شعار قسم ميدان

الوحدة "8200".. كيف تحول إسرائيل شبابها إلى جواسيس محترفين؟

كان كل شيء قبيل حرب أكتوبر/تشرين الأول، أو حرب يوم "كيبور" كما تُطلِق عليها إسرائيل، غامضا بشدة، غموض رافقته مجموعة من الأساطير المُقنَّنة أدارتها دولة الاحتلال بنجاح مطلق. كانت الأساطير تُبنى في بعضها على الكثير من الأُسس الصحيحة، فعلى سبيل المثال، جيش قوي كأساس ضُخِّم إلى "جيش لا يقهر"، وكيان يتطور باستمرار وُضع عليه ملصق "يبقى للأبد"، لكن الأسطورة الأهم كانت أن "تل أبيب تعرف كل شيء"، ما ثبت فيما بعد أنها ليست أسطورة بهذا القدر.

 

رغم الصورة الدعائية المبالغ فيها، فإن "عاموس" تحديدا كان يعرف أن تلك المبالغات ليست أسطورية بالكامل، ومع كونه أحد رجال الظل القليلين غير المعروفين على أي مستوى، وربما قبل أوائل أكتوبر/تشرين الأول لم يكن أحد يعرفه على مستوى النظامين السوري والمصري المنخرطين في الحرب، فإن السوريين و"حافظ الأسد" شخصيا سيعرفون -عن طريقه- مدى ما فعلته تل أبيب بنظامهم المعلوماتي كاملا.

 

بعد أيام قليلة من بدء الحرب، سقط "عاموس ليفنبرغ" (1) في أيدي القوات السورية، وعلى الفور نقله السوريون إلى مكان مجهول لاعتصار ما يمكن منه. لم يكن الأمر يحتاج إلى كثير من الجهود لإقناع "عاموس"، أحد أرفع ضباط الوحدة 8200، وأحد القلائل المالكين لتصريح أمني بالغ الخصوصية، بالإدلاء بما لديه. هندس ضباط التحقيقات السوريون حينها ببراعة سيناريو أقنعوا "عاموس" من خلاله أن الجيوش المصرية والسورية قد وصلت تل أبيب بالفعل، وأن إسرائيل قد انتهت للأبد، ومع نقطة ضعف "عاموس" الضخمة "رهاب الأماكن المغلقة"، والضغط النفسي، وبراعة نسج سيناريو الانتصار الخيالي، وبذاكرة استثنائية ونادرة اشتهر بها في أروقة الوحدة السيبرانية الإسرائيلية الأشهر، أدلى "ليفنبرغ" بكل ما لديه، وكان الأمر أشبه بالصاعقة: "كانت كل كلمة مهمة تصنع قرارا في سوريا تُسمع في إسرائيل".

يوصف "عاموس" في أروقة مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي كونه الرجل المتسبب بـ "أكبر ضرر شهدته الاستخبارات الإسرائيلية في تاريخها"

نجحت الاستخبارات الإسرائيلية في زرع أجهزة تنصُّت بطول سوريا وعرضها على مدار سنوات ما قبل الحرب، ولم تسلم مصر والأردن أيضا من الشبكة الواسعة، فعندما دقَّت "النكسة" أبواب التحالف الثلاثي "المصري، السوري، الأردني" عام 1967، ودُكَّ سلاح الجو المصري كاملا دون أن يرتفع شبرا واحدا عن الأرض، هاتف "جمال عبد الناصر" العاهل الأردني حينها، طالبا منه تدخُّل القوات الأردنية امتثالا للمعاهدة الثنائية بين القاهرة وعَمّان وما تنص عليه من تدخُّل قوات إحدى العاصمتين للدفاع حال تعرُّض الأخرى لاعتداء شامل، كانت المكالمة تجري بين رأسَيْ الدولتين، بينما تُسمع وتُسجَّل بالكامل في تل أبيب، وفي وقت لم يكن فيه العرب يسمعون عن الوحدة 8200 بالأساس، كانت تُسجَّل المكالمات الشخصية لرؤسائهم.

 

يُوصَف "عاموس" في أروقة مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي بأنه الرجل المُتسبِّب في "أكبر ضرر شهدته الاستخبارات الإسرائيلية في تاريخها"، وعلى الرغم من دفاع تل أبيب الرسمي أمام الرأي العام عنه، خاصة ضابط استجوابه حين عودته للأراضي المحتلة "شيمون ليفي"، فإن ما قاله "عاموس" أرَّخ لبداية سُمعة الوحدة 8200، على الرغم من فشلها في حرب "يوم الغفران"، وخط نقطة البداية لقوة إسرائيل السيبرانية بأكملها (2).

