بعد الاجتماع المثير لمجلس الأمن.. تعرف على قصة سد النهضة وأهم الشركات والدول التي تموله
كما كان متوقعا، أثبت رهان مصر والسودان على تحرُّك مجلس الأمن لحفظ حقوقهما المائية قصورَه. في النهاية، انحازت الصين أحد أهم وأكبر المستثمرين في سد النهضة لمصالحها الاقتصادية، في حين رفضت واشنطن وموسكو تلميحات القاهرة باللجوء للعمل العسكري وطالبتا بالعودة إلى التفاوض تحت المظلة الأفريقية عديمة الجدوى. كانت جلسة الأمس بمثابة موت إكلينكي للحلول السياسية، ولم يتبقَ لمصر والسودان بعدها سوى التحرك منفردين لحماية مصالحهما، بعد أن نجحت إثيوبيا في وضع نفسها ومشروعها الطموح في قلب شبكة معقدة من المصالح الدولية، التي لا تعبأ فيما يبدو بالأخطار التي تهدّد الأمن القومي والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي لدولتي المصبّ.
"على مَن يريد أن يركب بحر النيل أن تكون لديه أشرعة منسوجة من الصبر"، هكذا كتب الروائي البريطاني الشهير الحائز على جائزة نوبل، وليام غولدنغ، قبل أكثر من ثمانية عقود، ويبدو أن مقولته تلك لا تزال صائبة إلى اليوم، وهي تنطبق بشكل خاص على طموحات إثيوبيا طويلة الأمد للسيطرة على النيل، بواسطة سد ضخم يُبنى فوق موقع مختار بعناية على النيل الأزرق، أهم روافد النهر الكبير.
في ضوء ذلك، لا يبدو مفاجئا أن نُشير إلى أن البدايات الأولى لمشروع سد الألفية، أو سد النهضة الإثيوبي الكبير كما يُعرف الآن، تعود إلى عقود طويلة سالفة، وتحديدا إلى منتصف القرن الماضي بين عامَيْ 1956-1964 حين قام مكتب الولايات المتحدة لاستصلاح الأراضي بإجراء مسح شامل للنيل الأزرق لتحديد أنسب الأماكن لإقامة سد ضخم على النيل الأزرق، وذلك في زمان رئيس الوزراء الإثيوبي أكليلو هابتي ولد، وتحت حكم الإمبراطور هيلا سيلاسي آخر الأباطرة الإثيوبيين، وكان من المخطط آنذاك أن يُمَوَّل السد الكبير بواسطة الولايات المتحدة ومؤسسات التمويل الدولية، ولكن هذه الخطط تعطّلت فجأة إثر انهيار الملكية الإثيوبية بواسطة الانقلاب الذي قاده ضبط الدرج عام 1974، لتسقط إثيوبيا بعد ذلك في حقبة طويلة من الحكم العسكري المدعوم من السوفييت.
على مدار العقود التالية، انزوى مشروع سد النهضة وخفت بريقه بشكل ملحوظ، ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى أن أديس أبابا الفقيرة لم تكن تملك أي موارد تُمكِّنها من بناء المشروع الضخم بنفسها، وأن مصر -دولة المصب الرئيسية والقوة الأبرز في حوض النيل- وحلفاءها الغربيين لم يكونوا ليسمحوا بالسيطرة على حوض النيل بواسطة سد ضخم ممول من الاتحاد السوفيتي، ورغم ذلك فإن طموحات الإثيوبيين للسيطرة على النيل وإحساسهم التاريخي بالمظلومية والحرمان من استغلالهم مواردهم المائية لم يخفت أبدا، وأصبحت مسألة استغلال الموارد المائية وبناء السد الحلم إحدى القضايا القليلة الكفيلة بتوحيد الشعب الإثيوبي المُمزَّق بسبب النزاعات العِرقية والطائفية.
