شعار قسم ميدان

فوكوياما وهنتنغتون وميرشايمر.. ثلاث رؤى أميركية لمستقبل العالم

فوكوياما وهنتنغتون وميرشايمر.. ثلاث رؤى أميركية لمستقبل العالم

انحصر النقاش في ذروة الهيمنة الأميركية بعد الحرب الباردة وأحداث 11 سبتمبر/أيلول في فهم قرن من النضال حول الأيديولوجيات، التي تصوَّر كثيرون أنها ستصير نموذجا لتنظيم المجتمعات، مثل الفاشية والشيوعية والليبرالية، كما يقول أستاذ العلوم السياسية الأميركية "ريتشارد بِتس"، الذي نستعرض هنا مقاله المنشور قبل 12 عاما حول رؤى ثلاثة تنازعت تعريف العالم الجديد، قبيل اندلاع الربيع العربي وتفاقم التنافس الصيني-الأميركي واندلاع الصراع بين روسيا وأوروبا.

 

المفكرون الثلاثة الذين اختارهم "بِتس" هُم: "فرانسيس فوكوياما"، و"صامويل هنتنغتون"، و"جون ميرشايمر"، فقد أثار كلٌّ منهم أطروحة جديدة وجدلية؛ فوكوياما بأطروحة نهاية التاريخ، وهنتنغتون بأطروحة صراع الحضارات، وميرشايمر بأطروحة مأساة السياسة بين القوى العظمى. وقدَّم كلٌّ منهم رؤية شاملة لمستقبل النظام الدولي، عبَّرت كلٌّ منها عن تقليد سياسي وفكري داخل النخبة الأميركية؛ فالتقليد المحافظ مثَّله "صامويل هَنتيغتون"، والليبرالي مثَّله "فرانسيس فوكوياما"، والواقعي مثَّله "جون ميرشايمر".

 

يقول "جلِن دوير"، أستاذ الدراسات الدولية بجامعة "سيدارفيل" بولاية أوهايو الأميركية، إن الأطروحات الثلاثة تبادلت الصدارة باختلاف السياق السياسي الدولي، فحازت أطروحة فوكوياما الشهرة الأكبر بعد تفكُّك الاتحاد السوفيتي وما بدا أنه هيمنة الليبرالية الرأسمالية التي لا رجعة فيها، ثم حلَّت محلَّها أطروحة هَنتيغتون بعد أحداث 11 سبتمبر وما بدا أنه صعود صراع الحضارات والثقافات إلى السطح، لا سيما الحركات الإسلامية المناوئة للحضور الغربي في الشرق الأوسط، وأخيرا برزت أطروحة ميرشايمر مع اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا وصعود الصين باعتبارها قوة عالمية مناوئة للوضع القائم والهيمنة الأميركية.

 

من جانبه، تصوَّر فوكوياما أن النتيجة النهائية للتحرر الغربي والعولمة هي توحيد المجتمعات البشرية، مدفوعة بالتكنولوجيا وتوسُّع التجارة الدولية وتقسيم العمل الدولي، فضلا عن الديمقراطية ومفاهيم حقوق الإنسان. ومن بين الرؤى الثلاثة، ما زالت أطروحة فوكوياما أقرب ما تكون إلى تصوُّر النخب الأميركية عن نفسها، لأنها كانت جزءا من صورة أوسع للمعايير الغربية للعالم. بيد أن نسخة فوكوياما كانت أعمق قليلا، فقد قلَّل فوكوياما من "تركيز الليبرالية على المادية والعدالة" بتأكيده أن السعي من أجل الكرامة والمساواة (والتفوق) محرك التاريخ الأساسي، وأنه طريق طويل تقبع في نهايته الديمقراطية الليبرالية والسوق الحر.

نهاية التاريخ لفوكوياما
نهاية التاريخ لفوكوياما (مواقع التواصل)

على النقيض، من وجهة نظر المدرسة الواقعية، فإن العلاقات الدولية تحكمها دورات من الصراع بدلا من التقدم نحو التنوير والسلام. وقد كانت الواقعية مقنعة في خضم الحروب العالمية بين القوى العظمى، لكنها لم تتفق مع القيم الليبرالية الأميركية ومثاليَّتها، ولم يقبلها سوى عدد قليل من المهووسين بالصراع والحروب. هنا ظهر ميرشايمر الذي لم يهتز أبدا بسقوط الشيوعية، ذاهبا إلى أن الحياة الدولية ستستمر في صراعها من أجل القوة، فهو يرى أن المنافسة بين القوى العظمى قدر البشر المأساوي. العالم لا يختلف كثيرا الآن عما كان عليه من قبل إذن، وفكرة ميرشايمر الجوهرية هي أنه إذا كان للسلام أن يستمر، فيجب أن يُبنى على توازن قوى مستقر، وليس على انتشار الأفكار المثالية والأخلاقية فحسب.