 

"لا أحد يُخبرك كيف تفعل هذا، إما أن تنجح أنت، وإما لا أحد سيفعل".

(أفيشاي إبراهيمي، أحد مجندي الوحدة 8200 السابقين)

تُجبِر الخدمة الإلزامية في الجيش الإسرائيلي "أفيشاي إبراهيمي"، كما كل إسرائيلي ما بين 16-18 عاما، على الالتحاق بالجيش. وبينما يكون حظ أغلبهم أقل من الآخرين، كان "أفيشاي" ضمن أولئك المحظوظين البادئين منذ أوائل التسعينيات مباشرة مع الوحدة 8200، وحدة النخبة في جهاز الاستخبارات الإسرائيلية العسكرية "أمان". وبينما يبلغ "أفيشاي" الآن من العمر 48 عاما، فإنه يتذكَّر بفخر تلك القصة في بداية انضمامه للوحدة 8200، حيث طُلِب منه وهو الفتى الذي لا يتجاوز عمره 18 عاما حينها اختراق قاعدة بيانات دولة معادية لإسرائيل، والحصول على كل ما يمكنه من معلوماتها (3).

منذ احتلالها للأراضي الفلسطينية وإعلان نشأتها عام 1948، تَعتَبر إسرائيل نفسها دولة صغيرة يُحيطها الأعداء من كل اتجاه. كان هذا، ولا يزال، سببا رئيسا للاهتمام المُمنهج بأجهزة مخابراتها الخارجية، حيث يقبع جهاز مخابرات رئاسة الوزراء "الموساد" على رأس القائمة، ويتخصَّص في أمن الكيان الخارجي على الأغلب، بينما يهتم بالأمن الداخلي جهاز "الشين بيت"، وتجمع شعبة الاستخبارات العسكرية، المعروفة بـ "أمان" بين الاختصاصين، بوحداتها النخبوية متعددة المهارات، وعلى رأسها وحدة الأمن السيبراني "8200"، التي تتراوح مهام أعضائها ما بين التجسُّس، والتعرُّف على "الإرهابيين" المحتملين على الإنترنت، وتطوير التقنيات الاستخباراتية، واختراق قواعد بيانات الدول المعادية لتل أبيب، وتدميرها إن لزم الأمر (4).

 

كانت حرب أكتوبر/تشرين الأول لعام 1973 نقطة التحوُّل في تاريخ الوحدة، فسقوط عناصرها في أيدي القوات السورية، وعلى رأسهم "عاموس"، تسبَّب في خسارة إسرائيل عيونها وآذانها في سوريا لسنوات طويلة. أُتبِعت تلك الخسارة بإعادة تشكيل للوحدة، وتداركا للهزيمة قام "أمان" بفصل عناصرها عن بعضهم في فِرَق مختلفة، وتوزيع المهام فيما بين تلك الفِرَق بسرية تامة تضع كل فرقة في عُزلة كاملة عن غيرها. تَوافَق هذا مع عملية تطوير شاملة في المهام نفسها، فأصبحت الوحدة "أكاديمية تعليمية تقنية" شاملة، ليس فقط للمهارات الفائقة التي يمتلكها أو يتعلمها أعضاؤها الممثلون بالأساس لنخبة المجتمع الإسرائيلي، لكن أيضا لأنها أصبحت مصنعا للشركات الناشئة في مجال الأمن السيبراني، ومُشاركا رئيسا في الاقتصاد الإسرائيلي (5).

 

لا يُعَدُّ الانضمام للوحدة 8200 شيئا هيّنا، فالعرب في إسرائيل ممنوعون من الانضمام للجيش عامة، ووحدات الأمن السيبراني خاصة. ويقوم مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي بجمع المعلومات، وتحديثها دائما، عن العناصر المتميزة في مجالات التقنية من الشباب والفتيات الإسرائيليين في مرحلة الثانوية، ويشمل التدقيق ومراحل اختيار المرشحين للانضمام للوحدة اختبارات سنوية ونصف سنوية، في اللغات والعلوم والبرمجة والتفكير الإبداعي وسرعة البديهة، بالإضافة إلى الاختبارات الجسدية. وهناك أيضا برنامج "مغا شميم" بجامعة "بن غوريون"، جنوب إسرائيل، حيث يمكن للمتميزين من الشباب والفتيات الدراسة لثلاث سنوات قد تؤهلهم للخدمة بالوحدة 8200، وقد لا تفعل (6).

