شعار قسم ميدان

بيلاروسيا تختطف طائرة لتعتقل معارضا.. هل وصل قمع الاستبداديين إلى الجو؟

وقعت يوم الأحد الماضي حادثة غريبة من نوعها، حيث استدرجت السلطات البيلاروسية بمساعدة مراقبي الملاحة الجوية في مطار العاصمة "مينسك" طائرة ركاب تابعة لخطوط جوية أيرلندية، وذلك من أجل اختطاف الصحافي المعارض البيلاروسي "رومان بروتاسيفيتش". تناقش هذه الحادثة الصحافية "آن أبل باوم" في تقرير نشرته مجلة "الأتلانتيك" الأميركية، كما تقف على ردود الأفعال الغربية تجاه الحادثة، وتداعياتها على نظام الرئيس البيلاروسي "ألِكسندر لوكاشينكو".

عندما يحتدم الخلاف حتى على أبسط قيمنا الحضارية، فإننا مع ذلك نتفق على الالتزام المشترك بمجموعة صغيرة من القواعد والقوانين. على سبيل المثال، قوانين البحار، أو القواعد التي تحكم سلوك مراقبي الملاحة الجوية. فحين يحلِّق الطيارون من أي جنسية كانت، حتى لو اتجهوا نحو بيونغ يانغ عاصمة كوريا الشمالية، فإنهم لا يشككون في صحة التوجيهات التي يتلقونها من المختصين على الأرض، أو في احتمالية أن تكون توجيهات مُسيَّسة أو مخادعة، أو تهدف لأي شيء عدا الهبوط الآمن.

أما الآن، فقد ضرب الديكتاتور البيلاروسي "ألِكسَندَر لوكاشينكو" بهذا الافتراض البديهي عرض الحائط في سابقة هي الأولى من نوعها. ففي 23 مايو/أيار الجاري، وبالتعاون مع سلطات الملاحة الجوية في بيلاروسيا، جرى اختطاف رحلة خطوط الطيران "رايان إير" (خطوط أيرلندية) وهي في طريقها عبر أجواء بيلاروسيا من العاصمة اليونانية أثينا إلى العاصمة الليتوانية فيلنيوس، فقد ضلل برج مراقبة الملاحة الجوية البيلاروسي طاقم الرحلة مخبرا إياهم بوجود قنبلة على متن الطائرة. وبحسب الإعلام الحكومي البيلاروسي، فإن الطائرة بعد ذلك "صحبتها" طائرة مقاتلة من طراز "ميغ" إلى العاصمة مينسك.

في الحقيقة لم تكن هناك قنبلة، وكان الإنذار كاذبا، حتى إن مطار مينسك لم يكن المطار الأقرب أصلا إلى الطائرة، أما بعد هبوط الطائرة فلم يهرع أحد لنقل الركاب بمأمن عن القنبلة كما يُفترض أن يحصل في تلك المواقف، واتضح الهدف الأساسي مما جرى بعد إجلاء مسافرين اثنين فحسب من على متن الطائرة، الأول هو "رومان بروتاسِفيتش"، المدوِّن والصحافي البيلاروسي المعارض، والمسافرة الأخرى شريكته "صوفيا سابيغا". عمل بروتاسِفيتش محررا في "نيكستا"، قناة للتدوين على تطبيق تِليغرام، كانت أحد أهم مصادر الأخبار الحية خلال التظاهرات الحاشدة المناهضة للنظام التي خرجت في مينسك الصيف الماضي. غادر بروتاسِفيتش البلاد عام 2019، وهو يعيش في المنفى منذ ذلك الحين، كما أدرجته بيلاروسيا على قوائم الإرهاب أثناء محاكمة غيابية. بينما اصطحبه المسؤولون من الطائرة، تحدَّث بروتاسِفيتش مع أحد المسافرين مستنجدا: "إنني أواجه حكما بالإعدام". والحكم بالسجن في بيلاروسيا قد يتضمن بالتأكيد الاستجوابات على الطريقة السوفيتية، والحبس الانفرادي، والتعذيب.

ما تزال بعض التفاصيل غير واضحة، إذ التزمت خطوط "رايان إير" الجوية صمتا غريبا في الساعات اللاحقة للاختطاف، وأصدرت بيانا متبلدا بدا كأنه بيان حول مشكلة عادية في الصيانة. في صباح اليوم التالي للحادث تكلَّم المدير التنفيذي لخطوط "رايان إير" واصفا ما جرى بأنه "اختطاف مدبر من الدولة". وما حدث لا يدع مجالا للشك في ذلك. فقد انتهك النظام البيلاروسي إجراءات التحكم في الملاحة الجوية المصممة أساسا لإعلام الطيارين بحالات الطوارئ الحقيقية، ليتمكن من خطف معارض بيلاروسي. بمعنى آخر، تنضم هذه الواقعة إلى مثيلاتها، مثل جريمة القتل البشعة التي ارتكبتها السعودية بحق جمال خاشقجي داخل قنصلية بلادها في إسطنبول، واستخدام روسيا السموم المشعة وغازات الأعصاب ضد أعداء الكرملين في لندن (في حالة الجاسوس الروسي السابق ألكسندر ليتفينينكو)، وفي سالزبوري بإنجلترا (في حالة الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكريبال)، واغتيالات إيران لمعارضيها في هولندا وتركيا، وخطف الصين واحتجازها مواطنين صينيين يعيشون في الخارج وأجانب من أصل صيني، وغيرها الكثير. وقد وصفت منظمة "فريدوم هاوس" الحقوقية هذه الممارسات الجديدة بأنها "قمع عابر للحدود"، وجمعت في تقريرها أكثر من 600 مثال على ذلك.

