شعار قسم ميدان

تونس نموذجا.. هل تُمهِّد الشعبوية الطريق إلى الاستبداد؟

أصدرت المطربة التونسية لطيفة أغنيتها "يحيا الشعب.. يسقط كل عدو الشعب" احتفالا بالإجراءات التي اتخذها الرئيس التونسي "قيس سعيد" بحل البرلمان وإسقاط الحكومة وضم السلطات الثلاث القضائية والتنفيذية والتشريعية إلى صلاحياته رئيسا للدولة التونسية، وتتحدَّث كلمات الأغنية عن شعب موحَّد متجانس مكوَّن من كتلة فضفاضة شديدة العمومية ("إحنا نساءها إحنا رجالها.. إحنا شبابها وَرد جبالها.. إحنا الفلاحة وعمالها إحنا الشعب")، وهو شعب يخوض معركة ضد مَن سمَّتهم كلمات الأغنية مجموعة من السماسرة وبائعي الأراضي. قد يكون طبيعيا ألا تهتم أغنية أو عمل فني بالتوصيفات السياسية الدقيقة عن ماهية الشعب ومكوناته رغم البُعد السياسي الواضح للأغنية، لكن ماذا عن الخطاب السياسي التونسي نفسه، بالأخص خطاب الرئيس قيس سعيد؟

يُعَدُّ قيس سعيد رئيس جمهورية ذا طينة خاصة، فالأستاذ الجامعي المتقاعد الذي أفنى حياته في دراسة الفقه الدستوري، وصل إلى قصر قرطاج بلا حزب ولا تاريخ نضالي ولا مال ولا دعم إقليمي أو دولي، وذهبت أغلب التوقُّعات قبيل انتخابه إلى أنه سيكون الرئيس الأضعف في تاريخ البلاد، لا سيما في ظل استقطاب سياسي حاد بين الإسلاميين والعلمانيين. بيد أنه سرعان ما كشَّر عن أنيابه وأظهر سعيه لاحتكار السلطات كافة في يده، ليدخل في مواجهة علنية مع حركة النهضة صاحبة التكتل الأكبر في البرلمان "المُجمَّد" وحلفائها، مُنذِرا بانهيار كامل للتحوُّل الديمقراطي في تونس بعد عشر سنوات من عملية ديمقراطية متعثِّرة وصعبة.

الرئيس التونسي "قيس سعيد"

فشل الطبقة السياسية التونسية 

لعل ما أتى به قيس سعيد من إجراءات كان مفاجأة لمتابعي الشأن التونسي، لكن انفجار الأوضاع في تونس كان مسألة وقت ليس إلا. فمع اندلاع ثورة الياسمين في ديسمبر/كانون الأول 2010، حضر البُعد الاجتماعي-الاقتصادي فيها بقوة، لكن منذ ربيع عام 2011، تحوَّلت الثورة إلى مسار أيديولوجي وهوياتي تقوده وتحتكره -بحسب مراقبين- نُخَب قديمة وجديدة بعيدة عن هموم أغلب مكوِّنات الشعب.

تعمَّقت المأساة بدخول المؤسسات المالية الدولية والشركاء الاقتصاديين على خط الأزمة. ووفقا للكاتب التونسي "محمد عبد المولى" فإن هؤلاء الشركاء الجدد "استغلوا اهتزاز الدولة لفرض شروط وسياسات ’إصلاحية‘ زادت تبعية البلاد والدَّيْن الخارجي وتكلفة خدمة الدَّيْن، فارتفعت نِسَب البطالة، ومعها نِسَب الفقر والعاملين في قطاعات الاقتصاد غير المهيكل والمهاجرين نظاميا، أو عبر ما يعرفه التونسيون بقوارب الحرقة. تعاقبت على حُكم البلاد منذ ثورتها عشر حكومات، أغلبها مُشكَّل من تحالفات هشة وضعيفة قادتها حركة النهضة، وهي حكومات سدَّت كل أفق أمام أغلبية التونسيين ورذّلت العمل السياسي"، وهي كلها عوامل أفضت إلى ما حدث في 25 يوليو/تموز الماضي. (1)