 

الغرب والعالم

"فاز الغرب بريادة العالم، ليس لتفوُّق أفكاره أو قيمه، بل لتفوُّقه في تطبيق العنف المُنظَّم، غالبا ما ينسى الغربيون هذه الحقيقة، أما غير الغربيين فلا ينسونها أبدا".

المُفكر الأميركي "صامويل هنتنغتون"

في بداية التسعينيات، نشر هنتنغتون أطروحته حول مستقبل العالم، حيث بدأ بتأكيده أن العولمة ستولِّد الصراع وليس الوحدة كما يعتقد فوكوياما، وأن القوة الصلبة ضرورية لدعم القوة الناعمة، واتفق مع ميرشايمر على أن القوة الناعمة "تكون قوة فقط عندما تكون مدعومة بالقوة الصلبة"، لكنه على عكس ميرشايمر تصوَّر وجود مناطق ثقافية عالمية بدلا من دول عظمى باعتبارها مراكز القوة، وأن وجودها واندماجها المستمر هو ما سيخلق التنافر مع الهيمنة الغربية، حيث قال إن "قوى الاندماج والعولمة في العالم هي على وجه التحديد ما يُولِّد قوى مضادة للهيمنة الثقافية الغربية".

صراع الحضارات لهينتغون
صراع الحضارات لهنتنغتون (مواقع التواصل)

وفقا لهنتنغتون، فإن التحديث والتغريب ليسا الشيء نفسه. فلا يقبل الأجانب الذين يستهلكون السلع الغربية بالضرورة القيم الغربية، وقد أشار "بِتس" في مقاله إلى مقولة هنتنغتون الشهيرة: "إن جوهر الحضارة الغربية هو ’ماغنا كارتا‘ (أول عقد اجتماعي مكتوب في تاريخ الدول الغربية بين ملك بريطانيا وبعض القادة المحليين في البلاد)، وليس ’ماغنا ماك‘ (في إشارة إلى سلسلة مطاعم البرغر الأميركية الشهيرة ماكدونالدز)".

 

إن اندماج البشر في ثقافة ليبرالية واحدة، الذي رآه فوكوياما، يسميه هنتنغتون "ثقافة منتدى دافوس"، في إشارة إلى الاجتماع السنوي للنخب السياسية والاقتصادية في سويسرا. وهو يقول إن هذه النخب تسيطر على معظم موارد العالم الاقتصادية والعسكرية، بالإضافة إلى كونها مسؤولة عن جميع المؤسسات الدولية تقريبا، مشيرا إلى أن هذه النخب عبارة عن قشرة رقيقة لا تُمثِّل سوى 1% من سكان العالم، لكن الجماهير والطبقات الوسطى من الحضارات الأخرى لها ثقافات وطموحات مختلفة تماما.

 

وفقا لهنتنغتون، فإن تقدُّم الديمقراطية الذي احتُفيَ به في نهاية الحرب الباردة لا يعزز القيم العالمية (الأميركية)، لكنه يفتح المجال لهذه الثقافات المتنوِّعة عبر صناديق الاقتراع مثلما رأينا مع العديد من تجارب التحول الديمقراطي في دول العالم الثالث، ومن ثمَّ يُمكِّن الحركات القومية المضادة للغرب من السلطة في بلادها. ويدافع هنتنغتون عن نفسه بأنه أُسيء تفسير أطروحته صدام الحضارات على أنها نداء للغرب لمحاربة الحضارات غير الغربية، في حين أنه أراد فعليا منع اقتتال الحضارات على حد قوله، وذلك عبر تذكير الغربيين بأن ثقافتهم ليست عالمية، وأن المجتمعات غير الغربية ستكون بحاجة إلى مجتمع عالمي متعدد الثقافات لضمان الأمن العالمي، فالمطلوب هو العالمية وليس الإمبريالية.