ليس لدى "لوكاشينكو" نفوذ قوي بالخارج، إذ تملك بيلاروسيا نفوذا تجاريا ضئيلا

تشكل هذه القضايا جزءا من نمط جديد يتشكَّل هذه الأيام، حيث لم تعد الدول الاستبدادية في سعيها لملاحقة أعدائها تشعر بالحاجة إلى احترام جوازات السفر أو الحدود أو الأعراف الدبلوماسية أو قواعد التحكم في الملاحة الجوية، فالمستبدون في هذا العالم الجديد مستعدون أكثر من أي وقت مضى لاعتقال المعارضين السياسيين أو قتلهم في أي مكان، مهما كانت الجنسية التي يحملونها أو القوانين الأجنبية أو الإجراءات البيروقراطية التي يُفترض نظريا أن تحميهم. أحيانا ما تضغط هذه الأنظمة على دول أخرى لمساعدتها، وأحيانا ما تختطف الناس دون مساعدة، وأما الأثمان التي ستتكبدها هذه الأنظمة نتيجة أفعالها، كالعقوبات أو العلاقات السيئة بشتى دول العالم، فلم تعُد تضيرها الآن.

تثير تلك الحادثة الانتباه أيضا، لأن لوكاشينكو، على عكس قادة السعودية وروسيا والصين، ليس لديه نفوذ قوي بالخارج، إذ تملك بيلاروسيا نفوذا تجاريا ضئيلا، دونما أي استثمارات مهمة في نيويورك أو لندن، ودونما نخبة من رجال الأعمال الأثرياء النافذين ممن يمتلكون أندية بريطانية لكرة القدم ليساعدوا في الترويج لحكمها الاستبدادي حول العالم. وبالنظر إلى قدرة لوكاشينكو اليوم على احتجاز طائرة مملوكة لأوروبا ومُسجَّلة فيها، وهي تقِل مواطنين من الاتحاد الأوروبي في معظمهم من دولة أوروبية إلى أخرى، بل وربما تعريض الطائرة وركابها للخطر، فذلك يشي باستعداده لقطيعة كاملة مع أوروبا، وبثقته التامة في الدعم الروسي اقتصاديا وسياسيا إذا ما حدث ذلك. وبالفعل غردت مديرة "روسيا اليوم"، المحطة التلفزيونية الدولية التي ترعاها الحكومة الروسية، قائلة إن عملية الاختطاف جعلتها "تحسد" بيلاروسيا، وواصفة تصرف لوكاشينكو بـ"الأداء الجميل". كما وصف مسؤول روسي آخر رفيع المستوى عملية الاختطاف بأنها "ممكنة وضرورية". بيد أن أيا من ذلك لا يثير الدهشة، إذ إن دعم الاستبداديين بعضهم بعضا وهُم يخرقون القانون الدولي ليس إلا عنصرا آخر من عناصر هذا النمط الجديد.

في الساعات التالية على الحادث، تفاعل عدد كبير من القادة الغربيين على مواقع التواصل الاجتماعي، ومنهم من استنكر الحادث، مثل الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ورئيس المفوضية الأوروبية، ووزير الخارجية الأميركي. كما استقبل رئيس وزراء ليتوانيا الطائرة إثر هبوطها أخيرا في العاصمة فيلنيوس، بعد تأخرها ساعات طويلة عن موعدها الأساسي. ومن جانبها طردت لاتفيا بالفعل السفير البيلاروسي من البلاد، كما حظرت بريطانيا الخطوط الجوية الوطنية لبيلاروسيا، وفي الأيام المقبلة سيجري التنسيق للرد على الحادث الذي من المتوقع أن يتضمن عقوبات اقتصادية جديدة على بيلاروسيا، أو تعليق الرحلات الجوية إليها.

علاوة على ذلك، أكدت حادثة أخرى غريبة يوم الاثنين الماضي لجموع الأوروبيين أن بيلاروسيا ليست مكانا خطيرا بلا قانون فحسب، بل مكان خطير بلا قانون على أعتاب الاتحاد الأوروبي. فقد أرجأت بيلاروسيا رحلة لخطوط طيران "لوفتهانزا" الألمانية متوجهة من مينسك (عاصمة بيلاروسيا) إلى فرانكفورت (في ألمانيا)، وذلك أيضا على خلفية تهديدات مزعومة بوجود قنبلة على متن الرحلة، وخشي بعض المراقبين حينئذ من احتجاز المسافرين رهائن. ومثلما اجتر الغزو الروسي لأوكرانيا تبعات على قارة أوروبا بأكملها، فإن كارثة حقوق الإنسان في بيلاروسيا ستؤثر بالتأكيد على أوروبيين آخرين.

ليس الأوروبيون وحدهم من يترقب هذه الأيام، بل يراقب المستبدون وأتباعهم الوضع عن كثب أيضا في شتى العواصم الاستبدادية حول العالم، متطلعين إلى ردة فعل الغرب، وما إذا كان لوكاشينكو سينجو بفعلته، أم أن هذه الأداة القمعية الجديدة ستصير متاحة لهم أيضا. بطبيعة الحال، سيسعى آخرون بدأب لاستخدام تلك الوسيلة، لا لشيء سوى أنها تبعث رسالة إلى المعارضين والمنفيين مفادها: أنت لست آمنا، ولن تكون آمنا أبدا، حتى إذا كنت تعيش في دولة ديمقراطية، وحتى إذا كنت لاجئا سياسيا، وحتى إذا كنت على متن طائرة ركاب على بعد آلاف الكيلومترات من الأرض.

_______________________________________________________

هذا التقرير مترجم عن: The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة