عالم جديد غير حقيقي.. كيف تحوَّلت السياسة إلى مسرح للزيف؟
بعد أحداث الانقلاب العسكري الدامية بمصر، وفي إطار الحرب الإعلامية المستعرة لتشويه جميع المجموعات السياسية التي شاركت في انتفاضة 25 يناير/كانون الثاني 2011، استضافت إحدى الفضائيات المصرية عبر الهاتف عام 2014 ضيفا استثنائيا، قالت القناة إنه عضو "الاتحاد الأميركي للفلكيين"، وادَّعى "الضيف" أنه أجرى حوارا مع أحد الفضائيين "الذين يملؤون المجرات"، فحذَّره "الفضائي" من "قوى الشر" التي تشمل -حسبما جاء بالبرنامج- "جماعة الإخوان المسلمين" التي تساعد الفضائيين على غزو كوكب الأرض.
يبدو الأمر هزليا ولا يمكن أخذه على محمل الجد، لكن البرنامج نفسه أذاع تصريحات "الضيف الذي أجرى حوارا مع الفضائيين" باعتبارها حقيقة، وما يظنه المرء غير قابل للتصديق يبدو أن هناك قطاعات كبيرة من الناس مستعدة لتقبُّله ما دام قد أذاعه "الإعلام"، مهما بدا هزليا ومزيفا، هذا ما وضَّحته حلقة المراسل الذي اعتقلته السلطات المصرية مدة عامين "شادي أبو زيد"، عندما سأل عددا من الأشخاص في شوارع القاهرة عن حقيقة وجود "كائنات فضائية"، فلم تأته ردود الناس بالإيجاب والتصديق لما يأتي في الإعلام والأفلام الأميركية فحسب، بل حذَّر المصريون من أن الكائنات الفضائية يمكن أن تتآمر على مصر وتُغري شبابها بالأموال لزعزعة استقرارها.
نعيش اليوم حالة استثنائية في التاريخ البشري من تفشي الزيف، ونتعرَّض يوميا لموجات متتالية من تزييف الحقائق، وهو أمر لا يحدث في بلادنا فقط، بل ينتشر في العالم كله تحت تأثير آلات تزييف ضخمة لا تقتصر على الإعلام الذي يسيطر على عقول البشر ويتلاعب بها، بل تشمل وسائل أكثر تعقيدا أنتجها التطور التكنولوجي وتقنيات الذكاء الاصطناعي، التي تتحوَّل السياسة تحت تأثيرها إلى مجرد نوع من الألعاب اختفى معها مفهوم "الصالح العام"، وتضخَّمت المصالح الشخصية داخل دوامات مستمرة من التزييف، الذي يشمل ويمنع أي فرص مُحتمَلة للتغيير السياسي. (1)
ليس المصريون وحدهم مَن يعتقدون بوجود كائنات فضائية تتآمر على دولتهم على ما يبدو، فخلال ثمانينيات القرن المنصرم، سجَّل أميركيون كُثُر في الولايات المتحدة مقاطع مصوَّرة لطائرات وأجسام مضيئة وغريبة تُحلِّق فوقهم بالسماء، وسرعان ما شرع الإعلام الأميركي في الحديث عمَّا عُرف واشتهر فيما بعد باسم "الأجسام الطائرة المجهولة" (UFOs)، ثم ظهر الخبراء والمحللون والمحققون المولعون بالأطباق الطائرة وأسرار الفضاء، وأخبروا الجمهور الأميركي بأنهم اطَّلعوا على وثيقة حكومية سرية للغاية، تؤكِّد زيارة عدد من المركبات الفضائية للأرض واحتجاز بعض الفضائيين في قواعد عسكرية خاصة. (2)
بنهاية الثمانينيات، اتضح أن القصة كلها مُختلَقة ومزيفة، أما الأجسام الطائرة المجهولة التي شاهدها وصوَّرها آلاف الناس فلم تكن سوى تجارب لأسلحة جديدة عمل الجيش الأميركي على تجربتها وتطويرها، إذ كانت المخابرات الأميركية ما زالت تعتقد أن الاتحاد السوفيتي يُخطِّط لمهاجمة أميركا والسيطرة على العالم. ولما كان من المستحيل إخفاء تلك التجارب، اختارت الحكومة الأميركية بعض سُكَّان المناطق القريبة من القواعد العسكرية لنشر الشائعات حول الأطباق الفضائية، فزرعت الفكرة داخل عقولهم، وأقنعتهم بأن الحكومة الأميركية تستضيف بعض الفضائيين في قواعدها العسكرية السرية بهدف التواصل والتعاون معهم، وأن عليهم كتمان السر لمصلحة الولايات المتحدة.
