قرارات البرهان.. كيف قتل الجيش الثورة السودانية؟

مقدمة التقرير:
في بلد عائم فوق الانقلابات مثل السودان، لم يكن انهيار الشراكة الهشة بين المدنيين والعسكريين مفاجئا على أي حال. ففي صباح اليوم الاثنين، اعتقل الجيش السوداني رئيس الوزراء عبد الله حمدوك ومعظم أعضاء حكومته والعديد من المسؤولين والعاملين بقطاع الإعلام، قبل أن يُعلن رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان حالة الطوارئ في البلاد وتعليق العمل ببعض مواد الوثيقة الدستورية، وحل مجلسَيْ السيادة والوزراء، على أن يتولَّى الجيش الحكم لحين نهاية المرحلة الانتقالية ونقل السلطة إلى حكومة منتخبة.
نص التقرير:
حين اندلعت الاحتجاجات الغاضبة في أرجاء السودان كافة في ديسمبر/كانون الأول 2018، رابط الثوار أربعة أشهر كاملة في الميادين دون جدوى، وفشلت كل محاولاتهم وأدواتهم في إسقاط نظام الرئيس السوداني المعزول، عمر البشير، الذي حكم البلاد ثلاثة عقود إثر انقلاب عسكري صُبغ بهوية إسلامية. ورغم اصطفاف القوى السياسية داخل تحالف "قوى الحرية والتغيير" الذي قاد الثورة، فإن ذلك لم يكن كافيا، وهو ما دفع إلى التحوُّل نحو الاعتصام المفتوح أمام مقر القيادة العامة للجيش، كونه الجهة الوحيدة التي تستطيع حسم الموقف، كما حدث لاحقا بالفعل عبر انقلاب "أبيض" دفع العسكريين لنسبة نجاح الثورة إليهم.
في بلد عائم على الانقلابات مثل السودان، لم يكن الدور الذي لعبه الجيش خلال الثورة استثناء على كل حال. في الحقيقة، كان الجيش مُحرِّكا رئيسيا في التحوُّلات السياسية كافة التي شهدها السودان. فمنذ الانفصال عن مصر عام 1956، وحتى عزل البشير عام 2019، حكم العسكر عبر ثلاثة انقلابات ناجحة (النميري ثم عبود ثم البشير) نحو 55 عاما، مقابل سبع سنوات فقط من الحُكم المدني. وقد دفعت ثنائية "العسكر والسلطة" التاريخية تلك الجيش السوداني إلى التأكيد دوما أنه وصي على البلاد، كما يقول الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس السيادي، الذي رفض في البداية تسليم السلطة، قبل أن يرضخ في النهاية ويُشرك المدنيين في الحُكم، بحسب ما نصَّت عليه الوثيقة الدستورية. لكن تلك الشراكة انهارت اليوم بالفعل، بعد الانقلاب الذي قاده البرهان على شركائه المدنيين في السلطة.

على حافة الهاوية
يعيش السودان منذ 21 أغسطس/آب 2019 فترة انتقالية تستمر 53 شهرا (مُدِّدَت بعد أن كانت 39 شهرا)، من المفترض أن تنتهي بإجراء انتخابات مطلع عام 2024، وأن يتقاسم خلالها الجيش السلطة مع القوى المدنية والحركات المسلحة التي وقَّعت اتفاق سلام في جوبا مع الحكومة في أكتوبر/تشرين الأول 2020. وبحسب الوثيقة الدستورية التي حدَّدت أُسس الانتقال للحُكم المدني، فإن المجلس السيادي المُكوَّن من خمسة عسكريين وستة مدنيين هو المنوط به إدارة المرحلة الانتقالية، وتنقسم رئاسته إلى فترتين؛ تمتد الأولى 21 شهرا، وتبدأ من تاريخ توقيع اتفاقية جوبا، ويتولى الرئاسة خلالها عضو يختاره الأعضاء العسكريون الخمسة في المجلس (عبد الفتاح البرهان). أما الفترة الثانية فتمتد 18 شهرا، وكان من المفترض أن تختار القوى المدنية الرئيس خلالها.
مع اقتراب نهاية المرحلة الأولى من الفترة الانتقالية، كان المجلس العسكري يستعد، في يونيو/حزيران عام 2022، لتسليم رئاسة المجلس السيادي إلى القوى المدنية، لكن بوادر انقسام عنيف بين المُكوِّن العسكري والمُكوِّن المدني داخل السلطة الانتقالية قادت الطرفان إلى الهجوم العلني على بعضهما بعضا خلال الأسابيع الأخيرة، مع اتهامات للعسكريين بالتراجع عن التحوُّل الديمقراطي، والتحضير لانقلاب وشيك بُغية منع الانتقال السلِس للسلطة. وجاءت تلك الاتهامات على خلفية تصريحات أدلى بها رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان، واعتبر فيها أن الجيش هو الوصي على البلاد، وأن القوى السياسية غير مهتمة بمشكلات المواطنين، فيما علَّق نائبه وقائد قوات الدعم السريع، الفريق أول حميدتي، على محاولة انقلاب فاشلة أجهضها الجيش قائلا إنه لن يسمح لأي قوى سياسية بالتسلُّط على القوات المسلحة، كما هاجم السياسيين واعتبرهم السبب في الانقلابات العسكرية، كونهم -برأيه- أهملوا خدمات المواطن، في تبرير ضمني لأي تحرُّك عسكري مستقبلي.
تفاقم الخلاف في وجهات النظر بين القوى المدنية والعسكريين وظهر علنا في صورة خلاف بين رئيس المجلس السيادي والحكومة السودانية التي يرأسها عبد الله حمدوك، وهو صراع بدا غير متوازن منذ اللحظة الأولى، بالنظر إلى احتكار الجيش للقوة العسكرية التي تمنحه فرصة التحرك ضد المدنيين في أي وقت، فضلا عن الصلاحيات التي منحتها الوثيقة الحاكمة للفترة الانتقالية للفريق أول عبد الفتاح البرهان بصفته رئيس المجلس السيادي، فهو صاحب حق مراقبة السلطة التنفيذية ومناقشتها وسحب السلطة منها وإعفاء رئيس الوزراء متى شاء، وهو ما جعل باب الانقلابات القديم مفتوحا على مصراعيه، خاصة في ظل مواجهة حكومة حمدوك عثرات اقتصادية وسياسية في تأدية مهامها، مما دفعها قبل أشهر لإرسال خطاب إلى الأمم المتحدة يطلب الإبقاء على قوات حفظ السلام في دارفور، وإنشاء بعثة سياسية تشمل أراضي السودان كاملة. ورغم أن ذلك الطلب ليس من صلاحيات الحكومة، بحسب ما حدَّدته الوثيقة الدستورية، فإنه كشف عن مخاوف حمدوك من انقلاب عسكري وشيك.
لم ينحصر الخلاف بين حمدوك والبرهان فحسب، بل امتدت المخاوف وحملات التشكيك إلى "قوى الحرية والتغيير" التي قادت الثورة السودانية، إذ اتهمت العسكريين صراحة بأنهم يحاولون النكوص عن التحوُّل المدني الديمقراطي والاستئثار بالحُكم، لكنها أكَّدت أنها لن تسمح بتقويض الأساس الذي قامت عليه المرحلة الانتقالية. وسُرعان ما أكَّدت الحكومة السودانية رسميا هذه الاتهامات عبر وزير شؤون مجلس الوزراء السوداني، الذي أعلن أن رواية العسكريين حول أحداث الانقلاب الأخير، وتبرير الهجوم على القوى المدنية، تكرار لتاريخ الانقلابات السابقة، وهي تصريحات تعكس قلقا من عدم تسليم العسكريين رئاسة المجلس السيادي إلى المدنيين العام المقبل كما كان متفقا عليه.
على صعيد آخر، دفعت تلك التخوُّفات تحالف "قوى الحرية والتغيير" إلى ترميم بنائه الداخلي وتوحيد صفوفه بعد أن انقسم إلى جناحين مُعارضين لبعضهما بعضا. وقد توصَّل الائتلاف المدني أخيرا إلى إعلان سياسي جديد وقَّع عليه حتى الآن 43 تنظيما من أصل 64، ويهدف للوصول إلى صيغة توافقية تُمكِّنه من خوض الانتخابات العامة سنة 2024 في قائمة موحَّدة. وكان ملفتا للنظر حضور حمدوك الاحتفال الرسمي، فيما غاب عنه عبد الفتاح البرهان، وسط تسريبات بأن القوى المدنية لم تدعُ العسكريين للحضور.