وفيما يبدو، كان "ملس زيناوي"، الذي وصل إلى السلطة في أديس أبابا بعد الإطاحة بالحكومة العسكرية مطلع التسعينيات، يدرك هذه الحقيقة جيدا، لذا فإن زيناوي، الذي يُعرف اليوم بأنه مهندس الصعود الاقتصادي لإثيوبيا، نسج جزءا كبيرا من رؤيته الاقتصادية والتنموية حول استغلال موارد البلاد المائية بهدف تحويلها إلى مركز إقليمي للطاقة، وذلك عبر إقامة عدد من السدود الضخمة على أحواض 12 نهرا تشق الأراضي الإثيوبية لتغذية دول الجوار بالمياه.
كانت البداية في عام 2002 مع سد تكيزي، الذي شُيِّد على نهر عطبرة، أحد روافد نهر النيل، بتكلفة بلغت 224 مليون دولار، وانتُهي منه بالفعل في عام 2009، ولكنه لم يُثِر قدرا كبيرا من المشكلات بسبب انخفاض السعة الإجمالية للمياه التي يحتجزها السد (تبلغ سعته نحو 9 مليارات متر مكعب فقط)، رغم أنه احتجز ما لا يقل عن 30% من الطمي الذي كان النيل يحمله إلى الأراضي المصرية مُتسبِّبا في انخفاض خصوبتها، ولاحقا نجحت أديس أبابا في توقيع عقود مبدئية لبناء 5 سدود أخرى، على رأسها سد "جايب 3" على نهر أومو بتكلفة 1.6 مليار دولار، وهو السد الذي كاد يُثير أزمة سياسية كبيرة بين إثيوبيا وكينيا، بسبب تأثيره المحتمل على تدفق المياه من نهر أومو إلى بحيرة توركانا الكينية، تأثير تأكد بالفعل بعد رصد منظمات دولية مستقلة في عام 2017 انخفاض مستوى المياه في البحيرة الكينية بمعدل 1.5 متر مقارنة بمستوياتها السابقة قبل إقامة السد.
ومع ذلك، ظل سد النهضة، أو المشروع "إكس" كما كان يُلقَّب في الأروقة الرسمية، يُمثِّل تحديا من نوع خاص بالنسبة إلى أديس أبابا، ويرجع ذلك إلى عدة عوامل، في مقدمتها التكلفة الكبيرة للسد المُقدَّرة بشكل مبدئي بـ 5 مليارات دولار (نحو 6% من الناتج المحلي الإجمالي لإثيوبيا عام 2018)، وهو مبلغ يتعذّر جمعه بطرق التمويل التقليدية، خاصة في بلد صُنِّف كأحد أكبر المتلقّين للمساعدات الدولية في أفريقيا خلال العقد الأول من الألفية، ويُعتقد أنه خسر خلال الفترة نفسها ما يزيد على 11.7 مليار دولار بسبب التدفقات المالية غير المشروعة، أي حركة الأموال بشكل غير شرعي إلى خارج البلاد سواء بسبب أنشطة غسيل الأموال أو الملاذات الضريبية، ناهيك بكون احتياطاته من النقد الأجنبي كانت تكفي بالكاد لتغطية تكاليف شهرين فقط من الواردات، وفق بيانات عام 2012.
أضف إلى ذلك الأبعاد السياسية والأمنية الكبيرة المرتبطة ببناء السد، وتأثيره المؤكد على أمن مصر المائي، ومركزية منطقة حوض النيل بالنسبة للكثير من القوى الغربية، هو ما يعني أن القاهرة ستحشد كل نفوذها السياسي والاقتصادي، بما في ذلك علاقاتها المميزة مع الغرب، لمنع السد من أن يصبح حقيقة واقعة عبر إعاقة تمويله في المقام الأول، وكان ذلك يعني أن على إثيوبيا أن تبحث عن طرق غير تقليدية لتمويل مشروعها الحُلم، وللمفارقة، فإن التكتيكات التي استخدمتها أديس أبابا للتغلب على هذه العقبات، السياسية منها والاقتصادية، تمت محاكاتها من كتاب اللعب المصري، حيث يتشابه النهج الذي اتبعته إثيوبيا لتمويل سد النهضة بشكل ملحوظ مع الطريقة التي استخدمتها مصر لتمويل مشروع السد العالي في أسوان جنوبي البلاد قبل بضعة عقود.