"مصنع للألعاب الاستخباراتية"، هذا هو الوصف الذي يُلخِّص به "يوسي ميلمان" ما يدور في تدريبات الوحدة 8200. فإذا احتاج أي متدرب إلى شيء ما، كل ما عليه فعله هو أن يصفه لهم وسوف يُوجدونه. ولا يدع قادة الوحدة أو أيٌّ من عناصرها فرصة إلا ويؤكدون أنهم النخبة الأكثر إبداعا في إسرائيل.

 

يدعم هذا الوصف عدة صفات يشترك فيها مجندو الوحدة وقادتها على حد السواء: نقص الموارد المتاحة للجنود لأداء مهماتهم، والجدال الدائم بين عناصر الفرقة الواحدة، على مستوى الفِرَق باختلاف مهامها، بحثا عن الحلول المثلى، وغياب التسلسل الهرمي العسكري المعتاد في الوحدة، إضافة إلى قدرة كبيرة على الإتيان بأفكار جديدة، كل هذا يدع المجال مفتوحا أمام المجندين، المراهقين في الأساس، لابتكار الحلول اللازمة، وأيًّا كانت الحدود الموضوعة أمامهم فيمكنهم اختراقها وصولا للحل المطلوب.

 

يُبرهن على ذلك ما فعله "أفيشاي" للحصول على البيانات اللازمة من قاعدة معلومات "هدف مُعادٍ لإسرائيل"، باختصار: اخترق المجند الشاب قواعد بيانات دولتين مجاورتين، واستمد من أجهزتهما قوة المعالجات اللازمة لاختراق قاعدة بيانات الهدف المعني. فعل "إبراهيمي" هذا وهو يجلس بمكتبه بتل أبيب، ودون الحاجة حتى إلى جهاز متطور قد يُساعده على إكمال مهمته بجهد أقل. "كانت المهمة واضحة، وفعل ما يجب عليه فعله بالموارد المتاحة في زمنه، أوائل التسعينيات، حينها". بعدها أنهى "أفيشاي" خدمته في الوحدة ليساهم في تأسيس شركة "ويكس" (Wix) العالمية، والمهتمة بتطوير منصات الويب الرائدة، وهو حال الغالبية العظمى من مجندي الوحدة بعد انتهاء خدمتهم.

 

لم يكن "أفيشاي" حالة فريدة من نوعها، حيث امتلك "سكولر"، أحد مجندي الوحدة الذي بدأ خدمته عام 1996، كل الموارد اللازمة، وكان يقود فريقا صغيرا من المهندسين الشباب، ويجلسون معا لخمسة أيام متتالية، في غرفة مغلقة، لاستخراج التهديدات المحتملة من بيانات استخباراتية هائلة الحجم تشمل إشارات ومعلومات عمل على جمعها فريق متكامل ومتخصص في البحث والتحليل. ووسط ذلك يفتخر "سكولر" بأنه وفريقه من الشباب "المجانين"، على حد تعبيره، قد فعلوا في خمسة أيام ما قد يستغرق أسابيع لفعله. كما افتخر "أفيشاي" سابقا بأنه في يوم واحد استطاع، مع فريقه، فعل ما كان يحتاج إلى سنة كاملة لإنهائه.

 

"الماضي العسكري للأشخاص في إسرائيل أكثر أهمية من الماضي الأكاديمي. أحد أهم الأسئلة التي تُطرح في أية مقابلة عمل: أين خدمت في الجيش؟".

(غيل كيربس، "Start Up Nation")

ربما لا يقرع اسم "يائير كوهين" أجراسا كثيرة لدى الأغلب، لكن وقع الاسم يختلف في الأوساط السيبرانية تماما. أحد المجندين السابقين بالوحدة 8200، وقائدها فيما بين عامَيْ 2001 إلى 2005، والرئيس الحالي لقسم المعلوماتية والحلول السيبرانية بشركة "إلبيت سيستمز" (Elbit systems)، إحدى أكبر الشركات الإسرائيلية العالمية في مجال أنظمة الدفاع والأمن الإلكتروني.

 

في عام 1996، استهل "يائير" خدمته في الوحدة بالتحدي التالي: تمتلك ثلاثة ملايين دولار، والمطلوب تحويل هذا المبلغ إلى ثلاثمئة مليون دولار، أي مئة ضعف، وعلى أغلب الظنون يحتاج الأمر إلى ساحر، أو إلى قسم كامل يمتلك ميزانية أكبر من الرقم المتاح بكثير، لكن "يائير" نجح، وبفريق من ثلاثة أشخاص فقط، في الوصول إلى الهدف المطلوب، وكما يحكي "كوهين" نفسه فيما بعد، فإن الأمر لم يكن سحرا وإنما استمد نجاحه من خطوات طبَّقها وفريقه ببراعة مرة تلو المرة.