زاد الوباء من هشاشة الوضع السياسي والاجتماعي في تونس، خاصة بالنظر إلى التعامل الحكومي الكارثي مع الأزمة، فارتفعت أعداد الإصابات ومعها أعداد الوفيات، وحدث ذلك في ظل البرلمان الذي انتُخِب عام 2019 ولم يأتِ بأغلبية واضحة آنذاك، مع حصول حركة النهضة على رُبع عدد المقاعد تقريبا ودخولها في تحالف مع حزب يقوده رجل أعمال تُثار حوله شبهات فساد مالي. تحوَّل هذا البرلمان منذ انتخابه إلى ما يشبه السيرك اليومي، وهو ما أثار سخرية التونسيين، ثم سرعان ما أثار غضبهم واشمئزازهم كذلك، إذ شهد سجالات بالألسن وعراكا بالأيدي بين النواب المُنتخَبين مرات عدة.

شهد البرلمان التونسي، منذ أول انتخابات عقب الثورة، حالة عُرفت في الشارع التونسي بالسياحة الحزبية، حيث انتشرت ظاهرة النائب الذي يدخل البرلمان مستقلا أو على قوائم أحد الأحزاب، لينتقل بعدها إلى حزب آخر وأجندة سياسية أخرى بحثا عن تحالفات جديدة أو سعيا لضمان مقعده البرلماني والامتيازات المالية والاجتماعية التي تأتي مع عضوية البرلمان. شاهد التونسيون هذا الأداء المُخيِّب للبرلمان عبر التلفاز في الوقت نفسه الذي شاهدوا فيه تصاعد أرقام الوفيات والمصابين بفيروس كورونا، ما خلق حالة من السخط والعزلة بين قطاعات واسعة من الشعب التونسي من جهة، والبرلمان المُمثِّل له وحكومته من جهة أخرى. (2)

أتى كل هذا في ظل وضع اقتصادي مأزوم، حيث تتعالى أصوات التحذيرات من عدة مؤسسات مالية محلية ودولية من شبح الإفلاس، في الوقت الذي اختارت فيه حركة النهضة وحلفاؤها السير على خُطى أجندة صندوق النقد الدولي وفتح الباب للاستدانة الخارجية، مع القبول بشروط المؤسسات المالية الدولية التي قضت برفع الدعم عن السلع الأساسية والمحروقات، مما فاقم الأزمة الاقتصادية أكثر. هنا تحديدا التقط الرئيس التونسي طرف الخيط، وبدأ في توجيه تحذيرات للحكومة والبرلمان للضغط عليها من أجل تغيير سياساتها والاستماع إلى صوت الشعب التونسي، بحسب قوله.

في منتصف العام الجاري، وصلت الإصابات اليومية بفيروس كورونا إلى الآلاف، وبلغ عدد الوفيات المئات طبقا للأرقام الرسمية، "وأصبح التونسيون يعانون من الوباء والأزمة الاقتصادية وحظر التجوال وانسداد الأفق السياسي. يُضاف إلى ذلك مهازل وفضائح تتعلَّق بحملات التلقيح ولا مبالاة الحكومة التي تخلَّفت عن جلسة مساءلة في البرلمان بدعوى كثرة المشاغل، ليتبيَّن فيما بعد أن العديد من وزرائها كانوا يستجمون يومها في منتجع سياحي، في الوقت الذي جلس فيه أطباء ومديرو مشافٍ يستغيثون بسبب امتلاء أَسِرَّة الإنعاش وانقطاع الأكسجين. لم تستطع المعارضة بمختلف تكويناتها تكوين ثقل وازن في البرلمان أو في الشارع يُمكِّنها من تشكيل بديل وتلقُّف الغليان الشعبي. وفي تلك اللحظة ظهرت دعوات "مجهولة المصدر" تحث التونسيين على النزول إلى الشارع في 25 يوليو/تموز، وإسقاط البرلمان والحكومة معا، ولم يأخذ كثيرون -على رأسهم حركة النهضة- هذه الدعوات على محمل الجد". (1)

الشعبوية العربية طريق إلى الشمولية 

يُعَدُّ مفهوم الشعبوية من أكثر المفاهيم المتنازَع على تعريفها، ولكن رغم الاختلافات والتباينات، يتفق أغلب المفكرين على سِمَات رئيسية لها، أبرزها العداء الجذري للنخبة والمؤسسات الوسيطة كمنظمات المجتمع المدني والبرلمان والهيئات السيادية غير المُنتخَبة مثل القضاء والمحاكم الدستورية. في المقابل تنحاز الشعبوية بشدة لمفاهيم مثل الإرادة العامة والشعب المتجانس والديمقراطية الجماهيرية والسيادة الشعبية.