على مدار عقود، كان تمويل المشروعات الكبرى في أفريقيا من خلال صندوق وطني يُمثِّل تحديا كبيرا، سواء بسبب النقص الطبيعي في الموارد المالية للبلدان الأفريقية، أو بسبب سياسات إهدار الأموال التي تبنّتها الديكتاتوريات الفاسدة في القارة، ونتيجة لذلك كانت آلية التمويل المعتمّدة للمشروعات الضخمة هي المساعدات الخارجية والقروض التي تُقدِّمها المؤسسات المالية الدولية وعلى رأسها البنك الدولي، ولكن هذه الأموال الدولية غالبا ما كانت تأتي مع شروط وإملاءات سياسية، وهو ما أدركته مصر في وقت مبكر من مساعيها للحصول على التمويل اللازم لبناء السد العالي، المشروع الأكثر أهمية على أجندة الحكومة الناصرية.
كان تمويل السد العالي لحظة محورية في العلاقات الدبلوماسية بين مصر والولايات المتحدة، بعدما تحوَّل مشروع السد المصري في وقت مبكر إلى إحدى المنازلات الكلاسيكية للحرب الباردة، ففي حين أن الولايات المتحدة وبريطانيا كانتا مصممتين على منع مصر من السقوط تحت النفوذ السوفياتي، فإنهما عرضتا على القاهرة أن يقوم البنك الدولي بدعم بناء السد، كقربان لتدفئة العلاقات مع النظام الناصري، لكن الخلافات بين القاهرة وبريطانيا -التي كانت تمارس السيادة على الخرطوم في ذلك التوقيت- حول مسألة تقرير مصير السودان، وتوزيع حصص المياه بين القاهرة والخرطوم تسبّب في نشوب خلافات كبيرة بين البلدين، حيث كانت مصر تخشى من أن يصبح أمنها المائي رهينة للقرار البريطاني.
ونتيجة لذلك، اتخذت القاهرة قرارا جريئا بالتخلّي عن المفاوضات مع البنك الدولي، والسعي لتمويل السد من مواردها المحلية دون الاستعانة بمؤسسات التمويل الغربية، وعلى إثر ذلك فإنها قامت بتأميم شركة قناة السويس للملاحة، بهدف استخدام عائدات القناة لتمويل السد، وهو ما تسبّب في نشوب أزمة السويس الشهيرة، حيث قامت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بشن حملة عسكرية ضد مصر، غير أن العدوان الثلاثي فشل في تحقيق أيٍّ من أهدافها الإستراتيجية، وبدلا من أن يتسبّب في ردع النظام الناصري أو إسقاطه كما كانت تأمل الدول المعتدية، فإنه انتهى إلى قطيعة تامة بين مصر والغرب، ودفع القاهرة للتحالف مع السوفييت الذين قدّموا ثلث التمويل اللازم لبناء السد العالي، جنبا إلى جنب مع جميع الخبرات الفنية اللازمة لإتمام عملية البناء.
ولكن مع انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، زادت سطوة المؤسسات المالية الغربية على التمويل الدولي، وأصبح إنشاء أي مشروعات تنموية ضخمة في الدول النامية بدون الاستعانة بهذه المؤسسات أمرا متعذِّرا، ومع تحوُّل مصر بشكل تدريجي نحو المعسكر الغربي منذ منتصف السبعينيات، باتت القاهرة قادرة على الاستفادة من هذه الحقيقة عبر توظيف نفوذها السياسي، واستغلال موقفها القانوني المُهيمن بحكم معاهدتَيْ عام 1929 و1959 المنظمتين لاستخدام مياه النيل، لمنع تمويل السدود في منطقة حوض النيل، وممارسة حق النقض على أي مشروع يمكن أن يُهدِّد حقوقها التاريخية من المياه.