 

الإسلام والصين

تُعَدُّ العلاقات مع الصين، الدولة الوحيدة التي يشعر الغرب أنها في طريقها لإنهاء عصر الأحادية القطبية الأميركية، قضية محورية لمستقبل النظام الدولي أعاد معها "بِتس" تقييم الرؤى الثلاث. فقد اقترح كل مؤلف خطة لمنع الصراع مع الصين انطلاقا من أطروحته: بالنسبة لفوكوياما، يجب على الصين أن تنضم إلى الغرب وتقبل بنهاية التاريخ، لا سيما وهي في طور التحول الرأسمالي منذ الثمانينيات وليست قطبا منفصلا عن الولايات المتحدة على غرار الاتحاد السوفيتي. أما ميرشايمر فرأى بواقعيته الصريحة أن الغرب يجب أن يُدشِّن تحالفا لموازنة قوة الصين ورغبتها في التفوُّق. وأخيرا، قال هنتنغتون إن الغرب مُطالب باحترام حضارة الصين وتجنب إعاقة نفوذها في محيطها الحضاري، وهو نفوذ مشروع في نظره، على عكس الواقعيين الأميركيين الذين يرون مواجهة الصين في شرق آسيا ضرورة إستراتيجية أميركية.

ميرشايمر بأطروحة مأساة السياسة بين القوى العظمى
مأساة السياسة بين القوى العظمى لميرشايمر(مواقع التواصل)

مثل غيره من الواقعيين "الهجوميين"، يقول ميرشايمر إن الصين دليل على أن سُنن النظام العالمي التي ما انفكت تتكرر منذ مئات السنين تعاود عملها المأساوي المعتاد. فالصين بوصفها قوة صاعدة ستخلق لا محالة حقبة جديدة من التاريخ تشوبها الحروب والمواجهات الدامية، فنادرا ما تكون "تحولات الهيمنة سلمية" على حد قوله، أي إنه عندما تبدأ قوة صاعدة في مقارعة القوة المهيمنة، فإن الحرب هي نقطة التحول الحتمية لإعادة تعريف موازين القوى.

 

وفقا لميرشايمر في الوقت نفسه، فإن الأنظمة الدولية متعددة الأقطاب يمكن أن تكون أكثر استقرارا من نظام أحادي القطب إذا أُدير تنافر المصالح بين أقطابها بما يحفظ مصالحها، لا سيما إذا جسَّدت احتمالية الحرب خطرا قد ينسف هذه المصالح. فقد كانت الحرب الباردة بمنزلة سلام ممتد، وإن جادل بعض المفكرين من العالم الثالث بأنها لم تكن سلاما إلا في الكتلتين الغربية والشرقية وليس في دول جنوب العالم. على أي حال، يرى ميرشايمر أن التنازل عن الهيمنة الأميركية في آسيا قد يكون أهون من حرب عالمية ثالثة، من منظور واقعي، ومن ثم فهو يتفق هنا مع هنتنغتون في النهج المطلوب من واشنطن وإن اختلفت دوافعه.

 

يقول "ريتشارد بِتس" إنه رغم ما بدا وكأنه اختلافات صارخة عندما قُدِّمَت تلك السرديات المستقبلية الثلاثة لأول مرة، فإنها مَثَّلت في لحظة تاريخية ما "التيار الرئيسي للنخب الحاكمة في الولايات المتحدة". اختلف ميرشايمر مع فوكوياما وهنتنغتون في نقطة تأسيسية بأن الدول الغربية تجاوزت احتمالية نشوب حرب فيما بينها، مطلقا نبوءة في بداية الألفية عن حرب قادمة مع روسيا في قلب أوروبا، ومن ثم بزغ نجمه رائدا للمدرسة الواقعية عام 2014 مع استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم، ثم مع الحروب الروسية الأوكرانية الدائرة الآن.

 

نظر ميرشايمر إلى ما وراء الليبرالية والعولمة وأدرك أن الدوافع غير الاقتصادية ستظل قوية، وأن السياسة لا يُمكن اختزالها في التفاعلات الاقتصادية، وهو ما تُثبته أزمة العلاقات الأميركية-الصينية الآن رغم تشابك اقتصاد البلدين كما لم يشتبك اقتصادان عالميان من قبل. لم يركز ميرشايمر على أهمية الكرامة الأخلاقية والهوية، كما فعل الاثنان الآخران، لكنه جادل بأن التجارة والقانون فقط لا يضمنان السلام.

 

يبدو أن التحولات الدولية اليوم تنتصر لرؤية ميرشايمر أكثر من فوكوياما وهنتنغتون، لكن التاريخ يُعلمنا أنه لا توجد نظرية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية جامعة ومانعة، فقد تراجع فوكوياما عن غالبية أطروحاته، وتوارت سردية صدام الحضارات مع الفشل الأميركي في العراق وأفغانستان، وتبقى التفاعلات السياسية والاقتصادية بين الصين والغرب مفتوحة على كل الاحتمالات، وكذلك بين روسيا والاتحاد الأوروبي، وبين الدول الغربية في العموم والقوى الصاعدة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.

المصدر : الجزيرة