شعار قسم ميدان

قرغيزستان وطاجيكستان.. هل ستشتعل حرب جديدة في حديقة روسيا الخلفية؟

بينما انصبَّت أنظار العالم على أوكرانيا منذ فبراير/شباط الماضي، إثر بدء الحرب الروسية على البلد الأهم من حيث الموقع الجغرافي، والتعداد السكاني، والوزن السياسي في الفضاء السوفياتي؛ تراجع الاهتمام بصراعات ومعارك أخرى لا تزال تجري تحت أنظار العالم بين دول الاتحاد السوفياتي السابق. فقد تجدَّدت مؤخرا المعارك بين أرمينيا وأذربيجان في منطقة القوقاز بعد أن اندلعت حرب حاسمة بينهما قبل أقل من عامين حول إقليم "ناغورني قره باغ" المُتنازع عليه. بيد أن ثمَّة معركة أخرى تتجدَّد بين الحين والآخر في قلب آسيا الوسطى بين البلدين الأصغر في المنطقة، قرغيزستان وطاجيكستان، نتيجة مشكلات حدودية ورثها البلدان منذ استقلالهما عن الاتحاد السوفياتي بعد انهياره مطلع تسعينيات القرن الماضي. وهي معركة تندلع باستمرار بسبب حقوق استخدام الموارد الطبيعية في المناطق المتنازع عليها، وكذلك المشاعر القومية الحديثة نسبيا التي يستمد منها النظامان الطاجيكي والقرغزي شرعيتَيْهما.

تنقسم جغرافيا آسيا الوسطى الشاسعة إلى خمس دول هي أوزبكستان وكازاخستان وطاجيكستان وقرغيزستان وتركمانستان، وكلها كانت في الماضي جزءا من الاتحاد السوفياتي. ورغم أن روسيا لا تزال تنظر إليها بوصفها باحة خلفية تؤمِّن حدودها ووجودها في آسيا، فإن المنطقة باتت ساحة للتنافس الإستراتيجي المفتوح بعد دخول لاعبين جُدد إليها طيلة العقود الثلاثة الماضية، إذ اقتربت منها الولايات المتحدة بعد غزو أفغانستان وحضورها الأمني الكبير في باكستان، وزادت التطلعات الصينية نحوها مع صعود الاقتصاد الصيني وتغلغله في بلدان المنطقة التي تقع على خارطة مشروع طريق الحرير الصيني وتمتلك احتياطيات وفيرة من النفط والغاز والمعادن.

بين بيشكَك ودوشَنبِه.. نزاع لا يهدأ

في صبيحة يوم 14 سبتمبر/أيلول الماضي، شهدت المنطقة الحدودية بين قرغيزستان وطاجيكستان اشتباكات دموية متبادلة أوقعت نحو 100 قتيل من الجانبين وعددا من الأسرى، وأعلنت قرغيزستان أنها سيطرت على نقطة حدودية طاجيكية خلال المواجهات ردا على توغل جنود طاجيكيين قرب مخزون مائي ومحطة ضخ للمياه تقع على نهر "إسْفَرَه". ويدَّعي كل طرف منهما أن النهر ملك له، وبعدما رفض جندي طاجيكي أوامر حرس الحدود القرغيزستاني بالانسحاب إلى ما وراء خط الترسيم الذي اتفق عليه البلدان سابقا، تبادل الطرفان إطلاق نيران المدفعية الثقيلة والدبابات والقذائف، مما جعل المواجهة الأخيرة واحدة من أكثر المواجهات دموية بين البلدين منذ استقلالهما.

في الكواليس غير المُعلنة، كشفت أحداث اليوم الأخير قبل القتال التطورات التي أدت إلى المواجهة، فقد حدث التصعيد حين أعلنت قرغيزستان افتتاح قاعدة عسكرية لاستخدامها في نشر طائرات مُسيَّرة تركية وصفتها بأنها ضمانة للتفوق في المواجهات المستقبلية، وقبلها أخذت طاجيكستان تُطوِّر أسطولها الخاص من الطائرات المسيرة في مؤشر على إصرارها ألا تفقد التفوق الجوي في نزاعها مع جارتها. ففي إبريل/نيسان الماضي، اندلعت اشتباكات حدودية دامية كادت أن تصل إلى حرب كاملة بين الدولتين، ورغم اتفاق التهدئة، اتفقت طاجيكستان بعدها مباشرة مع حليفتها إيران على إنتاج أسطول طائرات مسيرة من طراز "أبابيل 2″، وهي طائرة مقاتلة انتحارية ظهرت في سماء اليمن وسوريا والعراق ويمتلكها أيضا حزب الله اللبناني.