أشرف على هذه العملية الكبيرة من التزييف وخلق الأوهام حول الأجسام الطائرة المجهولة مستشارو الرئيس "رونالد ريغان" خلال الثمانينيات، وأطلقوا عليها عملية "إدارة الوعي". وقد نجحت تلك العملية بالفعل في إدارة وعي قطاع لا بأس به من الأميركيين وكثيرين غيرهم حول العالم، ليس فقط عبر إقناعهم بوجود الأطباق الفضائية والغزو الفضائي للأرض، بل كذلك نجحوا في رسم صورة مزيفة عن الشرق الأوسط والاتحاد السوفيتي وأميركا الوسطى.
لم يكن هدف البرنامج التغطية فحسب على هزيمة القوات الأميركية وانسحابها من لبنان عام 1984، ثم إقناع الأميركيين بعملية الإغارة على ليبيا جويا 1986، بل التغطية تماما كذلك على عالم السياسة المُعقَّد، وتحويله إلى صورة بسيطة من الأخيار والأشرار في خيال عامة الناس عبر الاستحواذ على مخيلتهم وتحريف الحقائق وتشويه أي مجموعة من البشر وتحويلهم إلى أعداء بطريقة تخدم سياسة الحكومة الأميركية. (2)
Virtual unreality: living in a post-truth world. Story on #AdamCurtis' new film #hypernormalisation. @BBCiPlayer @ 9 https://t.co/Z94tkaZXsr pic.twitter.com/Q4ol2zT5xu
— BBC Arts (@bbcarts) October 16, 2016
بيد أن الواقع فيما بعد كشف إلى أي مدى انفصلت واشنطن عن واقع الاتحاد السوفيتي والعالم كله، فقد انهار الاتحاد السوفيتي مع بداية التسعينيات، وهو ما لم يتوقعه أيٌّ من السياسيين والصحافيين والخبراء الاقتصاديين والأكاديميين، أو حتى المخابرات المركزية الأميركية، الذين كان السوفييت شغلهم الشاغل.
لم تقتصر تجارة الزيف في تلك الفترة على الولايات المتحدة. ففي الاتحاد السوفيتي، ذلك الكيان السياسي الذي نظر إليه سياسيون وأكاديميون كُثُر حول العالم بوصفه تحقيقا لأحد أحلام البشرية الكبرى بخلق عالم جديد فاضل، كان كل شيء ينهار تحت وطأة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، ورغم ذلك، ظلَّ السياسيون والخبراء (التكنوقراط) يتظاهرون بأن كل شيء على ما يُرام ويسير وفق الخطة، وأنه ما من بديل سوى التظاهر بالعمل والإخلاص للوظيفة والوقوف في الطوابير والصياح بالنشيد الوطني والهتاف بسقوط الأعداء.
