درعا.. كيف تحوَّل مهد الثورة السورية إلى نقطة للاشتباك بين روسيا وإيران؟
على حاجز يُسمى "حاجز السرايا" يفصل بين درعا البلد (الأحياء الجنوبية في مدينة درعا) ودرعا المحطة في الجنوب السوري، يقف رجل خمسيني عاجزا عن تلبية شروط قوات النظام السوري التي أمرته بإنزال ما حمله من أثاث منزلي على ظهر سيارته أو أن يدفع مليونَيْ ليرة سورية (500 دولار أميركي) نظير السماح له بالفرار من المنطقة التي تشهد تصعيدا عسكريا من قِبَل النظام منذ نهاية يوليو/تموز 2021.
لم تكن هناك العديد من الخيارات المتاحة أمام الرجل النازح المنضم إلى ركب يضم نحو 80% من أهالي الأحياء (نحو 50 ألف شخص)، فهو يقف في الطريق الوحيد المتاح للخروج ولن يستطيع الإفلات بأي حال من إجراءات التفتيش الأمنية الصارمة التي تُجبره على المرور مشيا على الأقدام حاملا أثاث منزله للوصول إلى أحياء القسم الآخر من المدينة (درعا المحطة) للنجاة بنفسه وأسرته.
بالفعل، تمكَّن الرجل من الوصول مع عائلته إلى إحدى مدارس درعا المحطة بعد أن ساعده نازحون آخرون في حمل الأثاث، بينما لا تزال محافظة درعا البلد التي يقطنها 40 ألف نسمة تتعرَّض للقصف بالرشاشات الثقيلة وقذائف الهاون، وذلك منذ قرَّر النظام السوري قبل نحو شهر فرض حصار عليها. وقد خضعت درعا إلى قوات النظام رسميا بالفعل بعد هجوم كثيف تلاه اتفاق تسوية بين النظام والمعارضة برعاية روسية قبل ثلاث سنوات، بيد أن النظام السوري قد قرَّر مؤخرا القضاء نهائيا على أي وجود للمعارضة فيها دون اتفاق.
في عام الثورة السورية (2011)، انتفضت درعا والقنيطرة لتصبحا أول مكان تنفجر فيه الاحتجاجات ضد حكم الرئيس بشار الأسد، ومن ثمَّ تعرَّض أهلهما، وغالبيتهم من المسلمين السنة، لحملة قمع شرسة سحقت خلالها قوات النظام المدنيين الذين خرجوا ضده، كما فعلت بطول سوريا وعرضها. وسرعان ما اضطر شباب الجنوب، كغيرهم في محافظات سوريا، إلى حمل السلاح ومواجهة النظام وحلفائه الإيرانيين، ولاحقا الروس، الذين لم يتوانوا عن قمعهم وقتلهم بالأشكال كافة، ما أفضى الصراع إلى وقوع أجزاء كبيرة من الجنوب تحت سلطة المعارضة، التي سيطرت بعد عام 2013 على جزء كبير أيضا من الشمال السوري.
منذ ذلك الحين، لم تتوقَّف مساعي النظام لاستعادة المناطق التي نزعتها منه المعارضة، وما بين عامَيْ 2016-2018، خاض بدعم من إيران والميليشيات الحليفة لها، وبغطاء جوي روسي، معارك مكَّنته من استعادة مناطق عدة من قبضة المعارضة، ومنها محافظتا درعا والقنيطرة. ولم يتوقَّف النظام عن معاركه في الجنوب إلا بعد مفاوضات قادتها روسيا، عُرفت بـ "اتفاقية التسوية"، عام 2018، ونصَّت على وجود الأجهزة الأمنية التابعة للنظام في بضع مناطق بينها الأحياء الجنوبية من مدينة درعا، وكذلك إجلاء عشرة آلاف معارض مع عائلاتهم إلى إدلب، مع بقاء بعض المعارضين الذين احتفظوا بأسلحة خفيفة، فيما لم تنتشر قوات النظام في كل أنحاء المحافظة.
بقي الوضع الخاص بمحافظات الجنوب السوري كما ضمنته اتفاقية التسوية، وساهم قُرب المنطقة من مرتفعات الجولان المحتلة والأردن في إضافة المزيد من الاعتبارات الخاصة، فهي منطقة حدودية وجبهة غير نشطة مع إسرائيل قد تنفجر في أي لحظة. لذا، كان لزاما على موسكو التوسُّط لضبط أوضاع تلك المنطقة، ومراعاة المصالح الإسرائيلية التي وعدت بوضعها في الحسبان، وكبح نشاطات الميليشيات الإيرانية الواقفة على أعتاب الجولان، وكذلك منح الضمانات للأردن الذي يريد إبقاء معابره الحدودية مفتوحة دون مشكلات أمنية، وهي مهمة دبلوماسية دقيقة للموازنة بين مصالح الحليف الإيراني على الأرض والأصدقاء في تل أبيب وعمَّان أدَّتها روسيا بنجاح حتى اللحظة.
على مدار السنوات الماضية، التزمت روسيا بجوهر الاتفاق في درعا، وحافظت على وجود أمني وعسكري محدود للنظام، وعملت على منع إيران وحلفائها، مثل حزب الله اللبناني، من الانتشار في مناطق واسعة من الجنوب بالقُرب من الجولان، وحالت دون بناء قواعد دائمة أو بنية تحتية تسمح بشن هجمات ضد إسرائيل. بيد أن النظام لم يستسلم لما فرضته عليه اتفاقية التسوية الروسية، وحاول استعادة سيطرته على المنطقة الحدودية عدة مرات، فانخرط مرة في صراع منخفض الحِدَّة مع بقايا المعارضة المسلحة التي قاومت عودته بقوة، ثم سعى لبسط سلطته مرة أخرى عبر تكثيف اتصالاته مع الثوار والمدنيين بواسطة أعضاء حزب البعث والجنرالات المتقاعدين لتأمين ما عُرف بـ "صفقات المصالحة" (الاستسلام)، التي شملت تعهُّدا من الدولة باستئناف خدماتها وتقديم المساعدات الإنسانية في المنطقة وإلغاء الأوامر التعسفية.
"بدأ الجيش عملية عسكرية ضد البؤر التي يتحصَّن فيها إرهابيون أفشلوا اتفاق المصالحة في منطقة درعا البلد"، هكذا برَّرت صحيفة الوطن، الموالية للنظام السوري، العملية العسكرية التي أطلقها النظام في نهاية يوليو/تموز الماضي في درعا البلد. ولكن بعيدا عما يُعلنه النظام إعلاميا، يعود تهديد النظام بـ "تدمير درعا فوق رؤوس أهلها" إلى نهاية يونيو/حزيران الماضي، حين طلب النظام من سكان درعا تسليم أسلحتهم، وكذلك "رفع العلم السوري المُعترَف به دوليا على أعالي المسجد العمري، والسيطرة الكاملة على درعا ونشر الحواجز في المنطقة كاملة، إضافة إلى تهجير عدد من الأشخاص المطلوبين أو تسليم أنفسهم وسلاحهم، والخدمة الإلزامية العسكرية لأبناء درعا".
رُفِضَت مطالب النظام من قِبَل سكان درعا، بما في ذلك أعضاء سابقون في المعارضة السورية ممن لا تزال لديهم القدرة على استعادة هياكلهم التنظيمية وتوفير السلاح والحماية المحلية لأنصارهم، وهو ما دفع النظام والميليشيات المدعومة من إيران إلى حصار درعا البلد في 25 يونيو/حزيران، ثم شن عملية برية في 29 يوليو/تموز، حيث تشهد درعا الاشتباكات الأشد ضراوة والأكثر اتساعا منذ أن دخلت تحت سيطرة النظام في 2018.
تحدَّث "أيمن أبو نقطة"، الناطق الرسمي لـ "تجمُّع أحرار حوران"، وهو تجمُّع لناشطين وصحافيين من درعا، إلى موقع "ميدان" عمَّا يجري في درعا البلد، قائلا: "بعد انتهاء مسرحية الانتخابات مباشرة، التي أظهرت أثناءها محافظة درعا رفضها للعملية الانتخابية عبر خروج سكانها في تظاهرات حاشدة، أخذ النظام بحشد تعزيزات ضخمة ونشر وحدات عسكرية إضافية، من بينها قوات فرقة الدبابات الرابعة المعروفة باسم فرقة ماهر الأسد، فأحاط بأحياء مدينة درعا وحاصرها".
ويُضيف أبو نقطة أن لجان النظام طالما طالبت بدخول درعا البلد بحجة وجود عناصر من "داعش"، وبتسليم السلاح الفردي الموجود فيها بحوزة الشبان، وهو سلاح شرعي وفق اتفاق التسوية. ويُعبِّر أبو نقطة عن مخاوف السكان من اقتحام المدينة من قِبَل ميلشيات إيرانية، مثل الفرقتين التاسعة والرابعة و"قوات الغيث" المرتزقة وقائدها المُقرَّب من ماهر الأسد، وما قد يحيق بأهل درعا من إمكانية ارتكاب مجازر بحقهم.
"كممرضة في روضة أطفال"، هكذا وصفت صحيفة "كوميرسانت" الروسية حال موسكو في التعامل مع أطراف النزاع في الجنوب، فما إن تُدير ظهرها بعد حل هذا الاشتباك أو ذاك حتى تجد الخلافات قد اشتعلت من جديد. فمع تعدُّد جولات التفاوض التي تمت بين يونيو/حزيران 2019 ويونيو/حزيران 2021، وقع أكثر من ألف هجوم استُخدمت فيها الأسلحة والعبوات الناسفة في درعا (حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان)، مُحوِّلة الجنوب السوري الذي يشهد الآن قصفا مُكثَّفا إلى بؤرة صراع مشتعلة.