ونتيجة لذلك، فإن جهود إثيوبيا التي تسعى لجلب التمويل لمشروعاتها على النيل الأزرق غالبا ما كانت تبوء بالفشل، وكانت أديس أبابا تعزو هذا الإخفاق غالبا إلى الهيمنة الافتراضية لمصر، وممارسة القاهرة لضغوط على الدائنين والمستثمرين الدوليين لمنع تمويل السد بدعوى عدم استدامته من الناحيتين السياسية والقانونية، ولكن إثيوبيا وجدت الفرصة سانحة أمامها للمُضي قُدما في خطتها لانتزاع الهيمنة على النيل منذ عام 2011، حين استغلت أديس أبابا انشغال القاهرة بعملية الانتقال السياسي في أعقاب الإطاحة بالرئيس المخلوع حسني مبارك، وتفرُّغ الجيش لحماية هيمنته على السلطة على حساب قضايا الأمن القومي وعلى رأسها الأمن المائي، وقامت بوضع حجر الأساس للسد الأضخم في أفريقيا على النيل الأزرق.
ورغم ذلك، فإن مشكلة التمويل كانت لا تزال قائمة، وهو ما دفع أديس أبابا إلى محاولة محاكاة تجربة السد العالي، ساعية إلى تمويل سد النهضة من خلال الموارد المحلية، ولمّا كانت أديس أبابا تفتقر إلى أي موارد وطنية ضخمة لتأميمها كما فعلت مصر، فإنها سعت لضخ التمويل الوطني من خلال وسائل أكثر تقليدية، معتمدة في البداية على المصارف المحلية التي تعرّضت لضغوط من قِبل الحكومة لمنحها قروضا بفوائد مخفّضة، حيث فرضت السلطات على البنوك تخصيص نسبة 27% من قوة الإقراض الخاصة بها لصالح الدولة، رغم تحذيرات المؤسسات الدولية من أن ذلك يمكن أن يؤدي إلى سحب السيولة من البنوك وتباطؤ النمو الاقتصادي.
في وقت لاحق، فرضت الحكومة على موظفي الخدمة المدنية التبرع بجزء من رواتبهم للمساهمة في إنشاء السد، في إجراء حكومي مثير للجدل زعمت المعارضة أنه فُرِضَ بالإكراه، وأن الكثير من الموظفين قد هُدِّدوا بفصلهم من أعمالهم في حال رفضوا المشاركة، وكانت هذه الإجراءات الحكومية جزءا من حملة تمويل ضخمة شاركت فيها العديد من المؤسسات المحلية، وشملت جمع التبرعات عبر رسائل الهاتف المحمول، ومسابقات اليانصيب، وحتى الفعاليات الرياضية التي أُقيمت في جميع أنحاء البلاد بهدف جمع الأموال لتمويل السد.
بالتزامن مع هذا كله، لجأت الحكومة إلى حيلة قديمة غالبا ما تستخدمها الحكومات الفقيرة للاستفادة من مواطنيها المهاجرين في الدول الغنية، وهي إصدار سندات تمويل موجَّهة بشكل خاص لمجتمعات المهاجرين، وغالبا ما يُوفِّر هذا النوع من التمويل للحكومات الكثير من المزايا التي لا تتوفر غالبا للدائنين الأجانب، أولها توافر الحس الوطني، حيث يحب المهاجرون غالبا فكرة أن أموالهم تُستَثمر في مشروعات تدر النفع على أهاليهم في الداخل وخاصة إذا كانت تدر عليهم الأرباح في الوقت نفسه، وثانيها أن هؤلاء المهاجرين غالبا ما يكونون صبورين للغاية ويقبلون بشراء سندات ذات آجال طويلة نظرا للعلاقات طويلة الأمد التي تربطهم مع المصدر (حكومات بلادهم في هذه الحالة)، وأخيرا فإن هؤلاء المهاجرين يبقون أقل تأثُّرا بمخاطر العملة، لأنه حتى مع افتراض انخفاض قيم استثماراتهم حال انهيار العملة، فسوف يكون بمقدورهم الاستفادة من العملة المخفضة لشراء العديد من الأصول الرخيصة.