بحلول نهاية الثمانينيات، وقبيل انهيار الاتحاد السوفيتي، بات المجتمع الروسي مجتمعا لا يؤمن فيه أحد بأي مستقبل، إذ لا يمكن لأحد أن يرى أبعد من النظام القائم، ولا يسع أحد أن يتخيَّل أو يُفكِّر في التغيير، فقد امتد التزييف لكل مناحي الحياة، وأصبح الجميع يتظاهرون بالتكيُّف مع الوضع القائم مهما بدا مُزريا، الأمر الذي سمَّاه أحد الصحفيين الروس بـ "التطبيع المُفرِط مع الزيف". وقد أتى هذا التطبيع مع الزيف متزامنا مع لحظة أخذ فيها العالم كما عرفه الناس على مدار قرن من الزمان يموت ويختفي، بينما لم يكن العالم الجديد قد وُلِد بعد.
سرعان ما انتقل هذا المزاج القاتم الذي ساد روسيا في التسعينيات إلى الأدب الروائي، إذ عبَّر الأخوان "أركادي وبوريس ستروغاتسكي" عن ظاهرة "التزييف" التي تعيشها بلاد السوفييت في قصة الخيال العلمي التي نالت شهرة واسعة "نزهة على جانب الطريق" (Roadside Picnic)، التي حوَّلها المخرج "أندريه تاركوفسكي" إلى فيلم سينمائي باسم "المُتلصِّص" (Stalker). تقع أحداث الرواية في زمن شبيه بحاضر الاتحاد السوفيتي آنذاك، لكن أحد المُتلصِّصين يجد منطقة غريبة خارج البلاد يبدو أن قوى أجنبية أنشأتها، ولا يشبه أي شيء فيها الزمن الحاضر، إذ يمر الوقت في تلك المنطقة عكس الاتجاه، كما أن هناك قوى غريبة تُجبر مَن بداخلها على التفكير بطريقة مختلفة. لم تكن قصة ستروغاتسكي إلا تعبيرا عن انهيار العالم كما عرفه، وتحوُّله تدريجيا إلى عالم مُتغيِّر وغير مستقر، حيث ما من وسيلة إلى تغيير الواقع، بل الأمر الوحيد المتاح هو تعلُّم كيفية التلاعب به.
منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، أصبحت العقيدة السياسية الجديدة للعالم ليست هي "الثورة" أو "التغيير" أو "بناء عالم أفضل"، ولكن "إدارة العالم كما هو لتجنُّب أي كوارث واردة الحدوث". ومن أوائل المفكرين السياسيين الذين لاحظوا ذلك الأمر ووصفوا ذلك التغيير الدراماتيكي في عالم السياسة المفكر وعالم الاجتماع الألماني "أولريش بيك"، الذي قال إن "أي سياسي يعتقد أنه يمكنه السيطرة على المجتمع ودفعه إلى الأمام لبناء مستقبل أفضل ستنظر إليه جميع الأنظمة السياسية على أنه خطير ويجب استبعاده".
هذه الرؤية الجديدة التي تحدَّث عنها "أولريش بيك" ازدهرت ونمت بالفعل بين طبقات السياسيين والأكاديميين في الغرب منذ سبعينيات القرن الماضي على الأقل، وهي رؤية تحاول المحافظة على العالم كما هو في مواجهة مخاطر التغيرات العنيفة وآثارها المجهولة على المجتمعات، وفي مواجهة طموحات السياسيين الذين ظنوا أنهم يستطيعون تغيير العالم. تبنَّى هذه الرؤية التيار السياسي الذي سيسود العالم حتى وقت قريب، وسيغزو شتى بلدان العالم تحت اسم "الليبرالية الجديدة"، بيد أن تلك الليبرالية الجديدة ليست في جوهرها رؤية ليبرالية، بل إعادة تموضع وصعود للتيار "المحافظ" الذي هُزم منذ عصر النهضة الأوروبية. (3)