تلك المرتكزات الخطابية هي التي قامت عليها حملة قيس سعيد الرئاسية، وهي التي أوصلته إلى أعلى منصب سياسي في تونس، تحت شعار "الشعب يريد ويعرف ما يريد". وقد قُدِّم قيس سعيد إلى التونسيين بوصفه واحدا من الشعب، وهي إستراتيجية خطابية وسياسية لاقت نجاحا واستجابة غير متوقَّعة، فبات قيس سعيد بفضلها مُمثِّل التونسيين العاديين المُلتفين حوله صفا واحدا ضد نُخَب غير أخلاقية أو فاسدة أو فاشلة على أقل تقدير.

تقودنا تلك الحالة إلى مقارنة قيس سعيد مع شعبوية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي حفل خطابه بالهجوم الشرس والمستمر على النخبة الأميركية السياسية والثقافية، بوصفها نخبا طفيلية لا تُمثِّل عموم المواطنين في الولايات المتحدة. ومثله مثل قيس سعيد، أتى ترامب من خارج الطبقة السياسية الفاشلة والعاجزة عن حل مشكلات المواطنين، ليُقدِّم نفسه مُمثِّلا حصريا وحقيقيا للشعب، ومن ثمَّ مرشَّحا أقدر على التعبير عن الشعب وهمومه وأقدر على سماع مشكلاته. قدَّم ترامب وقيس سعيد نفسيهما مُمثِّلين للإرادة العامة للشعب دون اعتبار أو قداسة للعملية الانتخابية أو المؤسسية بالضرورة. بيد أن ثمة فارقا مهما بينهما، هو نفسه الفارق بين شعبوية ترامب الأميركية وشعبوية قيس سعيد والشعبوية العربية في العموم.

دونالد ترامب

لقد عبَّر دونالد ترامب سياسيا ومشهديا عن قوى اجتماعية حية وعلى قدر عالٍ من التنظيم والفعالية السياسية في المجتمع الأميركي، ودخلت تلك القوى إبان فترة صعود ترامب في تحالف سياسي وثيق مع عدد من القوى المحافظة الأميركية على رأسها الحزب الجمهوري، ولذا وصلت بترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة الأميركية من خارج المنظومة ومن بين ثناياها في الوقت نفسه. بالتزامن مع ذلك، وقفت المؤسسات السيادية الأميركية على مسافة من الرئيس الشعبوي المُنتخَب ولم تتماهَ معه، ولم تُعادِه صراحة بشكل يؤدي إلى انهيار العملية السياسية، ومن ثمَّ حافظت على التقاليد الديمقراطية والسياسية الأميركية، وعلى مؤسساتها وإطارها الدستوري.

على النقيض، يأتي موقف قيس سعيد، الذي يقود المد الشعبوي في تونس اليوم ضد الطبقة السياسية والمجتمع المدني والإعلام، حيث ظهر الرجل في الإعلام وبجواره قيادات الجيش والأجهزة الأمنية ليُعلِن تعليق العمل بالبرلمان والدفع بالدبابات إلى الشوارع لتُحاصِر مجلس الشعب مانعةً النواب المُنتخَبين من دخوله. وبحسب الكاتب التونسي "علي كنِيس": "فبعد أن جمع قيس كل السلطات في يده، فإنه يتجه الآن إلى تسليم عدد من الملفات للجيش بحجة أن النخبة السياسية والإدارية فشلت في إدارتها. يرافق ذلك حالة من الإنكار الواسعة لوجود انقلاب في البلاد، والتهليل لكل خطوة يتخذها سعيد. إنها بداية لعسكرة إدارة الشأن العام، ولن يكون التخلُّص من هذه الإجراءات الاستثنائية سهلا أبدا". (3)

