من قسوة البعث إلى قبضة الميليشيات.. سجون العراق لا تزال تعيش في عهد صدَّام حسين

تُمسك طفلة في العاشرة من عمرها بطرف وشاحها الأسود ثم تمسح دموعها المنسابة، قبل أن تعود وتتحسَّس صورة لوالدها مُلصقة على جدار منزلها، مؤرَّخة بتاريخ وفاته الموافق 27 يوليو/تموز المنصرم. لا تزال الفتاة مثل أشقائها في حالة صدمة شديدة لفقدان أبيهم "هشام الخزاعي" (35 عاما) الذي قُتل تحت التعذيب داخل مركز تحقيق تابع لمديرية البصرة في جنوب العراق إثر "تشابه أسماء" كما يقول ذووه الذين تسلَّموا جثمانه في "بطانية"، وآثار الضرب والخنق والتعليق واضحة عليه.
يروي ابن عم الضحية الذي اعتُقل معه أن قوة أمنية أوقفتهم عند مدخل محافظة البصرة، بالتحديد عند ما يُعرف بـ"سيطرة الشهيد حسن جلوب"، ثم اعتدى عناصرها عليهم بالضرب وكبَّلوهم وسرقوا أموالهم وحطَّموا السيارة التي أقلَّتهم، قبل أن يُنقل الخزاعي إلى مركز التحقيق الذي لاقى فيه حتفه، حيث واصلت العناصر الأمنية تعذيبه وحرمانه من الماء رغم أن ابن عمه أخبرهم عن معاناته من مشكلات صحية. وقد نفت وزارة الداخلية العراقية تلك الادعاءات، وقالت إن الخزاعي "متهم بالقتل".
بيد أن حادثة الخزاعي ليست الأولى من نوعها، لكنها تُضاف الآن إلى قائمة طويلة من ضحايا التعذيب في السجون العراقية في الآونة الأخيرة، حيث توفي عشرات المعتقلين من بين نحو 76 ألف معتقل موجودين في مواقف الاحتجاز وسجون دائرة الإصلاح في العراق. وقد بلغ عدد حوادث الوفاة داخل السجون العراقية نحو 130 حالة في النصف الأول من العام الحالي، ما بين ضحايا توفوا نتيجة التعذيب مع علامات واضحة على الرأس والظهر والخاصرة والأعضاء التناسلية، وآخرين توفوا جرَّاء المعاناة من أمراض سوء التغذية والفشل الكلوي ومرض السكري وغيره.
تكشف حادثة الخزاعي اللثام عمَّا يحدث في مراكز التوقيف التابعة لوزارة الداخلية العراقية، التي يشيع فيها التعذيب، بالإضافة إلى السجون الحكومية فضلا عن سجون الميليشيات المسلحة. وتتنوَّع ممارسات التعذيب بين الصعق الكهربائي والضرب المبرح بكابلات الكهرباء وخراطيم المياه وتكسير العظام إلى التعذيب المعنوي بالتهديد بالاغتصاب وابتزاز الأهل، بل وارتكاب جرائم اغتصاب بالفعل للأهالي أمام أعين ذويهم المعتقلين، وكذلك الاتجار بالأعضاء البشرية أو قطع الأطراف وترك المعتقل حتى الموت.
أهوال خلف الأسوار
داخل مكتب لجنة حقوق الإنسان في العراق، يبدو مشهد النساء اللواتي يتكدَّسن في المكان اعتياديا. إنهن أمهات يجلسن في انتظار شخص ما، لا هدف لهن إلا إيصال صوت لابن أو زوج قابع في سجن من السجون المُتفرِّقة في شتى أنحاء البلاد، وقد رأين بأم أعينهن آثار التعذيب على ذويهن، أو ربما أُخبرن بها عبر رسول بعثه المُعتقل بطريقة ما.
يبدو مشهد التكدُّس محاولة عديمة الجدوى من الأهالي لتخفيف الأهوال التي يُلاقيها ذووهم في سجون العراق، ففي هذا البلد الذي تعاقبت على حكمه عدة حكومات ديمقراطية اسميا منذ الغزو الأميركي عام 2003، لا تزال ممارسات التعذيب حاضرة فيه تماما كما كانت قبل قدوم الأميركيين، بل إن بعض السجون بعينها باتت تشتهر بممارسات التعذيب الشائنة، مثل سجن الناصرية المركزي، إضافة إلى ما يُعرف بـ"التوقيفات" المؤقتة في الأنبار وبابل. وتتبع أكثر هذه السجون وزارة العدل، فيما تتبع مراكز الاحتجاز والتوقيف وحدات مكافحة الإرهاب ووزارة الدفاع والمخابرات العراقية، وكذلك وزارة الداخلية.