سرعان ما ظهر أول إنجاز يحمل فلسفة تلك الرؤية الجديدة، وهو الحاسوب العملاق "علاء الدين" الذي صمَّمه المصرفي "لاري فينك" بعد أن فقد وظيفته كونه مصرفيا بسبب خسارته لصفقة بمئة مليون دولار، فأسَّس شركة تُسمى "بلاكروك" (Blackrock) صمَّمت حاسوبا وظيفته هي حساب المخاطر عبر تحليل أحداث العالم وبياناته خلال الخمسين سنة السابقة لتصميمه، ثم عن طريق المقارنة والمحاكاة، يبدأ الحاسوب في توقُّع المخاطر والكوارث المُحتمَلة. (4)
خلال تلك الفترة، انتقلت مهمة إشعار الناس بالطمأنينة والسعادة من السياسيين وقادة المجتمع إلى الحواسيب وخوارزميات الذكاء الاصطناعي، وتزامن ذلك مع ظهور أول برنامج يعمل معالجا نفسيا يُسمى "إليزا" (ELIZA)، وقد سُمي على اسم سكرتيرة "جوزيف فايزنباوم" مُصمِّم البرنامج. و"إليزا" برنامج مُصمَّم من خوارزميات يمكنها ترتيب عدد من الإجابات العامة والمُتفهِّمة والداعمة المناسبة لكل شخص يستخدم البرنامج عبر كتابة مشكلته، وهو يشبه برنامج "سيري" المنتشر اليوم على أنظمة "آيفون". بعد النجاح الذي حقَّقه "إليزا"، بات جليا أن السعادة والطمأنينة في العصر الجديد المُتسِم بالفردانية لا تتعلَّق بالسكون والسلام الداخلي للإنسان بقدر ما ترتبط بأمور خارجية وثيقة الصلة بالاستهلاك، ليس فقط استهلاك البضائع، بل أيضا استهلاك العلاقات -ولو كانت مع جمادات- واستهلاك البرامج الحاسوبية مثل مواقع التواصل الاجتماعي، لتحقيق قدر من التشتت يُعمي الإنسان عن الواقع وتعقيداته.
في ستينيات القرن المنصرم، كتب الفيلسوف الفرنسي "غي دِبور" كتابا بعنوان "المجتمع المشهدي" وصفه بأنه أهم كتاب في القرن العشرين، وزعم "دِبور" في كتابه أن الواقع لم يَعُد يُشكِّل حياة الأفراد وواقعهم الاجتماعي، بل أصبح المشهد هو الواقع. بعبارة أخرى، صار كل ما يؤثر على حياة الإنسان في هذا المجتمع معروضا كصورة من مشهد؛ فالانتخابات مشهد، والحادث الأليم والحرب والمظاهرات والحب والصداقة والعائلة والابتسام وحتى البحار والمحيطات والسماء والفضاء، كلها مجرد "مَشاهد" لا يحتاج منك الأمر التحرك للمشاركة. والإنسان بدوره داخل هذا المجتمع مجرد "مشاهد" أو "مُستهلك"، حيث تسلب "المشهدية" المعنى من وجوده الإنساني، وتضع مكانه الصورة المرئية التي باتت أهم من الحقيقة المَعيشة ذاتها. غير أن صناعة هذا المشهد لا تنفصل عن سلطة "الدولة الحديثة"، فيقول دِبور: "إن المشهد هو الحديث المتواصل للنظام القائم عن نفسه، إنه مونولوجه المدائحي، إنه الصورة الذاتية للسلطة في عصر إدارتها الشمولية لظروف الوجود". (5)
لم يعد "المشهد" يحل محل الواقع فقط، بل بات المشهد هو مَن يصنع الواقع، وهذا ما طرحه المفكر "جان بودريار" في كتابه "المصطنع والاصطناع"، حيث وضَّح أن العالم أصبح يعيش في مرحلة "ما فوق الواقع". وبحسب "بودريار" فإن حالة "ما فوق الواقع" ليست "استنساخا أو تشويها للواقع"، بل هي المرجع والأصل ذاته منفصلا عن واقع اختفى وصار غير معروف. في هذا الإطار يُصنِّف بودريار "الواقع" إلى نوعين: الأول واقع اجتماعي يراه جميع الناس حتى لو ببعض التشوُّه، والثاني واقع خلافي ومدار صراع، يتعلَّق بكل القضايا الكبرى التي تخص المجتمع والإنسان.
يبقى النوع الأول هو واقع الناس، أما الثاني فيتحوَّل إلى واقع "فوق واقعي" بالقدرة التي يمتلكها الإعلام، حيث يسعى مَن يمتلكون الإعلام لتقديم نسخة مُنقَّحة من الواقع والحقيقة، نسخة شاملة من الحقائق المزيفة تُحيط بالمرء في كل مكان، وبمرور الوقت، تسعى الأنظمة لتوسيع تلك الفجوة بين الحقائق الأصلية وبين الصور المزيفة من الحياة، وكلما اتسعت الفجوة بين الاثنين زادت ظاهرة التطبيع المُفرِط مع الزيف، فلا يعود الإنسان قادرا على الوصول إلى الحقيقة.
"الحدث الأساسي للعصر الحديث هو فتح العالم بوصفه صورة".
(مارتن هايدِغر)
في صيف عام 1889، عندما سافر الوفد المصري إلى المؤتمر الدولي الثامن للمستشرقين الذي عُقد في ستوكهولم، مرَّ المصريون بباريس لزيارة المعرض العالمي المُقام في "عاصمة الأنوار"، ولم يُثر انزعاجهم إلا الجناح المصري بالمعرض، حيث شيَّده الفرنسيون شارعا مُتعرِّجا مليئا بالحوانيت والبيوت ذات الطوابق العلوية الآيلة للسقوط، خلافا لباقي المعرض المُخطَّط بدقة هندسية صارمة. وقد بدا الجناح المصري شديد القُبح والفوضى، إذ أضاف مُنظِّمو المعرض خمسين حمارا لإحداث هرج ومرج مُماثل لأي شارع مصري في القاهرة. (6)
حين أُصيب الزوار المصريون بشعور من الاشمئزاز والحرج من كل ما شاهدوه، نأوا بأنفسهم نحو المسجد، وإذا بهم بمجرد عبور بابه يكتشفون أنه مجرد واجهة خارجية، حيث وجدوا داخله مقهى عربيا ممتلئا براقصات مصريات وعبيد ودراويش. لم تكن تلك هي المناسبة الأولى من نوعها، فعندما زار الخديوي المصري باريس لزيارة معرض عالمي سابق عام 1867، وجد أن الجناح المصري قد شُيِّد ليُحاكي القاهرة العتيقة في شكل قصر ملكي، وقد أقام الخديوي في القصر أثناء زيارته وأصبح جزءا من المعرض واستقبل الزوار بحفاوة العصور الوسطى. (6)
في هذا السياق، يذهب تيموثي ميتشل، مؤلِّف كتاب "استعمار مصر"، إلى أن نظام المعارض والتمثيلات الثقافية التي أقامتها أوروبا في القرن التاسع عشر عبَّرت عن الرؤية السياسية التي سعت "الدول الاستعمارية" لفرضها على مستعمراتها في العالم كله، إذ قدَّمت الدول الأوروبية بواسطة المعارض والمؤتمرات نوعا من "اليقين السياسي" حول حضارات العالم وبلدانه، بتحويلهم إلى مجرد تمثيلات يمكن رؤيتها والفرجة عليها، وبدلا من تصوُّر حضارة أو ثقافة بلد معين على أنها ثقافة غريبة، يمكن داخل المعارض والمؤتمرات لمس تلك الثقافة عن قُرب والتمكُّن من محاكاتها.