هنا تكمن خطورة الشعبوية العربية التي يُمثِّلها قيس سعيد، وهي أنها لم تأتِ تجسيدا لتحالف اجتماعي أو مشاريع سياسية من قوى المجتمع المدني لفرض تصوُّرها عن السلطة والشرعية من أجل حل مشكلات المجتمع نفسه، بل أتت شعبوية سعيد هذه المرة على أنقاض فشل المجتمع المدني وقواه السياسية والاجتماعية في إدارة عملية الانتقال الديمقراطي وإدارة الملفات السياسية العاجلة في الاقتصاد والصحة وغيرها، ولذا ليست الشعبوية في الحالة التونسية هنا سوى جسر للانتقال من الديمقراطية إلى الديكتاتورية البيروقراطية والعسكرية، وتنحية المجتمع بكل طبقاته وقواه من المجال السياسي، بل وإفقاد التسيُّس وممارسة السياسة قيمتها من الأساس وأهميتها في نظر العامة، مع تقديس للحاجة إلى "إنجاز المهام" و"ضبط الأمن" وغيرها من المفاهيم.

لأن زعيم تونس الشعبوي الجديد يفتقد القوة السياسية الحقيقية المنظمة، فمن المُرجَّح أن يصبح أسيرا لها بمرور الوقت لا قائدا لها.

تُمثِّل إذن حالة قيس سعيد شكلا من أشكال الشعبوية الهشة. ففي حين أن شعبويي الغرب المعاصرين، مثل "فيكتور أوربان" في المجر، و"جان ماري لوبان" في فرنسا، و"دونالد ترامب" في الولايات المتحدة، هُم مُمثِّلون سياسيون لقوى موجودة على الأرض وشرائح اجتماعية ذات ثقل وحضور وسط الناس، ويُقدِّمون أنفسهم بوصفهم بديلا أكثر ديمقراطية وقدرة على تمثيل مصالح الشعب مقارنة بالنُّخَب، ويدخلون إلى المجال السياسي عبر صناديق الاقتراع وأُطر الشرعية الدستورية، فإن قيس سعيد قادم من الظل تماما، بلا أي ظهير مجتمعي منظم، وبلا حزب يميني أو شعبوي، فلا يسنده سوى القوى الكارهة لحركة النهضة والساخطة على الأوضاع الحالية في تونس، ولا يمنحه الشعبية سوى خطابه المجرَّد وهجومه على الأحزاب والتعددية السياسية والمجتمع المدني بمعناه الكلاسيكي؛ فاتحا الباب بذلك أمام السلطوية وتصفية المجال السياسي لصالح حكم سلطوي أو شمولي مرتكز حول شخصه ومن بعده أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية.

ولأن زعيم تونس الشعبوي الجديد يفتقد القوة السياسية الحقيقية المنظمة، باستثناء التفاف أجهزة الدولة البيروقراطية وغير السياسية بالضرورة حوله، فمن المُرجَّح أن يصبح أسيرا لها بمرور الوقت لا قائدا لها، ومن ثمَّ لعله يُمهِّد لحكم تلك الأجهزة العسكرية والأمنية في المستقبل القريب. أما القطاعات الشعبية المؤيدة له، فلربما تجد نفسها في القريب العاجل وقد خابت ظنونها بخروج قيس سعيد من المشهد بانتخاب غيره أو وفاته، لا سيما وهو مُنْبَت الجذور بأي ظهير سياسي، وسيكون عليها حينئذ أن تواجه مشكلة أكبر بكثير من نخبة غير كفء أو برلمان مشلول، وهي نخبة أخرى لا يمكن إزاحتها من السلطة بصناديق الاقتراع.

______________________________________________________________

المصادر:

  1. تونس: رئيس الجمهورية يقلب الطاولة، جريدة السفير العربي، محمد رامي عبد المولى
  2. في الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية؟، عزمي بشارة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
  3. مسار الانقلاب على الثورة لم يبدأ اليوم، و«الرئيس المنقذ» لن يعكسه، علي كنيس، حبر
  4. ما الشعبوية؟، يان فيرنر مولر، منتدى العلاقات العربية والدولية
المصدر : الجزيرة