في أحدث تقرير دولي حول ظاهرة التعذيب في السجون العراقية، أعدَّته بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى العراق ومفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ذُكر أن "أشكال التعذيب الرئيسية المبلغ عنها تشمل الضرب المبرح، بما في ذلك على باطن القدمين وبالعِصِي والصعق بالصدمات الكهربائية والوضعيات المجهدة والتعليق في السقف والخنق والتهديدات الشديدة"، كما قال البعض ممَّن أُجريت مقابلات معهم إنهم تعرَّضوا للعنف الجنسي أثناء الاستجواب، لا سيما استخدام الصدمات الكهربائية على أعضائهم التناسلية.
يُبيِّن التقرير المعنون بـ"حقوق الإنسان في تطبيق العدالة في العراق: الشروط القانونية والضمانات الإجرائية لمنع التعذيب والمعاملة السيئة"، الذي استعان بالسجلات القضائية وزيارات المحاكم، أن ما يقرب من نصف مَن اعتقلوا بتهم تتعلَّق بالإرهاب "حوكموا في نظام لا يبذل جهدا كبيرا لوزن أدلة مُحدَّدة ضدهم، وتعرَّض نصف المحتجزين على الأقل للتعذيب أثناء الاستجوابات بهدف انتزاع شكل من أشكال الاعتراف".
في مثال آخر، يُشير تقرير نشرته منظمة العفو الدولية في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2020 إلى أن آلاف العائلات في جميع أنحاء العراق ما زالت تجهل مصير ومكان أقاربها ممَّن اختفوا، فيما تعرَّض النازحون العراقيون ممَّن لهم صِلات مفترضة بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) للاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والمحاكمات الجائرة، وبحسب التقرير: "ذكر جميع الرجال والصبية الذين اعتقلتهم الأسايش (قوات أمن إقليم كردستان العراق) أنهم تعرَّضوا للتعذيب أو غيره من ضروب سوء المعاملة في محاولة لانتزاع اعتراف منهم، وتعرَّض كثيرون للضرب بقبضات اليد أو الأنابيب أو الخراطيم، بينما تعرَّض رجل للتهديد بالعنف الجنسي ضد قريباته من الإناث".
تواصل "ميدان" مع "عمر الفرحان"، مدير المركز العراقي لتوثيق جرائم الحرب، الذي أخبرنا أن ما تذكره المنظمات الدولية والمحلية في تقاريرها من حالات التعذيب ليس سوى غيض من فيض، مؤكِّدا أن السلطات الحكومية تحتجز مئات الآلاف من المعتقلين في ظروف غير إنسانية بدوافع انتقامية وطائفية. وقد تحدَّث معتقلون للمركز عن حصولهم على طعام فيه ديدان، أو مُتعفِّن في أغلب الأوقات، وأدوية منتهية الصلاحية. وقد وصلت الأمور إلى حد إيعاز المعاون الجديد لعناصر الأمن بقطع الماء عن المعتقلين والاقتصار على إعطاء المعتقل قنينة صغيرة تبلغ سعتها 250 ملليترا فقط للشرب وقضاء الحاجة، ولا يُعطى غيرها إلا في اليوم التالي. ويُضيف "الفرحان" أن القوات الحكومية تضع السجناء في أماكن قضاء الحاجة (الحمامات) لأيام وأسابيع، في ظل ارتفاع درجات الحرارة في العراق، وتمنع عنهم الطعام والشراب، سوى حبة "بطاطس واحدة" كل ثلاثة أيام، مُشيرا إلى أن معظم المعتقلين باتوا يعانون من أمراض جلدية جرَّاء هذه الممارسات.