وبالفعل، قام بنك التنمية الإثيوبي بإصدار دفعتين من السندات المخصصة لتمويل سد النهضة تم توجيههما لأكثر من ثلاثة ملايين إثيوبي مقيم في الخارج، ولكن في حين أن الإصدار الأول من السندات لم يُحقِّق الإقبال المنتظر بسبب المخاطر السياسية المرتبطة بالمشروع والمخاوف من قدرة الحكومة على الدفع، فإن الدفعة الثانية من السندات حقّقت نجاحا ملحوظا بعدما قامت الحكومة بتقليص الحد الأدني للاستثمار في السندات من 500 دولار إلى 50 دولارا فقط، وسمحت بنقل ملكية السند بين الأفراد، وقامت بزيادة العائد على السندات ليتراوح بين 5-6%، كما تعهّدت بتحمُّل جميع رسوم التحويلات المرتبطة بشراء السندات.
وعلى غير المتوقَّع، آتت خطة التمويل الحكومي أُكلها على ما يبدو، حيث نجحت أديس أبابا في جمع أكثر من 450 مليون دولار من مصادر التمويل المحلي بحلول عام 2014، ويُعتقد أن حصيلتها وصلت إلى مليار دولار على الأقل منذ ذلك التوقيت، ورغم ذلك، ظلّت هذه الأموال بعيدة عن مبلغ الخمسة مليارات دولار المطلوبة بشكل مبدئي لتمويل السد، وسرعان ما استُنفِدت في أعمال الإنشاءات الأولية، لذا، فبحلول عام 2015، كانت أعمال البناء في السد قد توقّفت بشكل كلي، وبدا أن أحلام أديس أبابا الطموحة في طريقها للانهيار.
في ذلك التوقيت، كانت ديناميات القوى في منطقة حوض النيل قد بدأت تشهد تغيُّرا ملحوظا مع تعزيز الصين لحضورها الدبلوماسي على الساحة الدولية، خاصة في أفريقيا، ومساعي بكين لإعادة إنتاج الدور الذي لعبه الاتحاد السوفيتي في القارة خلال حقبة الحرب الباردة من خلال توفير مصادر التمويل البديلة والخبرات الفنية اللازمة لمشروعات التنمية الطموحة في أفريقيا، وعلى عكس قروض مؤسسات التمويل الغربية التي غالبا ما تأتي مُحمَّلة باشتراطات سياسية حول تحرير الاقتصاد وتحسين كفاءة الحكومة والإدارة ومراقبة سجلات الأنظمة في مجال حقوق الإنسان، فإن الأموال الصينية جاءت معفاة من هذه الاشتراطات، لذا فإنها وجدت الكثير من الراغبين في الدول المُهمَّشة في القارة السمراء.
أقامت الصين بشكل خفي نفوذها بين القوى الناشئة في أفريقيا، ووضعت أنظارها على أكثر الموارد المتنازع عليها في القارة وخاصة الموارد المائية والأنهار، حيث تُشير البيانات إلى أن الصين استثمرت في تمويل وبناء السدود في 22 دولة أفريقية خلال العقد الأخير، ولم تكن منطقة حوض النيل استثناء من ذلك، فوسط التراجع الملحوظ للقاهرة، والصعود الواضح لإثيوبيا، تمكّنت بكين من توظيف الصراع طويل الأمد بين القوتين لمصلحتها، وبخلاف ذلك، فإن بكين وجدت في أديس أبابا، المعروفة تاريخيا بمقاومتها للاستعمار والنفوذ الغربي، موطئ قدم مناسب لتأمين دورها المستقبلي في أفريقيا بشكل عام، وفي منطقة حوض النيل على وجه التحديد.
بدأت بكين رحلتها في إثيوبيا مبكرا، وتحديدا في عام 2002 حين قامت بتمويل سد تكيزي بقيمة 224 مليون دولار عبر "كونسورتيوم" من الشركات الصينية، ولكن الإعلان الأكثر صخبا للوجود الصيني في منطقة حوض النيل حدث في عام 2012 حين قرّرت بكين استثمار 500 مليون دولار أميركي في سد "جايب 3" المثير للجدل على نهر أومو، ما تسبّب في غضب كبير امتد من كينيا المجاورة، المتضرر الرئيسي من السد، وصولا إلى القاهرة، لكن ذلك كله لم يردع أديس أبابا وبكين عن مواصلة تعاونهما الكهرومائي، على الرغم من أن الصين قد تجنّبت تقديم قروض مباشرة لتغطية تكاليف إنشاء سد النهضة، خوفا من إثارة غضب مصر التي تمتلك فيها بكين أيضا مصالح متنامية.