تضع الخدمة في جيش الدفاع الإسرائيلي، وخاصة في الوحدة 8200، الشباب والفتيات في اختبارات يومية تُوصَف بأنها "مسألة حياة أو موت"، وتُدرِّبهم على التعلُّم المستمر من خلال التجربة والخطأ. ويأتي التدريب على استخدام أحدث وسائل التقنية في مجالات التجسس الدولي، والاختراق الإلكتروني، بمنزلة مهام يومية يمارسها آلاف المجندين بالوحدة، وهو ما يمنحهم المهارات والخبرات اللازمة لبناء شركاتهم الخاصة فيما بعد، ويجعل الشركات العالمية تتنافس عليهم بعد إنهاء خدمتهم.

 

يوضح "أفيفا ليتان"، الباحث والمحلل بمركز "غارتنر" (Gartner Research)، ما يحدث، فيُخبرنا أن هذه الطفرة في صناعة الأمن السيبراني في إسرائيل "تُنسب لرواد الأعمال ذوي الخلفيات العسكرية، الذين قضوا خدمتهم في وحدات النخبة الإسرائيلية المتخصصة في الأمن السيبراني"، ثم جلبوا خبراتهم العسكرية إلى القطاع الخاص (7). هذا التطور في العلاقة الوثيقة بين الجيش وشركات القطاع الخاص في إسرائيل يعتبر "غير محدود"، فلا توجد قوانين تضع للمجندين حدودا لما يمكن استخدامه، تقنيا أو مهاريا، في سبيل حماية الأمن السيبراني الإسرائيلي. كذلك فإن احتلال إسرائيل للضفة الغربية -وقطاع غزة سابقا- يُوفِّر ما يشبه ساحات تجارب واسعة ومجانية وآمنة لاختبار التقنيات التي تستخدمها أو تُطوِّرها تل أبيب، وهو ما يجعلها جاهزة بصورة شبه مثلى للاستخدام الداخلي أو لتصديرها للعالم (8).

 

في عام 1985، وتحديدا في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، قام أربعة فلسطينيين باختطاف السفينة الإيطالية "أكيلا لاورو" أثناء وجودها في ميناء بورسعيد المصري. بعدها أعلن الأربعة، الذين أشعلوا أزمة دولية باختطاف سياح من جنسيات أميركية وبريطانية وإسرائيلية وطاقم عمل إيطالي، عن مطلب وحيد: أن تُفرِج سلطات الاحتلال عن 60 من المعتقلين الفلسطينيين في سجونها.

 

تتابعت الأحداث سريعا لتُبحِر السفينة من مصر تجاه سوريا، لترفض حينها السلطات السورية السماح لها بدخول مياهها الإقليمية، لذا اتجه الطاقم بها إلى إيطاليا، ثم عاد مرة أخرى إلى مصر حيث سلَّم المختطفون أنفسهم إلى السلطات المصرية وأُطلق سراح الرهائن (9).

 

ما يهمنا هنا هو ما حدث خلال الأزمة، فبينما وُجِّهت الاتهامات ناحية "ياسر عرفات"، زعيم منظمة التحرير الفلسطينية الراحل، التي كان المختطفون ينتمون إليها وقتها، أعلن "عرفات" عن إدانته للحادثة واستعداده للتدخُّل لحل الأزمة إذا لزم الأمر ذلك. لكن ما شكَّل فارقا حينها هو امتلاك الوحدة 8200 لمكالمة صوتية لـ "عرفات" تُثبت عكس ذلك.

وبقدر ما يساهم التطور التقني لصناعة الأمن السيبراني الإسرائيلية في تأمين الكيان المحتل، فإن هذا لا يحدث غالبا لشعوب الدول التي تُسهم شركات التقنية الإسرائيلية بشكل كبير في تزويد أنظمتها الحاكمة بأحدث تقنيات المراقبة الإلكترونية. ورغم سعي مؤسسي الشركات التقنية، المنتمين إلى الوحدة 8200 تحديدا، لإزاحة هذه "السمعة السيئة" عن شركاتهم، بزعم متكرر أن تقنياتهم "تجعل العالم أكثر أمنا"، فإن هذا هو ما ينفيه تقرير "برايفسي إنترناشونال" (10)، ويؤكده المثال الأشهر عالميا لشركة "ناروس" (Narus)، الكائنة في الولايات المتحدة، لمؤسسها الإسرائيلي "أوري كوهين"، وهي الشركة التي ساهمت في تحليل ملايين المعلومات ورسائل البريد الخاصة بعملاء شركة "تي أند أي تي" (AT&T)، ثم أتاحت الفرصة لوكالة الأمن القومي الأميركي ناسا (NASA) بالاطلاع عليها كاملة، ما تسبَّب في فضيحة عالمية لـ "ناروس".