تعذيب.. وابتزاز مالي أيضا
منذ عام 2012، لم يشغل بال العراقية أم عامر (54 عاما) أمر أهم من أن تنعم برؤية ابنها المعتقل في سجن الناصرية المركزي (الواقع في محافظة ذي قار الجنوبية والمعروف أيضا باسم سجن الحوت)، إذ تهوِّن عليها رؤية ابنها المعاناة التي خاضتها من أجل توفير مبالغ الرشى للعاملين في السجن، وهي أموال تدفعها بانتظام مقابل ضمان الاستمرار في زيارته. ما ينطبق على "أم عامر" ينطبق أيضا على جميع النساء اللواتي يأتين لزيارة أزواجهن أو أبنائهن في السجون العراقية، واللائي يضطررن لدفع المال لأجل الزيارة، أو إدخال الطعام أو الملابس، أو حتى السماح للمعتقلين بالاستحمام والتعرُّض لأشعة الشمس.
يتعرَّض المعتقلون وذووهم في السجون الحكومية العراقية لـ"أسوأ وسائل الابتزاز في العصر الحديث"، كما يصفها أحد التقارير، وتُنهَب أموالهم مقابل الكشف عن مصيرهم، أو استبدال أوراق التحقيق الخاصة بهم، أو تهريبهم من السجن، أو ضمان عدم تعرُّضهم للتعذيب وسوء المعاملة، أو وضعهم في زنازين نظيفة تتوفر فيها مصادر هواء وحمامات صحية. أما المكاسب المالية التي يجنيها القائمون على السجون فتتوزَّع على شبكة واسعة من الضباط والمسؤولين العراقيين.
يكمُن أحد أسباب تفاقم ظاهرة تعذيب المعتقلين وابتزاز عائلاتهم في اتجاه السجون العراقية، تحت رعاية وزارة العدل، إلى دمج مئات الأشخاص غير المؤهلين التابعين للميليشيات المسلحة ضمن صفوف ضباطها وموظفيها، وذلك في إطار خطط سبقت اجتياح تنظيم الدولة لمدن العراق عام 2014. وقد أتت الخطط في إطار تعاون بين بعض المؤسسات العراقية من جهة وبعض الفصائل المسلحة التي تتقاتل على حيازة النفوذ في هذه المؤسسات من جهة أخرى. وغالبا ما يتلقى هؤلاء أوامر من أحزابهم وجماعاتهم بتعذيب السجناء وإبقائهم في زنازين انفرادية، وإخفاء أخبارهم عن عائلاتهم، ثم التواصل مع تلك العائلات والمطالبة بأموال طائلة من أجل تحسين ظروف سجنهم.
جعلت تلك الظاهرة مجتمع الضباط والعناصر الأمنية، الذين باتوا أشبه بالعصابات، ذوي ثراء فاحش، فهُم يستغلون أبناء العائلات -خاصة الميسورة منها- في العراق استغلالا منهجيا، على سبيل المثال، دفع المحامي "حاتم الجنابي" أكثر من عشرين ألف دولار أميركي لإنقاذ أخيه طوال فترة الأشهر الستة التي قضاها في السجن، إذ لا يجد ذوو المعتقلين خيارا سوى دفع الأموال المطلوبة منهم؛ خوفا من أن يتعرَّض ابنهم للتعذيب ثم يُدلي باعترافات توصله إلى عقوبة الإعدام.
لعبة الإنكار.. والعراق الذي لا يتغيَّر
في فبراير/شباط 2020، زار مدير عام دائرة الإصلاح العراقية العميد "علي نعمه جواد" أروقة سجن بغداد المركزي بغية الاطلاع على عمليات الإعمار التي شملت أغلب قطاعات السجن، التي جاءت بهدف حل مشكلة الاكتظاظ المتفشية في السجون العراقية على حد قوله. تجوَّل جواد في السجن الذي شهد واحدة من أبشع فضائح التعذيب إبان الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وعُرف باسم "سجن أبو غريب" آنذاك، ثم أشاد بتحسُّن الأحوال مؤخرا قائلا إن السجن يُضاهي السجون الحديثة في دول العالم المتحضرة، وإن الزنازين باتت واسعة المساحة.
بيد أن تلك التصريحات لا تعدو كونها مثالا آخر على انفصال المسؤولين العراقيين عن الواقع داخل السجون، أو استخفافهم بالرأي العام المحلي، وحتى المجتمع الدولي، الذي يؤكِّد تفشي التعذيب في سجون البلاد ويرصدها في التقارير الحقوقية مرة بعد مرة. حدث ذلك أيضا يوم كشف "أحمد لعيبي"، المتحدث باسم وزارة العدل العراقية، في منتصف مايو/أيار الماضي عن قُرب فتح سجون جديدة بسبب كثرة أعداد المساجين وقلة الأبنية. ففي اللحظة التي أعلن فيها لعيبي عن خطط وزارته كرَّر نفيه وجود حالات تعذيب أو انتهاكات داخل السجون، واصفا ما يُقال عن ذلك الملف بأنه "إشاعات الغرض منها التسقيط والابتزاز".
بطبيعة الحال، بات الإنكار المتواصل من الجهات الرسمية العراقية، الذي وقعت آخر فصوله حين نفت وزارة العدل حقيقة ما جاء في تقرير للأمم المتحدة عن وقائع "صعق وعنف جنسي" في السجون، بات نهجا معتادا للسلطات في التعامل مع التقارير الدولية والمحلية التي تتحدَّث عن ملف الانتهاكات. وتُبيِّن الأرقام أن من بين 1406 شكوى تعذيب أو سوء معاملة في أماكن الاحتجاز عام 2020 أُغلِق 18 تحقيقا فقط حتى الآن، حسب مجلس القضاء الأعلى في العراق، فيما كشف استجواب 285 حالة احتجاز أجرت الأمم المتحدة مقابلات معهم عن عدم حصولهم على محامٍ، بل كافح المحتجزون من أجل إعلام أُسرهم نفسها بمصيرهم. ورغم احتواء قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 على المادة 333 التي تنص على "الحكم بالسجن على كل مُوظَّف أو مُكلَّف بخدمة عامة عذَّب أو أمر بتعذيب متهم أو شاهد"، لكن لم يواجه أحد من المسؤولين عقوبات تُذكَر بسبب هذه الممارسات، في استمرار للنهج ذاته الذي كان سائدا قبل الغزو الأميركي.
تقول "بلقيس والي"، الباحثة الأولى المختصة بالعراق في منظمة "هيومن رايتس ووتش": "لقد أعددنا تقارير عن التعذيب في العراق منذ عقود، لكنه ما زال مستمرا. من الواضح أنه لا جدوى من مواصلة دعوة الحكومة العراقية لكي تعالج بنفسها الاستخدام المنهجي للتعذيب وظروف السجون اللا إنسانية".
لكن أكثر ما يدفع السلطات العراقية نحو المشاركة والتغاضي عن تفشي التعذيب في سجون البلاد هو صمت الحكومات العديدة التي تدعمها منذ سنوات إقليميا ودوليا. فالولايات المتحدة، التي زوَّدت حكومات العراق بما لا يقل عن 1.25 مليار دولار من التمويل العسكري الأجنبي منذ عام 2015، وبريطانيا وفرنسا اللتان تُقدِّمان التمويل للحكومة في بغداد من أجل مساعدتها في حربها ضد تنظيم الدولة، لم تنبس ببنت شفة حول الانتهاكات والتعذيب في ظل هيمنة أولويات أخرى مثل محاربة الإرهاب وجلب الاستقرار إلى العراق والتواؤم مع واقع سيطرة الميليشيات الشيعية المدعومة في معظمها من إيران.
لطالما ذاع صيت العراق على مدار العقود الأخيرة من القرن الماضي بسبب تلاشي الخط الفاصل بين مفهومَيْ الدولة والعصابة، إذ سلك صدام حسين وأبناؤه ورجاله مسلك العصابات في حكم البلاد، وهو ما انعكس على أساليب وسياسات مؤسساتها الأمنية والشرطية والاستخباراتية، التي مارست انتهاكاتها الدموية بحق العراقيين لعقود. بيد أن الوضع فيما يبدو لم يتحسَّن قيد أنملة، لا تحت مظلة الأميركيين الذين تركوا ندبة واضحة على جبين العراق بفضيحة أبو غريب، ولا تحت سلطة الحكومات الطائفية والميلشيوية التي تأسَّست بعد عام 2003. فمع دخول العراق زمان حكم الميليشيات، يستمر تلاشي الخط الفاصل بين الدولة والعصابة، وتستمر صرخات المسجونين من قلب الأماكن ذاتها التي استخدمها صدام قبل نصف قرن، فقط مع صخب أقل، ورأي عام دولي أقل اكتراثا.