وبدلا من ذلك، تعهّدت الصين في عام 2013 بتقديم قرض بقيمة 1.2 مليار دولار لتمويل خطوط الكهرباء والبنية التحتية المقرر أن تنقل الكهرباء المولدة من السد إلى البلدات والمدن الرئيسية، وعلاوة على ذلك، أعلنت بكين في إبريل/نيسان 2019 عن منح قرض بقيمة 1.8 مليار دولار لحكومة رئيس الوزراء الجديد آبي أحمد خلال الزيارة التي قام بها الأخير إلى الصين بهدف توسيع شبكة الكهرباء في إثيوبيا، وهو قرض يُعتقد أن جزءا كبيرا منه قد وُجِّه لاستكمال أعمال الإنشاءات وشراء التوربينات اللازمة لتشغيل السد، وفي المقابل قامت الحكومة الإثيوبية بمنح الكثير من عقود السد المربحة للشركات الصينية، فخلال النصف الأول من العام الماضي وحده، تعاقدت شركة الكهرباء المملوكة للدولة الإثيوبية مع مجموعة جيزوبا الصينية، وهي شركة هندسية مملوكة للدولة، للمشاركة في أعمال الإنشاءات الخاصة بالسد مقابل 40.1 مليون دولار، وفي الوقت نفسه، تعاقدت الحكومة الإثيوبية مع الفرع الصيني لشركة "فويث هيدرو الألمانية" للطاقة الكهرومائية المحدودة لتوريد التوربينات الثلاثة الأخيرة للسد مقابل 112 مليون دولار (ورّدت الشركة بالفعل 13 توربينا لأعمال السد خلال العامين الماضيين).
لم تكن الشركات الصينية وحدها هي مَن نالت نصيبها من العقود المربحة في سد النهضة، حيث سعت أديس أبابا لاستجلاب الدعم الدولي لمشروعها الضخم من خلال منح العقود للكثير من الشركات الغربية المرموقة، على سبيل المثال، فإن عملاق الإنشاءات الإيطالي "وي بيلد"، ساليني إمبريجيلو سابقا، هو مَن يتولّى تنفيذ أعمال الإنشاءات الرئيسية لسد النهضة، وكانت الشركة نفسها هي مَن تولّت أعمال الإنشاءات في سد "جايب 3″، وهي ترتبط أيضا بعقد مع الحكومة الإثيوبية منذ عام 2016 لبناء سد "كيوشا" على نهر أومو، فيما تعمل شركة "فويث هيدرو" الألمانية الشهيرة، المتخصصة في مجال التوربينات والمحركات الهيدروليكية، على توريد التوربينات اللازمة للسد بالشراكة مع شركة ألستوم الفرنسية، التي تعمل هي الأخرى في مشروعات السد بموجب عقد مشترك مع شركة جنرال إلكتريك الأميركية العملاقة.
لا تقف الأمور عند هذا الحد، حيث يُعتقد أن هناك عشرات الشركات الغربية التي ترتبط بعقود عمل متفاوتة في سد النهضة الإثيوبي، وفي الواقع، تُشير مصادر إلى أن جميع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وغيرها من الدول النافذة إقليميا ودوليا، لديها شركات تعمل في سد النهضة، بما يعني أن هذه الدول سوف تكون -في أفضل الأحوال- مترددة في اتخاذ أي مواقف منحازة ضد مصالح إثيوبيا بشأن قضية سد النهضة، حال أُثيرت القضية في أيٍّ من المنتديات والمحافل العالمية، بما في ذلك الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
في الواقع، هناك الكثير من الأسباب التي تدفع الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، إلى تجنُّب الانحياز ضد إثيوبيا والوقوف إلى جانب مصر في قضية سد النهضة، رغم امتلاك القاهرة للمسوغات القانونية والتاريخية، لعل أقلها هي مصالح الشركات الغربية العاملة في أديس أبابا، حيث يبدو أن عوامل مثل موقع إثيوبيا المميز في حوض النيل وثقلها التاريخي الذي لا يمكن إنكاره، والاستقرار النسبي الذي تتمتع به بالمقارنة مع جوارها المضطرب، والفرص الاقتصادية الواعدة التي تُقدِّمها، ومكانتها كقاعدة محتملة للنفوذ الصيني في شرق أفريقيا، قد وضعت أديس أبابا في موقع مماثل لموقف القاهرة إبان حقبة الحرب الباردة، حيث تتبارى القوى المتنافسة لكسب صداقتها.