على المستوى الإقليمي، فشلت الدولتان في حسم الصراع لعدة اعتبارات، أولها أن كلتيهما عضوة في منظمة "معاهدة الأمن الجماعي"، وهو تحالف من سبع دول سوفيتية سابقة بقيادة روسيا، ويُنظر له على أنه النظير الأوراسي لحلف الناتو في آسيا، والغرض منه الدفاع عن أي عضو يتعرض للتهديد من الخارج، لكنه لا يملك آلية لحسم أي صراع ينشب بين دولتين من داخل التحالف، مع الأخذ في الاعتبار أن كلتيهما قريبة من موسكو وتستضيف وجودا عسكريا روسيا، مما يضع على عاتق الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" مهمة إطفاء الحرائق المشتعلة في حديقة بلاده الخلفية. وقد تدخَّلت موسكو في كل مرة بالفعل لدفع الجانبين نحو وقف إطلاق النار وتثبيت استقرار الأوضاع على الحدود، كما قدَّم بوتين مؤخرا مبادرة بالتزامن مع زيارة رئيسَيْ البلدين إلى موسكو من أجل حل للخلاف الممتد منذ عقود.

بيد أن الروس أنفسهم يبدون عاجزين عن الوصول إلى تسويات حقيقية أبعد من اتفاقات وقف إطلاق النار؛ بحيث تنتهي حقبة الصدامات التي بدأت منذ عام 2004 بسبب الخلاف على ترسيم الحدود بين قرغيزستان وطاجيكستان، التي يبلغ طولها نحو 972 كيلومترا. ويتركز النزاع تحديدا في جزء داخل وادي "فرغانة" يحتوي على مراعٍ خصبة وموارد مائية ويطل على أجزاء من شمال طاجيكستان وجنوب قرغيزستان وشرق أوزبكستان. وفيما نجحت أوزبكستان في حل مشكلاتها الحدودية مع جيرانها، فشلت بيشكَك ودوشَنبه، ودخلتا في جولات من الصراع وصلت أكثر من مرة إلى الصدام المسلح.

أتراك وفُرس.. بدو وفلاحون

(وكالة الأنباء الأوروبية)

لا تنفصل النزاعات الحدودية في آسيا الوسطى عن التاريخ القريب لتلك الدول التي رزحت تحت قبضة الحكم الشيوعي السوفييتي قبل انهياره عام 1991. وفيما تمكَّنت دول البلطيق وأوروبا الشرقية التي انفصلت عن روسيا من رسم حدود فاصلة معترف بها دوليا، احتفظت دول القوقاز وآسيا الوسطى بالحدود التي تم ترسيمها في عشرينيات القرن الماضي تحت حكم "جوزيف ستالين"، ومنها قرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأرمينيا وأذربيجان وجورجيا، حيث تعِج تلك البلدان بجماعات عِرقية متنوِّعة لطالما انتشرت دون خط ناظم، ودون مساحة محددة تجمَّعت فيها، ومن ثمَّ تقاطعت باستمرار مع الحدود الصلبة. وبينما عزَّزت وحدة الأراضي السوفياتية من التناغم قبل التسعينيات، فإن ظهور الدول المستقلة والحدود الدولية رسميا سرعان ما بعثر أوراق المنطقة.

على سبيل المثال، تغلب على قرغيزستان عِرقية القرغز قريبة الصلة بالعِرقية التركية، وتغلب على طاجيكستان عِرقية الطاجيك الفارسية (والطاجيكية لهجة من لهجات الفارسية ليس إلا)، بيد أن الشعبين تتداخل خيوطهما في المناطق الحدودية تداخلا معقدا يصعب الفصل فيه بين دولة وأخرى، ومن ثمَّ سبَّب النزاع منذ استقلال الدولتين. بخلاف ذلك، ثمَّة تاريخ طويل من التوتر حفَّزته الرغبة في الوصول إلى الموارد الطبيعية في المنطقة الحدودية، إذ توجد فيها مزارع ومياه في منطقة لم تتمتَّع على مدار تاريخها القريب بوفرة الماء أو الزراعة على نطاق واسع، ومع تزايد الكثافة السكانية في العصر الحديث، لم يكن غريبا أن اشتعل الصراع من أجل الموارد واستخدامها في ظل حدود يختلف البلدان على ترسيمها.

يقطن إقليم "باتكِين" 30 ألف شخص، وحين أدخلت قرغيزستان قانون الملكية الخاصة للأراضي، أعلنت بعض المراعي الطاجيكية المستأجرة مِلْكًا لمواطني قرغيزستان. (وكالة الأنباء الأوروبية)

لطالما كان القرغز من البدو الرحل في العصور قبل الحديثة، مثلهم مثل بقية أقرانهم من الأعراق التركية والمغولية، وقد أقاموا حول مناطق تجمُّع المياه، على عكس الطاجيك الفُرس الذين امتلكوا نمطا مستقرا من الحياة الريفية. ومع تشكُّل الاتحاد السوفياتي دُمِج المجتمعان معا، وبات لكل طرف حق الوصول إلى موارد الطرف الآخر وفقا للقوانين السوفياتية. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، أصبحت كلٌّ من قرغيزستان وطاجيكستان دولة مستقلة، ومع وقوع تحوُّلات بيئية واجتماعية مثل جفاف المراعي والزيادة السكانية، انحصر الصراع في إقليم "باتكين" الجنوبي المتاخم لشمال طاجيكستان، وهو جيب طاجيكي يُسمى "واروخ" (ڤاروخ) تحيطه الأراضي القرغيزستانية، ويُمثِّل نقطة مهمة في الصراعات الأخيرة.

يقطن إقليم "باتكين" 30 ألف شخص، وحين أدخلت قرغيزستان قانون الملكية الخاصة للأراضي، أعلنت بعض المراعي الطاجيكية المستأجرة مِلْكًا لمواطني قرغيزستان، وازدادت الأزمة تعقيدا في السنوات الأخيرة بسبب اعتماد السلطات الطاجيكية على خرائط تعود للفترة بين عامَيْ 1924-1927، بوصفها نقطة مرجعية للتفاوض وإثبات الحقوق، في حين تستخدم قرغيزستان خرائط تعود للفترة بين عامَيْ 1958-1959، وتعتبرها شرطا أساسيا للتفاوض.

الشعبوية على حساب التسوية

البُعد الآخر للأزمة ينبع من تبني الحكومتين خطابا شعبويا قوميا، وهو ما يجعل فكرة ترسيم الحدود أو الوصول إلى تسوية لتبادل الأراضي بهدف إنهاء الصراع أصعب من ذي قبل. ففي عدة أحداث متلاحقة في قرغيزستان أواخر عام 2020، استقال الرئيس السابق سورونباي جينبيكوف بسبب أزمة سياسية شهدتها البلاد بسبب الاعتراض على نتائج الانتخابات البرلمانية. وعقب الإعلان عن انتخابات رئاسية مُبكرة، حقق السياسي القومي "صدير جَباروف" فوزا ساحقا، وهو من أنصار التيار القومي، وكان قبل ذلك سجينا غادر زنزانته لقيادة الحكومة ثم تولي رئاسة البلاد. وتنتهج البلاد في عهده حاليا نهجا شعبويا يستمد شرعيته من إعلاء الخطاب القومي على حساب الإرث السياسي الذي تركه الاتحاد السوفياتي، وهو ما قد يؤثر على المصالح الروسية.

ورغم أن النظام القرغيزستاني يُعَدُّ النظام "الأكثر ديمقراطية" نسبيا في آسيا الوسطى، ففي ظل موجة الشعبوية والقومية التي اجتاحت البلاد مثلها مثل غيرها من دول العالم، فإن الرئيس الجديد حريص على المشاعر الشعبية القومية، بل ويرى بعض المراقبين أن ارتكازه على الرضا العام يُعزِّز من تشدُّد قرغيزستان. في المقابل، تُحكم طاجيكستان عبر نظام استبدادي مُغلق برئاسة "إمام علي رحمن"، وهو أطول رئيس مكث في السلطة في آسيا الوسطى، حيث يحكم منذ عام 1994، وهيمن على البلاد قبلها بعامين حين تبوَّأ مقعد المتحدث باسم البرلمان في ظل إلغاء منصب الرئاسة.

ويُعَدُّ "رحمن" حليفا أقرب إلى الرئيس الروسي "بوتين" وإلى إيران من غريمه القرغيزستاني، ومثله مثل النظم الاستبدادية الكلاسيكية التي ظهرت إبَّان سقوط الاتحاد السوفياتي، يعتمد "رحمن" على علاقات وثيقة مع موسكو، بالتزامن مع محاولة التقرُّب من واشنطن حين تتلاقى مصالح البلدين، وقد حدث ذلك بالفعل بعد غزو أفغانستان من جانب الولايات المتحدة عام 2001، حيث عارض البلدان حُكم طالبان في أفغانستان وحضورها السياسي طيلة العقدين الماضيين، ولا تزال طاجيكستان واحدة من أكثر الدول تضرُّرا نتيجة صعود طالبان من جديد. بدورها، وبينما تعتمد قرغيزستان على درجة أكبر من الرضا الشعبي، فإن تصعيد المواجهة على الحدود في ظل انشغال روسيا ومتانة العلاقة الاقتصادية مع الصين لعله يعكس رغبتها في تحريك مياه الصراع لصالحها، على غرار ما فعلته أذربيجان (حليفة تركيا) مع أرمينيا (حليفة روسيا) منذ أسابيع، حين صعَّدت مجريات الصراع مع تيقُّنها من انشغال موسكو لتحقيق مكاسب أكبر على الأرض.

يُعَدُّ "إمام علي رحمن" (يسارا) حليفا أقرب إلى الرئيس الروسي "بوتين" وإلى إيران من غريمه القرغيزستاني صدير جَباروف (وكالة الأنباء الأوروبية)

مثلما استفادت النخبة الجديدة في قرغيزستان من استغلال قضية الحدود، استفاد الجانب الطاجيكي من تصعيد النزاع مع قرغيزستان بحجة حماية الحدود والطاجيك، واتجه لتعزيز قبضته الاستبدادية أكثر فأكثر على المعارضة رغم عدم تحقيقه مكاسب إقليمية بالضرورة في الصراع القائم. وقد منح "رحمن" قدرات تعزيزية لجهاز الأمن وسط اتهامات ضمنية له بأنه يسعى لتوريث السلطة إلى ابنه من بعده، حيث تتهمه المعارضة بالاعتماد على المشاعر القومية المتمثلة في حماية الطاجيك على طول الحدود غير المستقرة مع قرغيزستان لتمرير سيناريو التوريث ليس إلا.

يلفت النظر في الصراع الطاجيكي-القرغيزستاني أنه اندلع في وقت انشغال روسيا بحرب أوكرانيا، وبالتزامن مع اندلاع معارك أخرى في القوقاز، مما يعكس رغبة داخل البلدين في التصعيد في غياب القوة التي طالما كبحت شهية الحروب في المنطقة وحافظت على مركزية طاولة المفاوضات. أما الصين فلا يزال حضورها السياسي محدودا على عكس دورها الاقتصادي المتعاظم يوما بعد يوم، وفي هذا السياق استضافت قمة منظمة "شانغهاي" الأخيرة التي عُقدت في سمرقند وقت الاشتباكات، وحضرها رئيسا الدولتين المتنازعتين، وشهدت مناقشة بين الرجلين على هامش مجريات القمة، دون أن يحتل الصراع أي أولوية تُذكر على جدول الأعمال، أو تصدر تصريحات بخصوص وساطة دولة كبرى لحل الأزمة.

في نهاية المطاف، بينما تنصب الأنظار على أوكرانيا، وتنشغل الصين بتجديد حُكم الرئيس "شي" في غضون أيام، علاوة على انشغالها بالتوتر مع الولايات المتحدة من جهة والعقوبات الدولية على موسكو من جهة، يبدو أن الدول الصغرى في الفضاء السوفياتي قد باتت دون أخ أكبر ووسيط متمرس يوليها الانتباه الكافي، وأن المناوشات الحدودية والحروب المحدودة لن تتوقف عن الاندلاع بين الفينة والأخرى في قادم الأشهر والأعوام، وهي فترة ستحاول فيها كل دولة، من أذربيجان وأرمينيا في الغرب إلى قرغيزستان وطاجيكستان في الشرق، إبرام الصفقات العسكرية مع شتى الأطراف وتحريك مياه الصراعات بما يخدم مصالحها الداخلية ويعزز قدرتها على انتزاع المكتسبات الجيوسياسية على الأرض.

المصدر : الجزيرة