لكن هذه المحاكاة لا تُغني عن الواقع الأصلي الذي تُعبِّر عنه، لكن ما حدث هو أن التمثيل قد انفصل عن الواقع السياسي والاجتماعي الذي زعم تصويره. ولم يعد من المعروف أين ينتهي المعرض وأين يبدأ العالم نفسه، فرغم أن حدود المعرض كانت مُحدَّدة بوضوح بواسطة جدران عالية وبوابات ضخمة، فإن باريس نفسها امتلأت -كما اكتشف الوفد المصري- بأماكن مشابهة للمعرض، وامتدت تلك التمثيلات لما وراء باريس، وتحوَّلت أجزاء كثيرة من العالم إلى سلسلة من التمثيلات امتدادا من المعرض، وفي تلك اللحظة انقلب نظام الحقيقة نفسه، فأصبح العالم الواقعي امتدادا للمعرض، وليس المعرض هو المُحاكي للواقع.
يصف تيموثي ميتشيل ذلك الأمر على أنه جوهر نظام الاستعمار الغربي للعالم، ولهذا النظام ثلاث سِمات؛ الأولى: ادعاؤه الملحوظ بامتلاك اليقين أو الحقيقة، التي يبدو فيها العالم مُرتَّبا ومُنظَّما ومحسوبا، والثانية: الطبيعة المفارقة التي يتميز بها نظام الوضوح والحقيقة المفروض بواسطة هذا النظام، فمؤسسات النظام ما هي إلا تمثُّلات إضافية للواقع، والثالثة: أن هذا النظام هو استعماري بالضرورة، فهو يُزيح الواقع ويحل محله، ثم يدَّعي امتلاكه ويُعيد صياغته وعرضه. هذا هو ما عبَّر عنه جاك دريدا بقوله: "نظام المظهر هذا هو نظام كل مظهر، هو عملية الظهور نفسها بوجه عام. إنه نظام الحقيقة".
انبثق عبر هذا النظام "الاستعماري" الذي يقوم على التمثيلات المنهج الإداري والسياسي الحديث الذي حكمت به بريطانيا إمبراطوريتها الشاسعة، بما في ذلك المملكة المصرية. ويتمثَّل هذا المنهج السياسي الحديث في عدة ممارسات مثل: تكوين جيش جديد وتغيير عقيدته القتالية، وإدخال تعليم مدرسي مُنظَّم وصارم يتبع الثقافة الأوروبية العلمانية، وإعادة بناء القرى والمدن الجديدة، وشق الترع والاستيلاء على الأراضي، وكلها ممارسات رسَّخت مظهر بنية مُحدَّدة المعالم أصبحت تُسمى "النظام" تقبع بداخله سلطة قاهرة لتنظيم كل ما هو غير مُنظَّم، وليتحوَّل هذا "النظام" إلى عنصر أساسي وضروري بشكل مفاجئ لا يمكن تصوُّر الدولة أو الممارسة الإنسانية إلا بوجوده. (6)
كان لهذا النظام وظيفة أخرى غاية في الأهمية، وهي إعادة ترتيب العالم اقتصاديا، وتنظيم اتجاهه نحو أوروبا. وفي سبيل ذلك، فرضت السلطة نظاما صارما من المراقبة والعقاب على الفلاحين والعُمَّال يمنعهم من إثارة أي تمرُّد أو شغب يُعطِّل عجلة الإنتاج. ولتحقيق ذلك عمل الاستعمار على تغيير نظرة الأشخاص لذواتهم وإعادة بناء هويتهم الإنسانية بالطريقة التي وصفها ماركس بـ "إخضاع عضلات الجسد لإرادة الذات".
