إسرائيل والصين.. عين على التكنولوجيا والمال وعين على غضب أميركا
بعد وقت قصير من نشر مقاطع للمقابلة الحصرية مع وزير الخارجية التايواني "جوزيف وو" على موقع صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية، تلقَّى "يعقوب كاتس"، رئيس تحرير الصحيفة الذي أجرى المقابلة، مكالمة من دبلوماسي صيني اتصل به اعتراضا على المقابلة مع وزير دولة لا تعترف بها معظم دول العالم بما فيها الولايات المتحدة، وتراها الصين جزءا من ترابها الوطني. أتى رد صيني مماثل ذات يوم حين نشرت الصحيفة نفسها مقالا عن الإبادة الجماعية التي ارتكبتها السلطات الصينية ضد السكان المسلمين الإيغور في إقليم شينجيانع (تركستان الشرقية)، وفي لهجة تحذير غير مسبوقة على المقابلة التي نُشرت في مايو/أيار الماضي وتطرقت لأزمة تايوان مع الصين ولعلاقات إسرائيل الجيدة مع تايوان، هدَّد الدبلوماسي الصيني بقطع العلاقات مع الصحيفة وبخفض مستوى العلاقات مع إسرائيل في حال لم تُحذف المقالة.
أظهر التهديد القوي أن بكين متأهبة لمهاجمة إسرائيل دون غضاضة إذا ما تعارضت مواقف الأخيرة مع السياسات الصينية. ويبدو أن الصحيفة التي تنحاز إلى الرؤية الأميركية الرسمية، مثل أغلب الصحف الإسرائيلية، لم تلتفت إلى سياسة تل أبيب مؤخرا بتجنُّب إغضاب الصين، فقد عُمِّم قرار على الدبلوماسيين الإسرائيليين بالامتناع عن لقاء نظرائهم التايوانيين أو دعوتهم إلى المناسبات الرسمية. ولكن مع تزايد وتيرة التوتر بين بكين وواشنطن بشأن تايوان، واصلت الصين صب غضبها مرة أخرى على إسرائيل في أغسطس/آب الماضي، حين أرسل "ليو جيان تشاو"، رئيس قسم الشؤون الدولية في الحزب الشيوعي الصيني، رسالة شديدة اللهجة إلى السفير الإسرائيلي في بكين يحذر فيها من السماح للضغوط الأميركية بالإضرار بعلاقة إسرائيل مع بكين، ومُشدِّدا على أن بلاده لن تتسامح مع أي دولة تدعم تايوان.
العلاقات الصينية-الإسرائيلية
كانت دولة الاحتلال الإسرائيلي أول دولة في الشرق الأوسط تعترف رسميا بجمهورية الصين الشعبية عام 1950، ورغم ذلك حالت عدة حواجز دون إقامة علاقات حقيقية بين البلدين، مثل خطاب الصين المناهض لإسرائيل طيلة الحرب الباردة باعتباره جزءا من إستراتيجيتها المؤيدة للقضية الفلسطينية وقضايا العالم الثالث عموما آنذاك، إلى جانب توتر علاقتها بالولايات المتحدة على خلفية الحرب الكورية، حيث أيَّدت تل أبيب المعسكر الأميركي. ولكن مع حلول السبعينيات، تراجعت التوترات على خلفية انفتاح واشنطن على بكين، وانكب الإسرائيليون والصينيون على التعاون الاقتصادي.