شهدت قاعة الصداقة بالخرطوم اليوم الاربعاء حفل توقيع الإعلان السياسي لوحدة قوى الحرية والتغيير وقضايا الإنتقال وبناء دولة المواطنة المدنية والديمقراطية.#تحديات_الفتره_الانتقاليه #حنبنيهو #السودان pic.twitter.com/KakmJsv2dE
— islam abdelrahman. اسلام عبدالرحمن (@IslamRmc) September 8, 2021
الوجه الآخر لشراكة العسكريين
كان كل شيء في المشهد السوداني يُمهِّد إذن لتلك اللحظة التي شهدناها صباح اليوم، بل إن تاريخ البلاد القريب كان يشي بالنهاية نفسها على ما يبدو. شهد السودان منذ الإطاحة بحُكم البشير في إبريل/نيسان 2019 نحو ست محاولات انقلابية فاشلة، استهدفت الإطاحة بالقادة الحاليين، في مؤشر على مدى تباين الولاءات داخل المؤسسة العسكرية. وقد وقعت أبرز تلك المحاولات في العام نفسه بقيادة رئيس أركان الجيش السابق، الفريق هاشم عبد المطلب، بالتعاون مع بعض قادة أفرع الجيش، قبل أن تنكشف في الساعات الأخيرة. وقبلها، حدثت محاولة اغتيال لرئيس المجلس العسكري الفريق عبد الفتاح البرهان تكتَّم عليها الجيش، ولم يُعلِن تقديم مُنفِّذيها إلى محاكمات علنية، كما لم تشارك أجهزة الدولة المدنية في التحقيقات مع الأجهزة العسكرية حينها، رغم مطالباتها المتكرِّرة.
لم يكن الأمر يقتصر إذن على مخاوف القوى المدنية في الميل الكامن لدى العسكريين للانقلابات، وشعورهم بأحقيتهم بالسلطة بالنظر لاعتبارات التاريخ السياسي للسودان، ولكنه تعلَّق أيضا بالصراعات المكتومة داخل المنظومة العسكرية في السودان، والحديث هنا عن صراعات الأجنحة بين الأجهزة السيادية التي تؤرِّق الحكومة وتُمثِّل تهديدا للمسار السِّلْمي لانتقال السلطة. وقد أعلن رئيس الوزراء المُعتقل حمدوك مؤخرا عن مخاوفه تلك صراحة عبر مبادرة أطلقها في يوليو/تموز 2021، تهدف لإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية، وتسوية وضعية قوات الدعم السريع التي تحظى بعداء مُطلق مع كبار قادة الجيش ممَّن رفضوا مرارا في عهد البشير إلحاق تلك القوات غير النظامية بالمؤسسة العسكرية. أما الأزمة التي أشار حمدوك إلى وجودها بين حميدتي والبرهان، فلم ينفها الأخير صراحة، رغم أن حمدوك تعمَّد إظهارها للعلن، مع اعترافه برغبته في تغيير عقيدة الجيش السوداني الحالية، حفاظا على استكمال المسار المدني للدولة.
يكمُن السبب الرئيسي وراء الخلاف بين رأسَيْ المنظومة العسكرية في السودان، البرهان وحميدتي، في النفوذ المتصاعد لقوات الدعم السريع التي تدين بالولاء المُطلق لقائدها (على عكس تباين الولاءات في الجيش)، فقد استطاع حميدتي أن يرسم طريقه في السلطة دون أن تتمكَّن أي قوى من إخضاعه أو الإطاحة به من صدارة المشهد الحالي بوصفه الرجل الثاني بعد الفريق البرهان في المجلس السيادي. ويظهر ذلك بوضوح في مخرجات الوثيقة الدستورية التي وضعت جهاز المخابرات تحت إشراف مجلس السيادة ومجلس الوزراء، بينما جعلت قوات الدعم السريع تابعة للقائد العام للقوات المسلحة أثناء الفترة الانتقالية، وهو منصب غير موجود حاليا، ما يعني أن حميدتي باقٍ في منصبه إلى حين انتخاب رئيس جمهورية في عام 2024، وفق الجدول الزمني المُقرَّر.

في المقابل، وبينما أخضع البرهان الجيش لعملية إحلال واسعة ضمَّت إقالة العشرات من كبار القادة في الصف الأول والثاني، لم يتعرَّض رئيس المجلس السيادي لقوات الدعم السريع، بسبب خلافه مع حميدتي الذي يرفض حلَّ تلك القوات أو ونزع سلاحها أو حتى دمجها داخل الجيش. كما سبق ووجَّه قائد الدعم السريع تحذيرا مُبطنا لقادة الجيش مفاده بأن التعرُّض لقواته يمكن أن يُفكِّك البلاد. وفيما منحت الوثيقة الدستورية لرئيس المجلس السيادي صلاحية إقالة رئيس الوزراء، فإنها لم تمنحه سلطة التعرُّض للدعم السريع. ومن جهته، لا يزال حميدتي يُروِّج بأنه سيتصدَّى وقواته لأي انقلاب عسكري من الجيش قد يستهدف الحكومة المدنية، وهو ما يُجبر جميع خصومه (من المدنيين والعسكر على السواء) على التفاوض معه، كونه يملك، بفضل قواته وحصانته القانونية، القدرة على ترجيح كفة الصراع في الاتجاه الذي يرغبه.