بالتزامن مع ذلك، كان لا بد من إيجاد طريقة لتنظيم الحشود العاملة وتوجيهها خوفا من تحوُّلها إلى تظاهرات سياسية، وكانت المعارض والحفلات هي الوسيلة المثلى للقيام بهذا الدور. وقد ذكر تقرير صدر بعد معرض أُقيم بأوروبا عام 1851 وشجَّعت السلطات العُمَّال على ترك ورشهم ومصانعهم لحضوره "إن تحرُّكات شعبية أمكن النظر إليها قبل سنوات قليلة على أنها خطر على أمن الدولة حدثت دون فوضى ودون أن تقع أي جريمة تقريبا". (6) منذ ذلك الوقت مَثَّلت الحفلات والعروض طقسا ثابتا لدى الأنظمة السياسية الحديثة كافة، وبدورها أنشأت تلك الحفلات نوعا من التفاعل الاجتماعي للجمهور، حاولت مدرسة شيكاغو فهمه عبر دراسة التموقع المكاني للحفلات ذات الحضور الكثيف، مع الإفادة مما كتبه "إرفنغ جوفمان" حول السلوكيات الحاصلة في الأماكن العامة وكيفية تنظيم التفاعلات الاجتماعية داخلها.
حدَّدت الدراسات ثلاث مناطق تظهر مرارا أثناء الحفلات والعروض. المنطقة الأولى هي المُقدِّمة: المنطقة الملاصقة للمسرح ذات الكثافة كبيرة، ويحدث فيها القفز والضجيج والرقص، وفي هذه المنطقة لا يستطيع أحد تمييز مَن يقف بجواره، فكل تركيزه واهتمامه مُنصَبٌّ على منصة المسرح. (7) ثم تأتي المنطقة الثانية، وهي أكثر ثباتا وهدوءا من المُقدِّمة، وفيها يستطيع الجمهور تمييز نوع الصوت والموسيقى. أما المنطقة الثالثة فتقع في خلفية الحفلة، وهي ليس فقط المكان الذي يتحرَّك إليه الجمهور إذا لم ترق له الفرقة الموسيقية، بل هي منطقة تجمع المحترفين (الوكلاء، والمديرين، والصحافيين، والموسيقيين، وموظفي شركات التسجيل). كما تذهب الدراسة إلى أن جمهور كل منطقة يُشكِّل وجهة نظر خاصة حول الحفل، ويدافع عنها مُحتقِرا وجهات نظر المناطق الأخرى، لكن يبقى الجميع -مهما كانوا غير متجانسين- داخل إطار الحفلة.
بجانب تركيزها على تحليل السلوك الاجتماعي للجمهور أثناء الحفلات، يمكن أن تُعطينا هذه الدراسة إطارا لفهم مسرح السياسة في العصر الحديث. وكما امتدَّت تمثُّلات "المعرض" إلى العالم الخارجي، كذلك يمكن أن تمتد تمثُّلات "الحفلات" إلى عالم السياسية، هذا ما فهمه رجل المخابرات القوي "فلاديمير بوتين"، وطبَّقه بمنتهى الحرفية منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، إذ استغل بوتين حالة عدم اليقين وعدم الإيمان بالسياسة التي عاشتها روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي لمصلحته، وبقي في السلطة دون منازع لمدة تزيد على عشرين سنة. وقد اعتمد في صعوده للسلطة واستقراره بها على مجموعة من التابعين، حوَّلوا السياسة في روسيا إلى سلسلة من التقنيات التي مكَّنتهم من إخضاع الواقع والتلاعب به. وكان هؤلاء الرجال ممن تأثروا بشدة بمدرسة ستروغاتسكي الروائية في السبعينيات، ونجحوا في التغلغل والسيطرة على أجهزة الإعلام بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، واستخدموها للتلاعب بالناخبين، فكان الواقع السياسي بالنسبة لهم عالما أشبه بعالم رواية "نزهة على الطريق" أمكن التلاعب به وإعادة تشكيله طوال الوقت. (8)
الشخصية الأبرز في تلك المجموعة، التي استطاعت عبر تلك التقنيات السماح لبوتين ببسط قبضته على السلطة، هو "فلاديسلاف سوركوف"، المخرج الذي أتى من عالم المسرح ليُحوِّل السياسة إلى مسرح كبير لا يسع الجمهور داخله أن يتيقَّن مما يحدث حوله أو النظر خارجه، بينما ينخرط الجمهور والمجموعات السياسية في الرقص والقفز مُنجذبين عاطفيا بقوة للعروض السياسية الآتية من الكرملين. كانت إستراتيجية سوركوف هي تحويل الساحة السياسية إلى حفلة راقصة ضخمة لا يعرف أحد فيها ما الهدف من الرقص أو ما اتجاهه، وذلك عبر إغداق أموال الكرملين على جميع أنواع المجموعات السياسية، بداية من المنظمات الفاشية والنازية الجديدة وجماعات حقوق الإنسان الليبرالية، وحتى الأحزاب المعارضة للحكومة. لذا، أمست جميع المجموعات والأحزاب متساوية ومتشابهة ومتورِّطة بشكل لا يمكن معه لأي متابع أو مراقب فهم الاتجاه الحقيقي لسياسة الحكومة في روسيا. لكن الحقيقة هي أن جميع القوى السياسية كانت مجرد ممثلين على مسرح كبير، بينما وقف صُنَّاع السياسة وأصحاب القوة الحقيقية خلف المسرح يُنظِّمون الأدوار من الانخراط إلى الاستبعاد.