وبعد أن أقام الجانبان علاقات دبلوماسية كاملة عام 1992، نما التبادل التجاري بينهما من 250 مليون دولار عام 1990 إلى أكثر من 20 مليار دولار عام 2021، وباتت الصين أكبر شريك تجاري لإسرائيل في آسيا وثالث أكبر شريك تجاري لها في العالم، وذلك رغم أن البلدين ما زالا يعملان منذ عام 2016 على توقيع اتفاقية تجارة حرة. ومع مرور الوقت، أغرت خبرة إسرائيل في الزراعة صُنَّاع القرار في الصين الذين بحثوا عن مخرج من الركود الاقتصادي ووسائل لتوفير الأمن الغذائي في حقبة ما بعد "ماو تسي تونغ"، حتى بلغ مجموع ما استثمرته الصين في مشاريع التكنولوجيا الزراعية الإسرائيلية أكثر من خمسة مليارات دولار بين عامَيْ 2007-2017، وقد شملت عمليات الاستحواذ الرئيسية في هذا القطاع استحواذ الشركة الوطنية الصينية للكيماويات على شركة "أداما" الإسرائيلية في مجال حماية المحاصيل، واستحواذ مجموعة "تشاينا برايت فود جروب" على شركة "تنوفا" الإسرائيلية للصناعات الغذائية.
علاوة على ذلك، يتعاون البلدان في مجال التكنولوجيا العسكرية، بقيمة إجمالية تجاوزت مليار دولار طيلة العقدين الماضيين. بيد أن ترصُّد واشنطن لهذه العلاقة العسكرية عرقل التعاون، إذ اكتشفت وكالة الاستخبارات الأميركية عام 1999 أن إحدى تقنيات الليزر التي زوَّدت بها واشنطن إسرائيل نُقِلَت إلى الصين، كما ساعدت إسرائيل الصين على تطوير المقاتلة "جي-10″، وهي استنساخ لمقاتلة إسرائيلية بمحرك أميركي طُوِّرت في ثمانينيات القرن الماضي تحت اسم "لافي". وقد ردَّت الولايات المتحدة بتقليص مجالات التعاون التكنولوجي العسكري مع إسرائيل، بل وأجبرت واشنطن تل أبيب على إلغاء صفقة إسرائيلية لبيع نظام طائرات "فالكون" للإنذار المُبكِّر إلى الصين عام 2000، وهي أزمة تُعرَف باسم "أزمة فالكون"، ودفعت على إثرها إسرائيل غرامة قدرها 350 مليون دولار للصين تعويضا عن الضرر الذي لحق بها من جرَّاء إلغاء المشروع.
خلال فترة حكم رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق "بنيامين نتنياهو"، وقَّع البلدان اتفاقية "شراكة الابتكار الشاملة"، ومضت الصين رغم اعتراضات إدارة ترامب القوية آنذاك واستثمرت في البنية التحتية الإسرائيلية في إطار مبادرة الحزام والطريق، كما شيَّدت شركات صينية مملوكة للدولة مرافق في ميناء أسدود وحيفا، وخطا للسكة الحديد الخفيفة في تل أبيب، كما استثمرت الشركات الصينية مثل "هواوي" و"علي بابا" في نحو 463 شركة إسرائيلية وأنشأوا مراكز للبحوث والتطوير في إسرائيل. ورغم ذلك، استجابت حكومة رئيس الوزراء السابق "نفتالي بينيت" لبعض الضغوطات الأميركية، مثل انتقاد إسرائيل انتهاكات حقوق الإنسان في الصين لأول مرة، كما أوقفت تل أبيب التعاون مع شركة "هواوي" في تدشين شبكات الجيل الخامس.
ضغوطات واشنطن تتزايد
قد تُثير الغرابة معرفة أن الولايات المتحدة نظرت بقلق إلى رسالة دعائية على شبكات التواصل الاجتماعي تستهدف المواهب التكنولوجية الإسرائيلية بعروض عمل مُغرية في الصين، وكذلك تحفَّظت على تبرُّع الملياردير الصيني "لي كاشينغ" بمبلغ 130 مليون دولار لفرع من معهد أبحاث "تكنيون" الإسرائيلي. في الواقع، تَعتبر واشنطن نفسها في خطر عندما يتعلق الأمر بأي نوع من الشراكة بين حليفها الرئيس في الشرق الأوسط "إسرائيل" والصين، بل ومع تزايد التوتر والخلاف مع الصين أخذت واشنطن تُظهِر تشددا غير مسبوق تجاه الشراكات الصينية-الإسرائيلية، وتطالب حليفها بتبني مواقف أكثر انحيازا لها، وأشد حرصا على متانة التحالف الإستراتيجي بين واشنطن وتل أبيب.