 

بينما جلس العلماء الإيرانيون غير قادرين على تفسير ما يحدث بأي شكل، كانت أجهزة الطرد المركزية في المفاعلات النووية الإيرانية تتهاوى كأحجار الدومينو، وهي التي شكَّلت حجر الأساس للبرنامج النووي الإيراني، حُلم الإيرانيين منذ عهد الشاه. بعدها وصل الأمر إلى حدِّ فصل بعضهم عن العمل بمفاعل "نطنز"، والمُقام بمنطقة شبه منعزلة عن العالم تُحيطها أسلحة الجيش والحرس الثوري الإيراني من كل اتجاه. في أيام قليلة توقَّفت عن العمل ما يقترب من 10% من أجهزة الطرد المركزية، قبل أن يدرك الإيرانيون حقيقة ما يحدث (11).

 

في عام 2010 أعلن مختبر أبحاث شركة "سيمانتيك" (Symantec)، المتخصصة في أمن المعلومات، اكتشافه لفيروس "زيرو داي" (Zero-day)، المعروف عالميا باسم "ستكسنت" (Stuxnet)، بعد أن تسبَّب في إلحاق أضرار جسيمة بآلاف من أجهزة الحاسوب في إندونيسيا والهند وباكستان والولايات المتحدة وعدة دول أخرى، وبعد أن أوقع خسائر ليست بالقليلة في المفاعل النووي الإيراني "نطنز" (12).

 

كان الفيروس مُتطوِّرا إلى حدٍّ "مخيف لم يُرَ من قبل"، كما وصفه بعض خبراء التقنية، وهو مستوى أجمعوا بأكملهم على أنه لا يُمكن أن يوجد إلا بقدرات دولة على الأقل، متورطة في ابتكاره وتمويل هندسته إلكترونيا، بحسب وصف خبراء شركة "سيمانتِك"، وهو التكهُّن الذي استمر حتى قال "يائير كوهين" نفسه، في مقابلة صحفية، إن الفيروس كان "نتيجة أشهر طويلة من البحث والتحليل والتطوير المشترك بين المخابرات المركزية الأميركية، ووكالة الأمن القومي الأميركي، والموساد الإسرائيلي، والوحدة 8200″، وكان الهدف منه، كما أُعلن فيما بعد، هو محاولة تعطيل البرنامج النووي الإيراني وتحجيمه إلى حين الوصول إلى اتفاق بشأنه مع إيران.

فيما اعتُبر "ستكسنت" أول سلاح رقمي يُستَخدم بالفعل لتحقيق أهداف محددة (13)، فإن التعاون بين الولايات المتحدة وإسرائيل لم يبدأ عنده، ولن ينتهي بالتأكيد. فقد تمت الموافقة، أواخر عام 2016، على عدة تشريعات تُفضي بواشنطن إلى توسيع التعاون مع تل أبيب في مجال بحوث الأمن السيبراني (14). توسُّع يوافق احتمالات واسعة بنمو سوق الأمن السيبراني في العالم من 122 بليون دولار عام 2015 إلى 200 بليون دولار (15) عام 2021، ويُصاحبه تعاون وثيق بين العناصر السابقة بوحدات الأمن السيبراني والمستثمرين الحاليين داخل إسرائيل للنمو بالاقتصاد عامة، و"بمكانة إسرائيل في مجال الأمن السيبراني خاصة" (16).

 

"السماء هي الحدّ"، يبدو المثال الأكثر قُربا لما عليه الأمر بين جدران الوحدة 8200 وما يتبعها، من مجندين أولا، ومستثمرين أو مخترعين ومبتكرين فيما بعد. "إسرائيل أولا" هو الشعار الذي يحمله هؤلاء الجنود داخل الكيان المحتل والممثلون له في الخارج، وحدة متصلة تجمع سلسلة متكاملة من التفاعلات، تبدأ من إعداد مجموعة من المراهقين لغزو العالم، دون أي حدود، وتنتهي بمليارات الدولارات يضخها هؤلاء المراهقون شُبانا وفتيات في بُنيان الاقتصاد الإسرائيلي، وبشركات تقنية تضع إسرائيل بوصفها واجهة جديدة لعالم شعاره "التكنولوجيا أولا".

المصدر : الجزيرة