ظهر ذلك بشكل واضح في مارس/آذار الماضي، حين أعلنت الولايات المتحدة أنها مستعدة لاستثمار 5 مليارات دولار في إثيوبيا من خلال مؤسسة تنموية جديدة أُنشئت أواخر العام الماضي تحت اسم مؤسسة تمويل التنمية الدولية (DFC) تتمتع بقدرة إقراض ضخمة تُقدَّر بـ 60 مليار دولار، وقد أُنشِئت المؤسسة الجديدة بالأساس لتحل محل المؤسسة الأميركية للتمويل الخاص الخارجي (OPIC)، على أن تكون أنشطتها التمويلية موجَّهة لخدمة المصالح السياسية للولايات المتحدة، وعلى رأسها مواجهة النفوذ الصيني الكبير في الدول النامية، وبشكل خاص في أفريقيا.
قبل ذلك بشهر واحد، أطلّ وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو على وسائل الإعلام من العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، مؤكدا أن الولايات المتحدة جاءت اليوم لتُقدِّم "فرصا استثمارية حقيقية وجذابة"، على النقيض من الدول الاستبدادية التي جاءت "بوعود فارغة وشجّعت الفساد والتبعية" في إشارة واضحة إلى الصين، وفي تلك اللحظة، كانت واشنطن قد برهنت بالفعل لأديس أبابا أنها على استعدادها للوفاء بوعودها، بعد أن منحت الضوء الأخضر لصندوق النقد الدولي نهاية العام الماضي (2019) لتقديم قرض بقيمة 2.9 مليار دولار إلى إثيوبيا، بهدف إعادة التوازن إلى ميزان المدفوعات في البلاد وتمويل أجندة التحرير الاقتصادي.
كانت هذه المساعدات والاستثمارات الأميركية والدولية أكثر بكثير مما تحتاج إليه أديس أبابا في الوقت الراهن، ورغم أن أيًّا منها لم يكن مُوجَّها لتمويل سد النهضة بشكل مباشر، فإن هذه الأموال منحت قُبلة الحياة الأبدية للحلم الإثيوبي، وفي الوقت نفسه قدَّمت إشارات واضحة إلى أن الدعم الذي تحظى به أديس أبابا في الأوساط الغربية اليوم بات قادرا على معادلة النفوذ التاريخي لمصر، وكان هذا على الأرجح هو السبب الرئيسي في أن إثيوبيا تبنّت خطابا عدوانيا وهجوميا ضد مصر خلال الأشهر الأخيرة، مؤكدة أنها ستمضي قُدما في خططها لملء وتشغيل السد سواء توصّلت إلى اتفاق مع القاهرة أم لا.
من جانبها، يبدو أن مصر باتت تُدرك بوضوح هذا التحوُّل في ميزان القوى في منطقة حوض النيل وشرق أفريقيا، ففي حين أن واشنطن بدت منحازة ظاهريا إلى مواقف مصر، خاصة منذ أن رفضت إثيوبيا التوقيع على اتفاق برعاية أميركية نهاية فبراير/شباط الماضي، وتركت مصر تُوقِّع عليه منفردة بالأحرف الأولى، تُشير المصادر الصحفية إلى أن مصر تشعر أن واشنطن قد خذلتها وأنها لم تفعل ما يكفي لإجبار أديس أبابا على تقديم تنازلات بشأن قضية السد، ناهيك بكون واشنطن قد رفضت استخدام ثقلها الاقتصادي للضغط على أديس أبابا لاستكمال المفاوضات.