على مدار السنوات الماضية، لم تكفّ واشنطن عن مراقبة علاقة إسرائيل بالصين من كثب، وخاصة مسألة تدفق التكنولوجيا الأميركية الحساسة من إسرائيل إلى بكين. علاوة على ذلك، تتخوَّف الولايات المتحدة عموما من استفادة الصين من الخبرات الإسرائيلية في مجال التكنولوجيا، إذ إن إسرائيل أحد أهم مراكز الابتكار في العالم، ومن ثم تجذب تقنياتها وأبحاثها الدفاعية والأمنية المتقدمة زبائن كثيرين على رأسهم الصين التي لا تزال تحاول رأب الفجوة بينها وبين الولايات المتحدة في هذا المجال.
مصداقا للمخاوف الأميركية، أتت 97% من الاستثمارات بين إسرائيل والصين خلال العشرين عاما الماضية في المجال التكنولوجي، بما في ذلك تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتكنولوجيا النظيفة والزراعية والروبوتات، كما حازت المشاركة الصينية في مشاريع البنية التحتية الحساسة في إسرائيل نصيبها من المخاوف الأميركية، فقد تعاملت واشنطن بقلق شديد مع بناء الصين الميناء الجديد في حيفا، وأشارت إلى أن الوجود الدائم للصين في الميناء يعني أن هناك فرصة ذهبية لجمعها المعلومات الاستخباراتية، على سبيل المثال، يُمكن للصين مراقبة تحركات السفن الأميركية من كثب، كما يسهُل عليها وضع أنظمة مراقبة إلكترونية تُعرِّض الأمن السيبراني الأميركي للخطر.
رغم الاختلافات الكبرى بين إدارتَيْ بايدن وترامب، فإن الضغط الأميركي في عهدهما لم يختلف لكبح إسرائيل عن بيع التكنولوجيا الخاصة بها إلى الصين وتبادل التقنيات الحساسة معها. وقد شكَّلت فترة قيادة نتنياهو مرحلة العلاقات الأوثق بين تل أبيب وبكين، فعلى مدار عقد من الزمن، استمال نتنياهو الاستثمارات الصينية ودعم مبيعات التكنولوجيا للصين، معتمدا على أن علاقته الوثيقة بترامب محمية بمواقفه اليمينية والصداقات الشخصية التي جمعت دائرة ترامب باليمين الإسرائيلي. بيد أن الحكومات التالية أخذت على محمل الجد المخاوف والضغوطات الأميركية أكثر من سابقتها. فقد انخفض عدد الشركات الإسرائيلية التي تُصدِّر إلى الصين بنسبة 15%، كما أن الاستثمار الصيني في التكنولوجيا الإسرائيلية الذي بلغ ذروته عام 2018 عند 72 صفقة انخفض إلى 45 صفقة فقط عام 2020.
التوتر القادم
"على إسرائيل أن تنظر إلى الدور المهم للجنة من منظور إستراتيجي، وأن تعتبرها فرصة لتعزيز الثقة السياسية المتبادلة".
رغم أن تلك العبارة التي أطلقها نائب الرئيس الصيني "وانغ تشيشان"، خلال الاجتماع الخامس للجنة الصينية-الإسرائيلية المشتركة للتعاون في مجال الابتكار (JCIC) في يناير/كانون الثاني الماضي، عبَّرت عن قدر من الثقة في التعامل مع الإسرائيليين، فإنها كشفت مخاوف متزايدة بشأن الاتجاه الذي بدأت تتخذه علاقات الصين مع إسرائيل في ضوء الضغط الأميركي المتزايد. وفي أعقاب هذا الاجتماع الذي التقى فيه "وانغ" بوزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك "يائير لَبيد" احتفالا بمرور ثلاثة عقود على تدشين علاقات الصين الرسمية مع إسرائيل؛ ظهر أن مخاوف "وانغ" في محلها إلى حدٍّ كبير. فبعد بضعة أيام فحسب من الاجتماع الذي وُقِّعت خلاله خطة عمل التعاون الصيني-الإسرائيلي في مجال الابتكار (2022-2024)، رُفِض عرض من شركتين صينيتين مملوكتين للدولة للمشاركة في إنشاء خطين للسكك الحديد الخفيفة في تل أبيب.