استخدمت روسيا كل ثقلها للحفاظ على دورها وسيطا بين أطراف النزاع في الجنوب السوري منذ وقَّعت لجنة إدارة الأزمة في درعا (اللجنة المركزية) اتفاق التسوية. وعلى مدار العامين الماضيين، توسَّطت موسكو في جولات التفاوض واتفاقيات إعادة التسوية التي تمت بين النظام وسكان الجنوب، وآخرها حين فرض النظام حصاره المُطبِق على درعا في يونيو/حزيران 2021، وعقدت على إثره اللجنة المركزية لقاء مع الوفد الروسي. لكن موسكو غابت عن جولات التفاوض الأخيرة، إذ حلَّت اللجنة الأمنية بقيادة الفرقة الرابعة بدلا منهم ووضعت شروطا جديدة كإقامة نقاط أمنية وعسكرية إضافية، ما أدَّى إلى تفاقم النزاع في الجنوب وعدم الوصول إلى حل توافقي، وهو ما تطلَّب عودة الروس لمربع الوساطة سريعا، ومن ثمَّ ظهروا في المشهد وهُم يُقدِّمون المساعدات الإغاثية لسكان الجنوب بيد، ويضغطون من أجل احتواء التصعيد بيد أخرى.
لا تزال موسكو إذن غير مُستعِدة لمنح إيران وميليشياتها الفرصة للاستيلاء على الجنوب السوري كاملا، وبصرف النظر عن كون تلك الرغبة ناجمة عن تنافسها على النفوذ مع طهران داخل سوريا، وناتجة أيضا عن حاجتها إلى الوفاء بالتزاماتها مع إسرائيل والأردن وواشنطن، فإن لدى موسكو عدة دوافع للسيطرة على ملف الجنوب السوري أمنيا، تشمل رغبتها في تحقيق تقدُّم بخصوص القضايا الخلافية مع الولايات المتحدة، بما فيها ملف إعادة الإعمار وتأمين طريق دمشق-عمَّان تمهيدا لتوسيع التجارة والنقل عبر معبر نصيب-جابر مع الأردن.
فضلا عن ذلك، لا تريد روسيا انزلاق الجنوب السوري نحو عملية عسكرية واسعة؛ لأن انهيار اتفاق التسوية انهيارا كاملا يعني بالنسبة لها تآكل صورتها بوصفها ضامنا ووسيطا حتى وإن كان غير محايد، حسب ما يقوله "عبد الوهاب عاصي"، الباحث في مركز "جسور للدراسات" الذي قال في حوار لموقع "ميدان": "روسيا تريد نزع السلاح الخفيف أو إعادة تقنين انتشاره في درعا إحياء لخطتها بجعل الجنوب السوري مركزا أساسيا للفيلق الخامس، وهي خطة سبق وحاولت تفعيلها أواخر عام 2018 لكنها تعثَّرت نتيجة عدم استجابة قادة الفصائل في الريف الغربي للشروط التي فرضتها موسكو، لا سيما ما يخص مهام مكافحة الإرهاب". ويُبيِّن عاصي أن روسيا تبذل جهودها الآن لإجبار اللجنة المركزية، المستفيدة من التفويض الإيراني، على تقديم تنازلات من أجل فرض اتفاق تسوية جديد.
إذن، يبقى وضع درعا خاصة، والجنوب السوري عامة، رهين السيناريو الذي تخطه انتصارات النظام السوري المتعاقبة على مدار الأعوام الماضية، ورغبته في الهيمنة التامة على مناطق نزعها منه "الإرهابيون" كما يُسميهم، بل والهيمنة على سكان تلك المناطق أيضا وجلّهم من أنصار المعارضة التي أرادت "أرضا محررة" يوما ما، فيما تحاول قوى خارجية مثل روسيا تعزيز نفوذها في المحافظات الجنوبية وفقا لمصالحها وتفاهماتها مع الإيرانيين تارة ومع الغرب تارة أخرى، لا سيما بالنظر لتداخل خيوط ملف درعا العابر للحدود بأمن كلٍّ من الأردن وإسرائيل، وتداعياته الإقليمية التي لا تقل أهمية عن أبعاده الديمغرافية والعسكرية داخل سوريا.
لا يسعنا في الأخير غير الانتظار لنرى ما الذي سينجم عن تدافع مصالح روسيا في البقاء على عرش سوريا دبلوماسيا، ورغبة إيران في حماية ممرها الإستراتيجي الممتد من العراق وسوريا حتى جنوب لبنان، والخطوط الحمراء التي تخطها تل أبيب بدعم أميركي، والضمانات الأمنية التي تعهَّدت بها موسكو للأردن والغرب على السواء.