لم تكن واشنطن وحدها هي مَن خذلت مصر على ما يبدو، حيث رفضت الصين -أحد أصدقاء السيسي المقربين- طلبا مماثلا من القاهرة ولم تُمارس أي ضغوط على إثيوبيا في قضية السد، والأكثر من ذلك أن السعودية والإمارات، أبرز حلفاء النظام المصري، تجاهلا المناشدات المستمرة للقاهرة لتعليق استثمارتهما في إثيوبيا (نحو 7 مليارات دولار) من أجل تحسين موقف مصر التفاوضي في القضية، وعلى العكس من ذلك استثمرت كلٌّ من الرياض وأبو ظبي في تعزيز علاقاتهما مع أديس أبابا، حيث رعت العاصمتان اتفاق مصالحة تاريخي بين إثيوبيا وإريتريا كان هو السبب الرئيسي في حصول رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد على جائزة نوبل للسلام، في الوقت الذي قدّمت فيه الإمارات مبلغ 3 مليارات دولار في صورة ودائع واستثمارات في إثيوبيا، وقدّمت السعودية 140 مليون دولار كقروض لإقامة مشروعات للطاقة الشمسية.
وبالنظر إلى مواقف الرياض على وجه الخصوص، يظهر أن العاصمة الخليجية حظيت بعلاقة مريبة ومثيرة للجدل مع المشروع الإثيوبي، فرغم أن السعودية اضطرت إلى إنكار وجود أي استثمارات لها في سد النهضة، في أعقاب زيارة مثيرة للجدل قام بها وفد سعودي رفيع المستوى لموقع بناء السد في ديسمبر/كانون الأول عام 2016 وأثارت استياء كبيرا لدى القاهرة، فإن المملكة لم تُنكر ما تداولته تقارير صحفية حول رغبتها في إقامة مشروع ربط كهربائي بين دول الخليج وإثيوبيا من خلال نظام كابلات يتم تمريره عبر اليمن، كجزء من الجهود الخليجية للحد من الاعتماد على النفط والغاز في توليد الطاقة محليا، بما يساعد على توفيرهما لأغراض التصدير.
كذلك، ربما لن تستطيع القاهرة تجاهل حقيقة أن الملياردير السعودي صاحب الأصول الإثيوبية، محمد حسين العمودي هو أحد أبرز المستثمرين في سد النهضة، وأن العمودي قدّم تبرعا بقيمة 88 مليون دولار لبدء أعمال الإنشاءات الأولى للسد في عام 2011، ويُعتقد أنه كان أحد أكبر ممولي المشروع قبل احتجازه في فندق "ريتز كارلتون" الشهير عام 2017، ناهيك بكونه مهندس الربط الزراعي بين الرياض وأديس أبابا منذ نجح في إقناع السلطات السعودية باستثمار مليارات الدولارات لاستصلاح نصف مليون هكتار (نحو 1.25 مليون فدان) في مقاطعة غامبيلا بإثيوبيا.
تتغيّر الأرض إذن، بوتيرة غير مسبوقة، تحت أقدام القاهرة وأديس أبابا كلتيهما، وفي حين أن إثيوبيا كانت تشتكي قبل عقد من الزمان فقط من سطوة النفوذ السياسي والاقتصادي ومنظومة العلاقات الدولية والإقليمية التي مكّنت مصر من الحفاظ على اليد العليا في منطقة حوض النيل وإعاقة تنفيذ أي مشروعات يمكن أن تُهدِّد حصة مصر من المياه، بما في ذلك سد النهضة الذي عانى كثيرا للحصول على التمويل، يبدو الوضع معكوسا بشكل ملحوظ اليوم حيث تتوافد رؤوس الأموال الدولية وعروض مؤسسات التمويل التي طالما أعطت ظهرها لأرض الأحباش لفترة طويلة، بينما لا يبدو أن هناك أي دولة أو جهة راغبة في ممارسة ضغوط حقيقية على أديس أبابا لتقديم تنازلات حقيقية لتقريب وجهات النظر مع مصر التي تُظهِر اليوم -مرغمة على ما يبدو- مرونة غير مسبوقة في التنازل عن حقوقها المائية بشكل لم يكن بالإمكان تصوُّره قبل عقد واحد من الزمان.