سرعان ما انتشرت هذه الإستراتيجية حول العالم، فرأينا تلك التقنيات ذاتها وقد استخدمها المجلس العسكري بمصر بعد انتفاضة 25 يناير/كانون الثاني، إذ عمل على تكفير الناس بالسياسة والتغيير، وإقناعهم بأن التغيير يُهدِّد استقرار حياتهم، ثم ظهر رئيس المخابرات الحربية أثناء الحفلات والمؤتمرات مع الفنانين تمهيدا لتدبير الانقلاب العسكري الذي أطاح بأول رئيس مدني منتخب في مصر، مُستعينا بوسائل الحشد نفسها التي استخدمها النشطاء في انتفاضة يناير، ومُستعينا أيضا بالمخرج السينمائي "خالد يوسف". ومع استقرار النظام الجديد، انتشرت بمصر حالة من "التطبيع المُفرِط مع الزيف" أشبه بتلك التي ظهرت في روسيا أثناء التسعينيات. فرغم تفشي الفقر في مصر، لا يزال الوزراء والسياسيون الموالون للنظام يؤكِّدون أن كل شيء على ما يُرام ويجري وفق الخطة، وكلما زادت الأزمة السياسية والاقتصادية وتعقَّدت أزمة سد النهضة، زادت جرعة الزيف التي تُبث لإلهاء الناس وتشتيتهم. (9)
على الجانب الآخر، تتشابه ممارسات السلطات المصرية التي تهدف لإعادة تنظيم مصر بقُراها ومدنها وشوارعها، واحتكار اقتصادها كاملا والاستيلاء على أموال مواطنيها بالجباية، وإعادة تخطيطها عُمرانيا بشكل يُسهِّل السيطرة على المدن، تتشابه ونظام الاستعمار الإنجليزي القديم، إذ إن إعادة ترتيب الواقع وتزييفه -كما قال تيموثي ميتشل- هو جوهر العملية الاستعمارية.
______________________________________________________
المصادر
1- التليفزيون المصرى والكائنات الفضائية,كارثة حقيقية
عالم مصري قابل مخلوقات فضائيه تحذرهم من الاخوان
هل يوجد كائنات فضائية؟ اليكم ردود المصريين
2- الفيلم الوثائقي hyper normalization
3- إيمانويل فالرشتاين: نهاية العالم كما نعرفه
4- Meet Aladdin, the computer "more powerful than traditional politics"
5- محمد علي فرح، صناعة الواقع: الإعلام وضبط المجتمع ص177
6- تيموثي ميتشيل، استعمار مصر، ترجمة بشير السباعي
7- تيم إدواردز، النظرية الثقافية: وجهات نظر كلاسيكية ومعاصر ص445
8- الفيلم الوثائقي hyper normalization
9- رغم انتشار الفقر باعتراف الحكومة.. لماذا يزيد عدد الأثرياء بمصر؟