في قبضة الجيش
تُمثِّل تدخُّلات الجيش السوداني في السياسة وأمور الحُكم واقعا أكبر من الثورة السودانية التي أطاحت بالحُكم العسكري لعُمر البشير، ومن ثمَّ يظل العسكريون الذين أداروا المشهد -لعقود لا لأشهر فحسب- هُم العقبة الأكبر بطبيعة الحال أمام التحوُّل نحو الديمقراطية الثالثة، والانتقال إلى الحُكم المدني. وقد وجَّهت الولايات المتحدة تحذيرا ضمنيا إلى الجيش، عبر اتصال هاتفي بين حمدوك و"جاك سوليفان"، مستشار الأمن القومي الأميركي، من أن أي محاولة من جانب السلطات العسكرية لتقويض الإعلان الدستوري ستتبعها عواقب وخيمة، كما أكَّد البيت الأبيض في بيان رسمي مواصلة الدعم الأميركي الكامل لبدء حُكم مدني في السودان، والتزام الرئيس الأميركي جو بايدن بالانتقال الديمقراطي الذي يقوده المدنيون.
لكن الدعم الأميركي المُطلَق الذي حظيت به القوى المدنية لم يكن كافيا لإبعاد أشباح الانقلاب عن المشهد السوداني، وهو أمر سبق أن ألمح له البرهان صراحة قائلا: "إذا لم تتوحَّد قوى الثورة فإننا لن نمضي مع مجموعة صغيرة اختطفت الثورة"، وهو المضمون الذي أكَّده حميدتي أيضا قائلا إنه "لن يجلس مرة أخرى مع المدنيين".
في النهاية، نفَّذ البرهان تهديده بالفعل، وأقصى المدنيين تماما عن إدارة المرحلة الانتقالية متهما إياهم بالتكالب على السلطة ووضع البلاد في خطر داهم. ورغم أنه لا يزال يتعهَّد بتسليم السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة، فإنه لا توجد ضمانة أن ذلك سوف يحدث بالفعل، في ظل انفراد العسكريين بالسلطة السياسية وسيطرتهم الكاملة على مفاصل الاقتصاد. على سبيل المثال، يستحوذ قائد قوات الدعم السريع على حصة كبيرة من اقتصاد السودان ساهمت في منح قواته استقلالا ماليا بعيدا عن الحكومة والجيش معا، وذلك بسبب تحكُّمه في جبل عامر، المنطقة الأغنى بالذهب في البلاد، وهو ما يجعل "حميدتي" رسميا أكبر تاجر ذهب في السودان، وصاحب الكلمة العليا في هذه الصناعة بما يمتلكه من مناجم وشركات تجارية تفرض نفسها على الحكومة السودانية.
لم يأتِ هذا التوجُّه مصادفة بالطبع، بل بدأه الجيش السوداني رسميا عقب تولي البرهان رئاسة المجلس السيادي، ضمن خطة تستهدف السيطرة على الموارد الحيوية للدولة، تمهيدا للانفراد بالقرار السياسي. ورغم ذلك، لا يزال السودانيون يمتلكون نافذة أمل رغم أنها تضيق باستمرار، فالشباب الغاضبون الذين نزلوا إلى الشوارع قبل أكثر من عامين من غير المرجَّح أن يقبلوا بمثل هذه التحرُّكات، ومن المؤكَّد أنهم سيشغلون شوارع البلاد خلال الأيام المقبلة، في محاولة لاستعادة زمام المبادرة.
من ناحية أخرى، من الصعب الجزم أن السلطة العسكرية التي لا تزال تكافح لإقناع المجتمع الدولي لقبولها بعد عصر البشير سوف تنجح في تفادي الضغوط والانتقادات الدولية المتوقَّعة بعد تحرُّكاتها الأخيرة. وأخيرا، ليس من الواضح بعد إذا ما كان جناحا السلطة العسكرية، الجيش وقوات الدعم السريع، على وفاق كامل بشأن الخطوات المقبلة، أم أن الصراعات المحتملة داخل الجناح العسكري نفسه سوف تفتح الباب أمام سيناريوهات جديدة غير متوقَّعة، في البلد العربي الذي يبدو أن الانقلابات باتت جزءا من قدره المحتوم.