين الذين يدرسون مناهج إسرائيلية في المدارس التابعة لوزارة التربية والتعليم الإسرائيلية وبلدية الاحتلال ما نسبته 15% من إجمالي عدد الطلبة من الصف الأول إلى الصف 12 في العام الدراسي 2020-2021، فيما بلغت نسبتهم 8% في العام الدراسي 2017-2018 الذي سبق تفعيل الخطة الخمسية الأخيرة. كما ارتفعت نسبة حَمَلة شهادة الثانوية العامة الإسرائيلية (البجروت) بين طلاب القدس الشرقية من 19% عام 2017-2018 إلى 40% في العام الدراسي 2020-2021، وفقا لبيانات وزارة التربية والتعليم التابعة للاحتلال.

 

تُقدِّم دولة الاحتلال عناصر جذب عديدة تجرُّ بعض سكان القدس نحو اختيار المدارس الجديدة بدلا عن المدارس الوطنية، منها فتح الباب على مصراعيه لطلبة هذا المنهج في الجامعات الإسرائيلية المعروفة، وأشهرها الجامعة العبرية، وكذلك توفير طريق أسرع للعمل في القدس التي يسودها القانون الإسرائيلي ولا تعترف في الغالب بتخصصات عدة في الجامعات الفلسطينية، مما يعني أن طلبة القدس الذين يَحُول بينهم وبين المؤسسات التعليمية في الضفة الغربية جدار الفصل العنصري يصبح لديهم خيار جامعي إسرائيلي قريب يضمن مستقبلا وظيفيا براتب جيد عندما يخرجون من المدارس ذات المنهج الإسرائيلي بشهادة معترف بها ولغة عبرية جيدة.

 

وقد منحت دولة الاحتلال كل المدارس الجديدة التي تُدرِّس المنهج الإسرائيلي خدمات لا تتوفر لمثيلاتها، مثل ربط هذه المدارس بشبكات إنترنت عالية السرعة، وتوفير آلاف أجهزة الحاسوب المحمول، بل وفصل الصفوف إلى مجموعات صغيرة ترفع جودة التدريس، وتقديم مساعدة للطلاب الذين يعانون من صعوبات في التعلُّم، مع وجود دورات تقوية، وشبكة دعم من الأخصائيين النفسيين. وتعمل دولة الاحتلال أيضا على افتتاح المزيد من المدارس التخصُّصية في مجالات التكنولوجيا والفنون واللغات، وتربية الأطفال للبنات، وإصلاح الأجهزة وميكانيكا السيارات للأولاد، مما يعني أن أمام خريجي هذه التخصصات فرصة أفضل لدخول سوق العمل.

A classroom remains empty in a Palestinian school which is closed in protest of what parents say is Israeli censorship of school textbooks in East Jerusalem September 19, 2022. REUTERS/Ammar Awad
فصل دراسي فارغ في مدرسة فلسطينية مغلقة احتجاجًا على أسرلة المناهج (رويترز)

باستخدام هيمنتها السياسية والعسكرية على شرق القدس، في ظل ضعف السلطة الفلسطينية وتردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للفلسطينيين، تُكثِّف دولة الاحتلال جهودها لتصفية القضية الفلسطينية من منبعها عبر أسرلة مناهج التعليم الفلسطينية. بيد أن جهودها تلك تصطدم تارة بالوقائع على الأرض، حيث يرى الفلسطينيون يوميا شتى أنواع الوحشية والفصل العنصري والعنف، وتارة أخرى يصطدم بالتاريخ الذي لم يعُد يمكن إخفاؤه في عصر الفضاءات المفتوحة. فكم من دولة نسجت مناهج دراسية من وحي خيالها لمحو التاريخ أو تزييفه، ثم ما لبث أن صار أضحوكة بين أجيالها الجديدة بعد أن قرأوا وعرفوا تاريخ بلادهم الحقيقي.

 

رغم جهود إسرائيل الحثيثة لفعل ذلك، فإن محو الهوية الفلسطينية جُملة واحدة يظل هدفا بعيد المنال، كما تخبرنا تجربة عرب 48 الذين حازوا الجنسية الإسرائيلية، دون أن تُمحى هويتهم أو تُصفَّى قضيتهم في الداخل الإسرائيلي. إن الهوية تُشكَّل في البيوت قبل أن تعبث بها المناهج الدراسية، وهي بيوت تحمل على أكتافها ذاكرة طويلة لم ولن تطولها أذرع وزارات الاحتلال ومؤسساته الأمنية.

المصدر : الجزيرة