بعد ذلك في مايو/أيار الماضي، احتجَّت السفارة الإسرائيلية في الصين على ما سمَّته "معاداة السامية الصارخة"، عندما تساءلت قناة صينية عما إذا كان موقف الولايات المتحدة الموالي لإسرائيل نتيجة لتأثير "اليهود الأثرياء في الولايات المتحدة" وجماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل، وبعد شهر انضمت إسرائيل إلى نحو 40 دولة في حث الصين على السماح للمراقبين المستقلين بالوصول إلى منطقة "شينجيانغ"، حيث تتهم بكين بشن حملة قمعية على أقلية الإيغور المسلمة، فيما اعتبره محللون تراجعا نسبيا في متانة العلاقات، وإن لم ترقَ الاحتجاجات المتبادلة إلى توتر كبير بين بكين وتل أبيب.
يمكن القول إن الصين وإسرائيل نجحتا في التمسك بزمام علاقة جيدة في ظل تحالف الأخيرة الواضح والمعروف مع واشنطن، وكذلك في ظل إقامة كل طرف منهما علاقات قوية مع خصوم الطرف الآخر، وخاصة علاقات إسرائيل الجيدة مع كوريا الجنوبية واليابان المعارضتين للصين، وكذلك علاقات الصين القوية بإيران، حيث يخطط الصينيون لاستثمار 400 مليار دولار على مدى السنوات الـ 25 المقبلة في الاقتصاد الإيراني، وهي أرقام لا تُقارن بدورها المحدود مع تل أبيب.
في المستقبل، يمكن أن تحدد مقومات هذه العلاقة عوامل أخرى، مثل مستقبل النمو الاقتصادي في الصين وتأثيره الدولي مع تداعيات مبادرة الحزام والطريق مقابل الحضور الأميركي والأوروبي، يُضاف إلى ذلك إمكانية التوصُّل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران قد يجلب الاستقرار إلى المنطقة برعاية أميركية، مما يُحتمل أن تزيد معه احتماليات التوتر بين واشنطن وتل أبيب، مع تزايد استغناء إيران عن الدعم الصيني، وهو وضع سيعزز أكثر فرص الانفتاح في العلاقات بين الصين وإسرائيل.
في الوقت الراهن، ثمة معارضة شرسة من قِبَل واشنطن للتعاون الصيني-الإسرائيلي من جهة، ورفض صيني للتقارب التايواني-الإسرائيلي والاستجابة للضغوطات الأميركية من جهة ثانية. ويعني ذلك أن البلدين يسعيان إلى إمساك العصا من المنتصف في ظل وضع دولي يزداد تعقيدا، وأن تعميق التعاون بين البلدين ليس واردا في المستقبل القريب ما لم تحدث تحوُّلات كبرى في طبيعة العلاقة بين بكين وواشنطن، أو في سياسة أيٍّ من البلدين تجاه المنطقة. أما إسرائيل، فلا يُتوقع أبدا أن تترك موقعها في المعسكر الأميركي أيًّا كانت الأثمان، وإذا ما تفاقم التوتر بين بكين وواشنطن إلى حرب باردة جديدة، فعلى الأرجح أن موقف تل أبيب لن يختلف كثيرا عن موقفها في الحرب الباردة السابقة، التي شهدت توطيد العلاقات الإستراتيجية مع واشنطن، مع إبقاء الباب مفتوحا مع موسكو دون الإقبال عليها بالقدر الذي يُثير حفيظة واشنطن.